لحم تقدسه، أو تُحرمه، أو تأكله: الطعام مدخلًا لفهم الدين
في كتابها «أنثروبولوجيا الطعام والجسد»، تقول أستاذة الأنثروبولوجيا الأمريكية «كارول كونيهان» إن الطعام كاللوح الزجاجي الذي يمتص الضوء ويحلله، الطعام يمتص مجموعة من الظواهر الاجتماعية ويعكسها.
الدين يؤثر في الطعام الذي نأكله، والطعام بدوره طريقة ملموسة وواضحة لدراسة الأديان. الدين يحدد كيف ننظم مأدبة وكيف نصوم. في كل دين هناك طقوس دينية غذائية ورموز وأعياد تتضمن الأكل. العادات الغذائية اليومية تحددها الأديان.
كل ديانة لديها سلسلة محظورات غذائية. القصة المشهورة لهبوط آدم من الجنة تُرجِع السبب إلى تناوله تفاحة من الشجرة المحرمة. بعدها، يُستخدَم الطعام جزءًا من العقوبة والجزاء. في القرآن، عاقب الله بني إسرائيل بالطعام: «فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أُحِلَّت لهم». بينما يشير الإنجيل إلى أنه «ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم، هذا ما ينجس الإنسان».
تقول الأسطورة إن الرب أعطى لكل آدمي كأسًا فارغة من الصلصال، انهمر الماء على رؤوس جميع الناس، لكن لم تمتلئ كل الكؤوس بالطريقة ذاتها. المعنى أنك إن حاولت أن تعرف لماذا بدأ تقديس البقر وتحريم الخنزير، ففي الغالب لن تعرف. لكن يمكنك أن تشاهد اختلافات الطعام بين البشر وتستمع أو تتعجب.
مسلم، مسيحي، يهودي: ما تفعله الأديان السماوية في الطعام
«لا تَطبخ جَديًا بلبن أمه» - سِفر الخروج.
في القرآن نجد «فاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة»، بينما «الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع»، كل هذا حرام.
الطعام الإسلامي يأتي على هيئة مأدبة: «كُلوا واشربوا ولا تسرفوا»، ووعدُ الله المؤمنين بالجنة يتضمن مآدب وولائم لا تنتهي: «كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية»، و«كلوا واشربوا هنيئًا بما كنتم تعملون».
تحظر التوراة تناول اللحم والحليب معًا، وحتى في المطبخ يُفصَلان.
على عكس الشخصية الإسلامية المحبة للطعام، تأتي الشخصية المسيحية الزاهدة فيه: «ليس ملكوت الله أكلًا وشربًا، بل هو بِرٌّ وسلام وفرح في الروح القدس».
تختلف قواعد الطعام في كل طائفة مسيحية عن الأخرى. لكن لو أمكن تصوير الشخصية المسيحية في صورة طعام، سيكون بالتأكيد الأكل الصيامي الذي لا يحتوي على البيض والدجاج واللحوم ومشتقات الألبان والجبن، وفقًا لما يورده شارل عقل في كتاب «غذاء القبطي»، فالأكل الصيامي «يشبه كثيرًا الشخصية المسيحية الزاهدة المتقشفة».
الشخصية المسيحية بَحرية تحب الأسماك، ويُروى أن المسيح تناول سمكًا مع تلاميذه بعد قيامته. وفي العصور الأولى للمسيحية وقت الاضطهاد من الوثنيين، كان المسيحيون يتعرَّفون إلى بعضهم برسم إشارة السمكة.
ربما يكون الطعام أيضًا مدخلًا لترك الدين. لم يقتنع شارل عقل بأن الطريق إلى الله لا بد أن يكون بالتخلي عن شهي الطعام، ولم يستطع أن يجد «رابطًا بين تهذيب الجسد بهذه الطريقة، وأن تكون إنسانًا جيدًا يستحق ملكوت السماوات».
