الأكل كبطاقة هويّة: كيف تحوَّلنا إلى وصفات مطبوخة في قدور العالم
في بدايات القرن السابع عشر، في جزر الكاريبي، كان من المعتاد أن يتم تعميد العبيد الأفارقة قبل أن يتم ترحيلهم من أفريقيا. هذا التقليد الذي أسسه الملك فيليب الثالث ملك إسبانيا، كان واحدًا من محاولات عدة لطمس هويّة هؤلاء «العبيد» وضمان ولائهم. هؤلاء الأفارقة الذين منعتهم مكانتهم الاجتماعية المتدنية من إبداء أية مقاومة لحِفظ هويتهم المسلوبة، بعد تجريد الأسياد لهم من أسمائهم واستبدالها بمجموعة من الأرقام، لم يكن لديهم سوى ما يقدمونه للأسياد من طعام يَحتفظ بالطابع الإفريقي؛ لابتكار وسيلة تعكس انتماءاتهم وأصولهم، الأمر الذي عجزت شهيّة الأسياد عن مقاومته.
وجبة ساخنة للسيد هي ضمانة الواحد منا للبقاء يومًا آخر في هذا العالم. هذا ما فكّر فيه هؤلاء الأفارقة حينما شرعوا بالطهي. هذا ما حثّهم على الابتكار أصلًا. أما ما لم يدركوه أن تلك الوجبة الساخنة كانت عاملًا أساسيًا في حفظ واحدة من أقدم الحضارات البشرية وأكثرها أصالة من الاندثار.، السيناريو الذي تكرر فيما بعد بتنويعات مختلفة على مر التاريخ، مثل سيادة المطبخ العربي على الثقافة الإسبانية واستمرار شعبيته حتى بعد سقوط دولة الأندلس، أو تصدير المطبخ الآسيوي لدول الخليج العربي مع العمالة الهندية والفلبينية.
النماذج السابقة ما هي إلا نتاج لعلاقة معقّدة بين الإنسان وما يأكله تحوّل خلالها الطعام من غريزة إشباع إلى عنصر مؤسس في تكوين الإنسان نفسه وتشكيل هويّته. علاقة مثل تلك لم تكن وليدة الأمس، بل تكوّنت على المدى الطويل بتأثير عدة عوامل، تشابك فيها الدين والسلطة معًا وتضافرا لمواكبة تطور الإنسان، بدايةً من إفلاته من قائمة السلسلة الغذائية وحتى تحوّل كامل وجوده إلى وصفة مُعدّة بعناية داخل مطبخ العالم.
الإنسان: أقدم وجبة على مائدة العشاء
في البدء ظهر الإنسان، وظهرت حاجته إلى الغذاء؛ فمن قبل نشأة المجتمعات وانقسامها لحضارات وثقافات مختلفة، كانت الحاجة للغذاء هي المحرك الأساسي الذي يدفع الإنسان للنهوض من نومه صباحًا. في هذا الإطار، يمكن فهم ارتباط سلوك الأكل بالإنسان، وبالتالي، كون هذا السلوك أحد أقدم العوامل المحددة لهويّته.
وعلى ذكر البدايات، فإن واحدة من أقدم وجبات الإنسان الغذائية، كانت الإنسان نفسه؛ ففي حقبة لم يكن للهرم الغذائي وجود فيها بعد، كل شيء كان يعتبر صالحًا للأكل. الأمر الذي قد هدد وجود الإنسان القديم، مما دفعه لتعلّم الزراعة بعد اكتشافه النار؛ كي يتمكن من الإفلات من السلسلة الغذائية عن طريق تنويع محتويات قائمة طعامه.
على عكس جميع المخلوقات التي تمارس فعل الأكل فقط للبقاء على قيد الحياة، الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي لم يكتفِ بأكل ما يجده في صورته الخام.
وعلى عكس جميع المخلوقات التي تمارس فعل الأكل فقط للبقاء على قيد الحياة، الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي لم يكتفِ بأكل ما يجده في صورته الخام، وإنما لجأ لابتكار طرق متعددة لطهيه. وكلما تعددت وصفاته، زادت مهاراته الحرفية في ابتكار آنية ليأكل فيها ما قد قام بطهيه. ليست مبالغة إذًا لو اعتبرنا أن تطور علاقة الإنسان بفعل غريزي مثل الأكل هو الأساس الذي قامت عليه حضارات كاملة.
