الألوان كأداة عنف: البنفسجي يجب أن يحكم
«أنا مدافع عن حقوق الإنسان والعدالة والمساواة، لذا يجب أن يكون نيلسون مانديلا بطلًا بالنسبة إليَّ» - الرسام الأمريكي «شيبرد فيري».
إذا زرتَ مدينة جوهانسبرغ الجنوب إفريقية، اقصد جسر نيلسون مانديلا، وهناك سترى صورته الجدارية باللون البنفسجي بجانب الجسر. رسم الجدارية الفنان الأمريكي «شيبرد فيري» في الذكرى الـ25 لاحتجاجات «المطر البنفسجي»، وفيها ينظر مانديلا مبتسمًا إلى المدينة فخورًا بما وصلت إليه، ومكتوب تحت الصورة «البنفسجي يجب أن يحكم».
لماذا البنفسجي؟ إنه لون الصبغة التي كانت تستخدمها قوات الشرطة لفض احتجاجات السود ضد الفصل العنصري في عام 1989، من أجل تمييز المتظاهرين والتعرف عليهم لاحقًا، ومن ثَمَّ اعتقالهم.
تحوَّل شعار «البنفسجي يجب أن يحكم» إلى أيقونة في مجتمع جنوب إفريقيا، لما يعبِّر عنه من نضال الشعب ضد الفصل العنصري، وشكلت هذه الصفحة الدامية منعرجًا مهمًّا في مسار نيلسون مانديلا السياسي، وفي كفاحه ضد سياسة التمييز العنصري، إذ دفع به إلى حد إنهاء فلسفة نبذ العنف، وانتهاج الكفاح المسلح عبر إنشاء الجناح العسكري لـ«المؤتمر الوطني الإفريقي».
المطر البنفسجي
سيطر أحد المتظاهرين في «مظاهرة المطر البنفسجي» على المدفع الذي يطلق الصبغة، ووجهه إلى مقر الحزب الوطني، وصبغه باللون البنفسجي.
منذ عام 1948 حكم نظام «الأبارتيد» جنوب إفريقيا، وتعني أبارتيد في لغة الأفريكانو «النبذ والإقصاء». كان نظام الأبارتيد المؤلَّف من أقلية بيضاء منحدرة من أصول أوروبية يحكم الأغلبية السوداء، وينفذ عمليات قمع وتمييز في الحقوق بين البيض والسود وفق منهج إقصائي يحافظ على المصالح التجارية والاقتصادية التي أسسها البيض في ثلاثة قرون من الاستعمار.
أحكم نظام الأبارتيد سيطرته على دولة جنوب إفريقيا، وحاصر السود بالتضييقات التي فرضتها الحكومة على احتياجاتهم الأساسية من المأكل والمسكن والصحة والمشاركة السياسية، ولاحقت القبضة الأمنية المعارضين من «الحزب الوطني الإفريقي»، الذي قاده نيلسون مانديلا عام 1950 للمطالبة بحقوق السود عن طريق تغيير الدستور وتمثيل السود في البرلمان وإتاحة مجال للمشاركة السياسية. أُلقي القبض على زعماء المعارضة، ومنهم مانديلا، وسيطرت الأحكام العرفية، وحُددت أماكن يتجول فيها السود ولا يخرجون عنها.
قضى شعب جنوب إفريقيا سنوات من النضال السلمي والمسلح ضد النظام العنصري. أسس مانديلا جناحًا عسكريًّا باسم «رمح الأمة» ينال من خلاله مؤسسات الدولة ورموزها، ويفجر محطات الكهرباء والمياه وقواعد الجيش.
كان ختام ذلك الكفاح مظاهرة في كيب تاون في 2 سبتمبر 1989 قبل أربعة أيام من انتخابات البرلمان. احتشد الشعب في مسيرة سلمية نحو مقر البرلمان، وكان في انتظارهم الشرطة بقنابل الغاز المسيل للدموع والكلاب البوليسية، وانطلق جنود مكافحة الشغب بالهراوات والسياط يضربون المعارضين ويعتقلونهم. كانت هناك عربة مصفحة تُطلِق صبغة بنفسجية على المتظاهرين حتى يسهل القبض عليهم بعد تفريق المظاهرات، إلا أن أحد المتظاهرين، ويُدعى «فيليب أيفي»، تمكَّن من السيطرة على المدفع البنفسجي، وبدأ برش جنود الشرطة به، ثم وجهه إلى مقر الحزب الوطني وصبغه باللون البنفسجي.
أُطلِق بعدها على هذه التظاهرة اسم «مظاهرة المطر البنفسجي»، وكانت نقطة تحول في تاريخ جنوب إفريقيا، بعد أعوام من القهر والقمع. كانت تلك المظاهرة هي الأخيرة التي استعملت فيها الحكومة العنف، وجاء على إثرها قرار إطلاق سراح مانديلا بعد 27 عامًا من السجن.