الطعام في اليهودية ينقسم أيضًا إلى حلال وحرام، «كشروت» و«طريفة». يأكل اليهودي الكشروت الحلال مثلما يفعل المسلمون، لكن الحيوان الذي يأكله اليهودي يجب أن يكون ذا حافر، وتُمنَع الأرانب البرية والجِمال، أما الأسماك، فلابد من أن تكون لها زعانف وحراشف، بينما المحار والسرطان حرام، وكذلك الطيور الجارحة والخنزير مثل الإسلام.
تحظر التوراة تناول اللحم والحليب معًا، وحتى في المطبخ يُفصَلان. وتتبع اليهودية نفس طريقة الإسلام في الذبح، بأن يكون نصل السكين حادًّا، وتُصفَّى دماء الذبيحة.
البقرة المقدسة: الطعام عند الهندوس والبوذيين
«صورة المُزارع الهندي الذي يكاد يموت جوعًا، الجالس بجانب بقرة سمينة، تُسرِّب شعورًا مدغدِغًا بالغموض لدى المتلقين الغربيين» - من كتاب «مقدسات ومحرمات وحروب» لعالم الأنثروبولوجيا الأمريكي «مارفن هاريس».
الهندوسي الراديكالي نباتي لا يأكل اللحم. لكن هناك هندوسًا يأكلون اللحم، وهؤلاء يحرصون على أن تجري عملية الذبح بطريقة معينة تسمى «جاتكا»، وتعني الذبح مرة واحدة بحركة فجائية كي لا يعاني الحيوان.
«الرجفيدا»، أقدَم النصوص الهندوسية، لا يميِّز أطعمة بعينها بالتحريم، لكنه في الوقت ذاته يوصى بعدم إيذاء أي كائن حي.
الطعام عند البوذيين ليس غذاءً، بل فلسفة حياة.
إطعام الرب جوهر الديانة الهندوسية، ويعتقد الهندوسيون أن الإله «كريشنا» (الهندوسية ليس لها إله واحد) يقبل الطعام ويقدِّسه، الطعام الجيد بالطبع. ما يقبله الرب يُسمى «برازادام» أي الرحمة، وتُطلق أيضًا على أكل المسلمين الذي يُوزَّع في المقابر. هنا يتحول الطعام من الصورة المادية إلى الروحانية، يتحول إلى «بارازادام» عندما يقبله الرب، شريطة أن يكون طيبًا، لأن الرب طيب لا يقبل إلا الطيب، وستعرف دليل قبوله عندما تتذوقه.
«البرازادم» يدمِّر كل الذنوب، لذا بعد أكله تشعر بالابتهاج. يقول كريشنا: «أتقبَّل الإخلاص إذا قدم المحب إليَّ زهرة أو ورقة أو فاكهة أو ماء، سوف أتقبلها». ويُقدَّم الطعام للرب قبل أكله، لأنه يعادل الطاقة السلبية الموجودة فيه ويصبح نقيًّا، وبالتبعية من يأكله.
نُظُم الطعام الديني قد تكون أداة تمييز طبقي أيضًا. النظام الهندوسي مثلًا يُحدد من يطبخ لمن، ومن يستطيع أن يأكل مع من، فنجد «البراهمان» (الروح الفائقة، الطائفة العليا من الهندوس، ومنهم الكهنة) تحافظ على نقاء طعامها بمنع الطبقة السفلى من لمسه. ولا يأكلون طعامًا أعده شخص ثمل أو غاضب، ولا امرأة أجرت عملية إجهاض، ولا حائض، وكذلك الطعام الذي لمسه كلب.
في البوذية، الطعام ليس غذاءً، بل فلسفة حياة، وتختلف طقوس تناوله باختلاف الطائفة والمدينة.
البوذية ترى الأحياء مقدسين. البوذي نباتي لا يستهلك منتجات الألبان، لأنه يؤمن بأن بوذا تمثَّل في هيئة حيوان في حيوات سابقة، قبل أن يتحول إلى صورة إنسان. البوذية تترجم العنف ضد الحيوان إلى إمكانية حدوث عنف ضد الإنسان أيضًا. البوذية والهندوسية يعتقدان في «الكارما»، بمعنى أن أي أذى تفعله سيُردُّ إليك، ولو في حياة أخرى.