ومع ذلك، رغم تعدد السمات التي تميّز بها الإنسان، بدءًا من نجاته من أن يصبح هو نفسه وجبة طعام، وصولًا لتعلّمه الزراعة والحصاد، إلا أن هذا التفرّد لم يكن كافيا فيما يبدو، فمع تميز البشر عن الحيوانات، ظهرت الحاجة إلى تمّيزهم عن بعضهم كجماعات، وبخاصة مع ظهور بعض العوامل التي بدأت في التمييز فيما بينهم، مثل ظهور الأديان.
الدين: خطيئة آدم الأولى وعشاء عيسى الأخير
هل سبق لك أن لاحظت أن التفاحة المسمومة التي قدمتها الساحرة لسنو وايت لخداعها هي ذاتها التفاحة التي خدع بها الشيطان آدم وحوّاء لِغوايتهما وإخراجِهما من الجنة في الموروث الديني؟ أو أن فتات الخبز التي تركها هانسل وغريتل في طريق الغابة لترشدهما تتقاطع بشكل كبير مع رمزية الخبز الذي يمثل جسد عيسى في الموروث المسيحي؟
ليس هذا غريبًا، فالخيال يستقي نفسه دومًا من المرجعيات الموروثة التي نشأ عليها الفرد، والتي تشكل جزءًا جوهريًا من وعيه وإدراكه. بمعنى آخر، فقد اعتمدت كل الأديان استخدام الطعام ليس فقط لترغيب الإنسان (بأشجار الفاكهة وأنهار العسل في الجنة)، ولكن أيضًا لتقديم رموز ومعانٍ روحية سامية يمكن للإنسان التماهي معها. الأوامر تلك التي يقوم الإنسان بطاعتها من منطلق روحاني وعقائدي هي ما يستقر في وعيه في نهاية الأمر. ومهما تغيّرت قناعاته بعد ذلك، ستظل الشاة رمزًا للتضحية بالنسبة للمسلمين، بينما تظل البقرة رمزًا مقدسًا للهندوس، فيما تبقى التفاحة وسيلة غواية في نظر الجميع.
تتحكم كل ديانة في تشكيل جزء من هويّة الأفراد المنتمين إليها عن طريق التحكم فيما يأكل الإنسان ومتى يأكله.
لا يتوقف تداخل الأديان مع الطعام عند هذا الحد، بل تتحكم كل ديانة في تشكيل جزء من هويّة الأفراد المنتمين إليها عن طريق التحكم فيما يأكل الإنسان ومتى يأكله، وهي اختيارات تختلف بالطبع من ديانة لأخرى. فعلى سبيل المثال؛ تحرّم الهندوسية أكل الأبقار، بينما يحرّم الإسلام الخنازير. وعلى الرغم من أن موقف التحريم واحد في الحالتين، ونتيجته الظاهرية واحدة، وهي الامتناع عن أكل حيوان ما، إلا أن الفرق شاسع في مسببات التحريم؛ إذ تبدأ بالتقديس التام للأبقار في الهندوسية وتصل إلى التدنيس المطلق للخنازير في الإسلام. وعلى نحو آخر، في الوقت الذي يتم فيه اعتبار النبيذ رمزًا لدم المسيح في القربان المقدس بالديانة المسيحية، يتم تحريمه في الإسلام على نحوٍ قاطع؛ نظرًا لكونه من المسكرات.
اختلافات تبدو في ظاهرها بسيطة مثل تلك هي المسؤولة عن تحوّل اختيارات مأكلك وشرابك، من مجرد تفضيلات شخصية تعبّر عنك إلى اختيارات تشكّل هويتك وتحدد من ستكون وما هي انتماءاتك. اختلافات تبدو في ظاهرها بسيطة مثل تلك هي التي تضفي المكانة التي يحتلها الطعام في حياتنا، ليتحول من سلوك يشترك فيه كل البشر إلى فعل ارتقائي تمارسه المجتمعات بطرق متنوعة لإثبات تفرّدها عقائديًا، ومجتمعيًا، وشخصيًا قبل أي شيء.
السُلطة: كيف نجحت حبة بهارات في تشكيل العالم كما نعرفه اليوم؟
هذه حكاية سياسية تراكمية من المقام الأول!
كانت التوابل الهندية هي ما ألهم التاجر الإيطالي «كريستوفر كولومبس» للإبحار نحو الغرب أملًا في الوصول إلى الهند. آنذاك، لم يكن العالم قد وضع ملامح خريطته بعد. ما نعرفه الآن هو أن كولومبس لم يجد الهند غربًا. في المقابل، فقد اكتشف أرضًا جديدة، وبالطبع لا تحتوي التوابل الهندية، الهدف الأساسي من رحلته. أما ما لم يدركه التاجر الإيطالي وقتها فهو أن رحلته التجارية الميؤوس منها قد مهدت له، وللعالم كله، السبيل لاكتشاف الأمريكتين، والتي ستصبح واحدة منهم أكبر قوة رأسمالية تحكم العالم فيما بعد.