اتفقت الحكومة مع مانديلا على وقف التظاهرات والعنف في مقابل الإفراج عن جميع المعتقَلين، وعودة الأحزاب، وتمثيل السود في البرلمان، وبعد ذلك بأربعة أعوام كان مانديلا رئيسًا لجنوب إفريقيا الديمقراطية الجديدة.
بعد تلك التظاهرات بأسبوع تقريبًا خرج الأسقف «ديسموند توتو» مرتديًا زيًّا بنفسجيًّا، وخلفه عدد من المعارضين، ولكن تلك المرة لم يتعرض لهم أحد، وأصبح بعد ذلك اللون البنفسجي رمزًا لنضال شعب جنوب إفريقيا، ومعبرًا عن إنجازه، وتحول البنفسجي الذي أعده النظام كوسيلة للقمع إلى رمز وأيقونة انتصار الثورة.
الهند باللون البنفسجي
في أغسطس 2013 خرج موظفون حكوميون من مدينة كشمير في مظاهرات مطالبين بحقوق عادلة للعاملين، ووضع سن مناسب للتقاعد، وحد أدنى للأجور مناسب للمستوى المعيشي للفرد.
لكن سرعان ما هاجمت قوات الأمن المركزي المتظاهرين، وأطلقت صبغة بنفسجية اللون لفض المظاهرة وإلقاء القبض على أفرادها في الطُرقات. وذكرت التقارير أن 20 موظفًا قبضت عليهم قوات الأمن في تلك التظاهرات.
فلسطين باللون الأزرق
بعد ظهر يوم جمعة في أغسطس 2004، خرج عشرات الفلسطينيين من قرية بلعين، إلى جانب ناشطين إسرائيليين ودوليين، نحو موقع الجدار العازل الإسرائيلي على أراضي القرية احتجاجًا على التدنيس، وهجمات المستوطنين والجنود الإسرائيليين على المواقع المقدسة.
شملت هذه الهجمات مسيرات مسلحة إلى المسجد الأقصى نفذها مستوطنون وجنود، إضافةً إلى تشويه عدد من الكنائس المسيحية على أيدي مهاجمين إسرائيليين.
واجهت القوات الإسرائيلية هذه التظاهرة بالأعيرة المعدنية المغلفة بالمطاط والغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت، وبالطبع، أطلقت على الفلسطينيين صبغة زرقاء لكي تتمكن من القبض عليهم بعد ذلك.
الألوان: عنف من نوع خاص
دائمًا ما تتحول أدوات العنف، التي يعتقد المستبد أنها ستطور قدراته على السيطرة، إلى أيقونة انتصار.
يقول «سِيد هيل»، القائد المتقاعد في قسم شرطة لوس أنجلوس ومستشار مكافحة الشغب، إن استخدام الصبغة الحمراء ليس الأفضل لأنها تُرى كأنها دماء، بينما يجب تزويد الأصباغ برذاذ الفلفل وصنع مقذوفات متطورة لها، وهكذا تكون طريقة فعالة في القبض على المشاغبين.
يتفق معه «ماكي هابرفيلد»، رئيس قسم القانون وعلوم الشرطة وإدارة العدالة الجنائية في كلية جون جاي للعدالة الجنائية في نيويورك، قائلًا إن فكرة الأصباغ في مدافع المياه طريقة رخيصة نسبيًّا وغير عنيفة، يمكن بها تحديد واحتجاز مثيري الشغب بعد تفريق الحشود وردع المتظاهرين بسهولة.
يمكننا من تلك العبارات أن نرى احتياج السلطة إلى عنف غير مادي، عنف يكون من السهل إخفاؤه واستحداث طُرق جديدة له. فبدلًا من ضرب المتظاهرين بقنابل الغاز، أو تفريقهم بالعنف، يمكننا أن نعمل على تلوينهم لكي نتمكن من القبض عليهم بسهولة، وتعد هذه أداة حميدة في التعامل مع المتظاهرين، وطريقة عنف لطيف بالنسبة إلى الضحايا أنفسهم.
وقد أطلق «بيير بورديو» مصطلح «العنف الرمزي» على كل عنف لا يمكن تجريمه، لأنه ليس عنفًا جسديًّا يمكن قبوله وعدم مقاومته، أو إلقاء اللوم على الحكومة في استخدامه، بل يمكن أن يندرج تحت التعامل الإنساني مع المواطنين.
يشكل هذا العنف أيضًا خيالًا للمواطنين غير المعارضين للنظام، وذلك بإعطاء صبغة للمعارضين ليُنظَر إليهم على أنهم فئة خطيرة يجب الابتعاد عنها وتجنبها، وهذا التجنب سيكون بالتجاهل والابتعاد عنهم حتى لا تلتصق بمن يقترب منهم التهمة/الصبغة، ويصبح تحت طائلة القانون.
إسلام كرّار