بعض البوذيون يتجنبون اللحوم ومنتجات الألبان، وبعضهم يتجنب اللحوم فقط، إضافةً إلى الكحول. الرهبان يصومون في أوقات الظهيرة، ويعتمدون في الأكل على العطايا، لأنه غير مسموح لهم بالزراعة أو التخزين أو طبخ الطعام.
الامتناع عن أكل الحيوانات يختلف من منطقة إلى أخرى. فقد يُمنَع أكل السرطان البحري في منطقة ما، بينما تعتمد منطقة أخرى على الأسماك بشكل أساسي. ويعتقد الهندوسي أن الكحول والبصل الأخضر والبصل والثوم يسببون الغضب، لذلك يمتنع عن تناولها.
الطعام: الطقس، والرمز، والخرافة
تكمن قوة الرمز في أنه يربطنا بالمقدس. الكبش في الإسلام، الأسماك في المسيحية، السمن في الهندوسية. المحبون المسيحيون يشربون النبيذ والخبز، لأنه قال: «اصنعوا هذا لذكري». في البوذية يُستخدَم السمن الحيواني في الشموع المقدسة التي تقدم إلى الإله، ويعتمد هذا الطقس على أسطورة أن الخالق الأعظم (Prajapati) فرَكَ يديه وصبَّ السمن في النار، ثم خلق ذريته.
يمكن الاكتفاء بتحريم الخنزير لأنه محرم، لا حاجة لتفسير آخر.
يتساءل مارفن هاريس عن سبب عقلاني لتقديس الهندوس للبقر، وتحريم المسلمين واليهود للخنازير، وتحريم شعب «التابيرابي» (قبيلة برازيلية) لحم الغزال. الأساطير تكلف كثيرًا من الجهد. حُبُّ الهندوس للبقر يكلف كثيرًا بشكل يهدد الإنسان نفسه، يؤثر في الاقتصاد، يهدد الأطفال بالجوع. 52% من أطفال الهند تحت سن السادسة أقل من الوزن الطبيعي، لأنهم يُحرَمون من الألبان والبيض.
العلاقة المعقدة مع الأبقار سلبت البشر حياتهم. هناك تاريخ كبير من التوتر والعنف بين من يحمون الأبقار وآكلي الأبقار. ومنذ عام 2010 حتى 2017، قتَل ناشطو الدفاع عن الأبقار 28 شخصًا على الأقل كانوا قد خططوا لقتل الأبقار.
في فيلم «Pulp Fiction»، يقول صامويل جاكسون لجون ترافولتا: «أنا لا آكل الخنازير، لا آكل حيوانًا قذرًا يتغذى على فضلاته». فيرد ترافولتا بأن الكلب أيضًا يأكل فضلاته: «فهل تدعوه قذرًا؟».
لكن جاكسون لا يعرف أن حيوانات أخرى، مثل الأرانب، تفعل شيئًا مشابهًا، لكنها لا تلقى كل هذه الكراهية التاريخية.
كتب موسى بن ميمون، طبيب بلاط صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر، إن الرب قصد من وراء حظر لحم الخنزير تطبيق نظام صحي شعبي، لأن له تأثيرًا ضارًّا وسيئًا في الجسم.
تحريم اليهودية والإسلام للخنزير جعل الناس تصطنع أساطير حول ذلك الحيوان، أبسطها أنه قذر، وهي كلمة غير مفهومة علميًّا. هناك حيوان صحيح وآخر مريض. حيوانات كثيرة تعمل وسيطًا لنقل الأمراض إلى الإنسان، ولا نرى أنها قذرة، وشعوب العالم تأكل لحم الخنزير بسعادة ولا تمرض، ناهيك بالشعوب التي تقدسه، مثلما في بابوا غينيا الجديدة والجزر الميلانيزية في المحيط الهادي. يمكن الاكتفاء بأن الخنزير حرام لأنه محرم، لا حاجة لتفسير آخر.
ميرهان فؤاد