على غرار كولومبس، بحث «فاسكو دي غاما» عن التوابل الهندية أيضًا، ولكن بطريقة مختلفة: الإبحار حول قارة إفريقيا من ناحية الجنوب. الوسيلة التي لم تضمن له النجاح في الوصول إلى الهند فقط، ولكنها أيضًا أسست لنظام التجارة عبر المحيطات باستخدام طريق رأس الرجاء الصالح الذي اكتشفه دي غاما. التجارة التي أدت لانهيار دولة المماليك في مصر لتردّيها اقتصاديًا هي ذاتها التي أدت لقيام الإمبراطوريات الأوروبية، واستيطان الأمريكتين، وتجارة العبيد من أفارقة سود لسكّان أصليين. سلسلة من الأحداث بالغة الأثر أدت لإعادة هيكلة التاريخ، وبالتالي تشكيل العالم كما نعرفه الآن. كل هذا من رحلتي بحث عن مجموعة من التوابل غير ضرورية على الإطلاق وأهميتها الوحيدة أنها تؤمِّن وجاهة تليق بمستخدميها من ذوي المكانة الاجتماعية المرموقة في أوروبا.
على الجانب الآخر، فإن طريق رأس الرجاء الذي اكتشفه دي غاما، هو ما ساعد مستوطني أمريكا في الحرب الثورية عام 1775 في معركتهم للاستقلال عن بريطانيا؛ فمع إحكام مستوطني أمريكا سيطرتهم عليه، وقطع الطريق تمامًا للعبور جنوبًا حول إفريقيا عبر المحيط الاطلسي، عجزت الإمبراطورية البريطانية، أعتى وأقوى إمبراطورية في تلك الفترة، عن سد حاجة جنودها في القارة الأمريكية من الغذاء. البديل المتاح وقتها كان الدوران حول قارة أفريقيا شمالًا لإرسال الإمدادات الشهرية للجنود، وهو أمر مستحيل منطقيًا، عوضًا عن أنه كان ليكلّف الامبراطورية خسائر اقتصادية قد تؤدي لانهيارها.
هزيمة الإمبراطورية البريطانية بسبب الغذاء كانت الحافز الأساسي الذي ألهم نابليون بونابرت لاحقًا في جميع حملاته لإنجاحها. رأى بونابرت أن أفضل فترة لشن حملاته هي عقب موسم الحصاد، كي يسهل على الجنود تجريد أهل البلدة التي يغزونها من محصولها الأساسي، بهدف إضعافها اقتصاديًا من جهة، ولضمان تأمين غذاء جيوشه وقت الحرب من جهة أخرى. هذه الخطة ضمنت لنابليون نجاح حملاته في أوروبا، بالطبع قبل هزيمته الكبرى في حملته لغزو روسيا التي قرر قادتها تجريد الريف من جميع محاصيله، وبالتالي تعريض الشعب للجوع، في مقابل ألا يجد الجيش الفرنسي حبة قمح واحدة تؤمن غذاءه وقت الحرب. النتيجة كانت وفاة 400 ألف جندي فرنسي بسبب الجوع.
الجوع الذي أنقذ دولة روسيا من الغزو الفرنسي على يد نابليون مرة هو ما تسبب في هزيمتها في الحرب الباردة فيما بعد.
الجوع الذي أنقذ دولة روسيا من الغزو الفرنسي على يد نابليون مرة هو ما تسبب في هزيمتها في الحرب الباردة فيما بعد. فمن تحت غطاء الشيوعية وشعارات المساواة، اعتمد الزعيم الروسي ستالين سياسة تجويع شعب بأكمله في مقابل تصدير محصول الدولة من القمح كاملًا، وتمويل الصناعات بالدخل العائد، الأمر الذي تسبب في أشرس مجاعة عرفها التاريخ، عجزت فيها الهوّية الشيوعية أن تصمد أمام غريزة الجوع، لينهار الاتحاد السوفييتي وتصبح الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم. أو ما معناه: مجاعة أقامت دولة، ومجاعة أطاحت بها.
صحيح أن سياسة تجويع مثل التي اتبعها ستالين قد نجحت في تعديل اختيارات مأكل متبعي الفكر الشيوعي فيما بعد، لتتحول نحو الأطعمة الأبسط والأكثر اقتصادية، إلا أن جيشه الجائع لم يفلح في الصمود في حربه أمام نظام رأسمالي الطابع. صراع أيدولوچي مثل هذا كان من شأنه أن يحتدم ويتصاعد ليتبلور في نهاية الحرب في شكل حائط يقسم أوروبا بين أوروبا شرقية شيوعية وأخرى غربية رأسمالية. نقصد بالطبع سور برلين الذي كان من شأنه إحداث تباين واسع بين الشعب الألماني، لتتحول برلين الشرقية خلال عام واحد لدولة فقيرة يعتمد شعبها أساسًا على النشويات في غذائه، فيما تحولت برلين الغربية في العام ذاته إلى مرآة تمزج بين ثقافات بريطانيا والولايات المتحدة: ألبسة فاخرة ومطاعم بيتزا في كل مكان.
من العسير تصديق أن حبة بهارات واحدة قادرة على إحداث كل هذه الآثار التراكمية من قيام وانهيار حضارات كاملة، ولكن حقيقة الأمر أن حبة البهارات تلك التي فتّش عنها كولومبس، هي السبب في رسم خريطة العالم كما نعرفها نحن، وهي السبب في تدرج الإنسان على مر التاريخ فوق مقياس يتأرجح بين الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية. ومثلما كان الدافع وراء التفتيش عن التوابل الهندية دافعًا تجاريًا رأسماليًا، كان لابد أن ينحاز سكان برلين الشرقية الجائعين نحو الغذاء، ليسقط جدار برلين، ويصبح اكتشاف كولومبس الرأسمالي أكبر قوة تتحكم في النظام العالمي الآن.
الإنسان مرة أخرى
لا يكف الإنسان عن محاولة إثبات تفرّده؛ فبعد تميزه عن الحيوان بالطهي، وتميز مجتمعه عن المجتمعات المجاورة، سواء بإضافة نكهات مميزة أو بالابتكار في طريقة الأكل نفسها، تحاول كل جماعة اليوم أن تتميز هي الأخرى، فتجد بعض المجتمعات التي تحافظ على قواعد محددة لتناول الطعام على المائدة، أو ما يعرف بالإتيكيت الفرنسي، في حين تلتزم مجتمعات أخرى بالاحتفاظ بموروثاتها القديمة بخصوص استخدام الأيدي في تناول الطعام. ليس هذا فحسب، بل يحاول الإنسان اليوم إثبات تفرده وتفوقه على أقرانه؛ إذ يمكن لكسرة خبز أن تصنّف الإنسان اجتماعيًا حسب لونها: الأبيض للطبقات الراقية والخبز الأسمر للطبقات الفقيرة.
يمكن لكسرة خبز أن تصنّف الإنسان اجتماعيًا حسب لونها: الأبيض للطبقات الراقية والخبز الأسمر للطبقات الفقيرة.
وعلى جانب آخر، اليوم في بريطانيا وحدها، ثمة أكثر من 547 ألف مواطن ممتنع عن تناول اللحوم ومنتجات الألبان.، ومع ظهور انتقادات قد تصل لدرجة التمييز من مجتمعات النباتيين ضد آكلي اللحوم، تثير اختياراتهم التساؤل عن إذا ما كان الهدف منها إنساني نبيل، مثل إنقاذ الحيوانات من السلسلة الغذائية، بعد أن نجح الإنسان نفسه من الإفلات منها في الحقبات الأولى، أم أنه مجرد تصرّف جديد يحاول من خلاله البشر أن يتفوقوا على أقرانهم، إنسانًا لإنسان، بعد نجاحهم في التميز مجتمعًا لمجتمع وجماعة لجماعة أخرى.
من السهل إدراك أن هناك درجة من وعي الإنسان بكون الطعام أكثر من مجرد وسيلة للإشباع؛ فالإنسان، الذي نجا من مجاعات وكوارث أجبرته على تعديل نظامه الغذائي مرات عدة، قد أصبح على وعي تام بأن ما يأكله صار يشكل الآن جزءًا من بنية هويّته، وطبقته الاجتماعية، واختلافه الثقافي. النتيجة التي نشهدها اليوم هي تحوّل مصطلحات مُجرَّدة مثل الهويّة إلى وصفة طعام، بل تحوُّل الإنسان نفسه إلى وصفة طعام؛ فبمقادير متفاوتة من التغييرات الاجتماعية والثقافية التي تطرأ بمعدل يومي، أصبح البشر مجموعة من الوصفات الفردية، شديدة التميّز فيما بينها، بالرغم من أن جميعها قد تم طبخها في إناء مجتمعي واحد.
إسراء مقيدم