هل تطالب النسوية بحقوق النساء أم بالعدالة بين الجنسين؟
مرت عقود طويلة على وجود النسوية كحراك سياسي وفكري في البلدان الناطقة بالعربية، والتي عرفت أوجها الثوري في آخر عشر سنوات، إذ استطاعت عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن تفرض نفسها كقوة سياسية وفكرية تتحدى النظام القائم، وكخطاب ثوري يهدف لمساءلة البنى السياسية والاجتماعية والثقافية والقيمية التي تُبقي على خضوع النساء والأنواع الجندرية وتفكيكها.
هذه معركة طويلة النفس، نظرًا للحصار السياسي الذي تفرضه الأنظمة السياسية والعسكرية على الفضاءات العامة، وتحكُّمها في الوعي الشعبي عبر وسائطها السلطوية المتعددة. تصطدم الخطابات النسوية بالبنى الذكورية التي تقاوم كسرها للسلطات والقيم التي تُنتج التمييز واللاعدالة، وبالخطابات الرافضة لأي تغيير في هذا الوضع، إذ نسمع باستمرار العديد من الاتهامات الموجهة إلى الحراكات النسوية في المنطقة، منها أنها متحيزة ضد الرجال وتسعى لجعل النساء جنسًا مسيطرًا، وعدم اعتبارها للجنسين.
يضع هذا الحركة النسوية المحلية والإقليمية أمام تحدي إعادة هيكلة الحركة باستمرار، من خلال التعليم القاعدي والشعبي وتقديم تعريفات مبسطة وواضحة عن النسوية، لمواجهة الأفكار المغلوطة والدعايات المضادة التي تمررها الأنظمة المستفيدة من بقاء التراتبيات الجندرية والطبقية والعنصرية في المجتمعات.
لماذا ترتبط النسوية في المخيال الاجتماعي بالخوف؟
تأتي هذه التنميطات والانطباعات غالبًا رفقة حزمة من التفسيرات النابعة من قلب النظام الأبوي، مثل أنها تهدف إلى إلغاء الرجال وتهديد الروابط الاجتماعية، وصولًا إلى ربطها بتهم العمالة والمؤامرات الخارجية.
وترتبط هذه التصورات والمخاوف بعدة عوامل، منها نوع المنظومة القيمية والسلطوية التي تشكل وعي الأفراد، ونوع الفضاء العمومي الذي تقدم فيه الأفكار النسوية.
تصوَّر النسويات وفق هذه التمثلات بأنهن كارهات للرجال ويسعين لتحييدهم من المجتمع، وآراء أكثر غرابة تقول بأنهن يردن إبادة الرجال واستعبادهم. وقد تفهم المتفحصة لهذه الآراء من أين تأتي، فالمنظومة التي تبسط هيمنتها على وعي الأفراد بغض النظر عن نوعهم الاجتماعي، هي منظومة أبوية تستفيد من وجود هرميات وتراتبيات بين فئات المجتمع، بل وتغذيها عبر العديد من الوسائط الرسمية كالمدرسة والإعلام والمؤسسات، ووسائط غير رسمية مثل التحكم في القيم والأفكار والمساحات العمومية وتشكيلها وفق مصالح الطبقات المهيمنة.
يضعنا هذا أمام معضلة، فكيف يمكن أن يوجد عالم بدون هيمنة فئة على فئة؟ كيف للمجتمعات أن تستمر دون هذه الهرميات؟ كيف يمكن للنساء والرجال والأنواع الاجتماعية المختلفة العيش في بيئة عادلة دون أن يترأس أحد الآخر؟
لا يمكننا تفكيك هذه التصورات إذًا دون إرجاعها لتاريخ الأفراد والبيئة التي ينشأون فيها، ونوع التعليم الذي يتلقونه ويشكل رؤيتهم للعالم وأنفسهم. فالبنية التعليمية مثلًا تلعب بين عدة مؤسسات أخرى دور الوسيط الأيديولوجي الذي تعتمد عليه الأنظمة القائمة في تشكيل وعي الأفراد حول العالم الاجتماعي والنظام السياسي والاقتصادي.
نجد أن المناهج التي يتلقاها الطلاب في المنطقة الناطقة بالعربية مؤسسة على أفكار ذكورية، تعيد اجترار نفس التنميطات العنيفة عن النساء والأنواع الجندرية. وهي كذلك تلغي أي فرصة لنمو التفكير النقدي لدى التلاميذ لمساعدتهم على قراءة الواقع ومساءلته، بل على العكس، تعمل المدرسة والجامعة كما يبين الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير كجهاز أيديولوجي للطبقة المهيمنة، حيث يتشرب الدارس جملة من الأفكار تمثل قواعد النظام المؤسَّس على سيادة الطبقة الحاكمة.
وهذا يعني أن الفرد يمر عبر مراحله الدراسية برقابة مؤسسية تمنع أي استيعاب لأفكار خارج تلك التي تضمن سير النظام كما هو، بما فيه النظام الأبوي. فمجال التعليم يشكل الأداة الرقابية التي تفرض بحسب البروفيسور الهولندي فان دايك في كتابه «الخطاب والسلطة»، «قيودًا عامة على الآراء الاجتماعية والسياسية الأكثر راديكالية، لتجنب القضايا "المثيرة للجدل" التي تتعارض مع الأيديولوجيات الاجتماعية والسياسية المهيمنة».
من ناحية أخرى، نجد أن الفضاء العمومي سواء الواقعي أو الافتراضي يَعرف هو الآخر قمعية ممنهجة تمنع حرية التعبير والتنظيم السياسي، وتتحكم في المحتوى الإعلامي ووصول المعلومات.
هذا أدى إلى تقويض فرص الحركات النسوية الصاعدة في توصيل مبادئ وسياسات الفكر النسوي للشرائح القاعدية، وهو ما نتج عنه تضارب في الآراء تغلب عليه النزعة الذكورية المضادة والأفكار المغلوطة، وسيادة مشاعر الخوف والتنميطات حيال الخطابات النسوية.
تصطدم النسوية أيضًا بنوع من الخوف ينبع من تهديد النضال النسوي للامتيازات الذكورية التي تقوم على حساب مصائر النساء وأمنهن وحقوقهن، من خلال السيطرة على الموارد الاقتصادية والتحكم في النظام السياسي الذي تُسن وفقه القوانين التي تحرم النساء من حقوقهن، مثل قوانين الولاية والميراث والحضانة، وعدم تفعيل آليات الحماية من العنف، بل وتشجيعه. هذه الامتيازات كذلك تهدد أمن النساء باستخدام العنف الجنسي والجسدي والنفسي والسيطرة على المجالات العامة والخاصة. لذلك نلاحظ باستمرار لجوء أصحابها لنشر أفكار تقوض وصول النسوية حتى إلى الفئات المعنية بها.
ورغم ذلك، نشهد جهودًا فردية وجماعية لتقريب الفكر النسوي من القواعد الشعبية. فكي يستطيع الجميع المشاركة في التغيير، يجب أن يكونوا قادرين على التعلم من أولئك الذين تمكنوا من تحطيم هذه الصور النمطية. وهنا يأتي دور النسويات في مواجهة هذه البنيات والمستفيدين منها، والوعي بدورها في تعطيل التغيير. فجزء كبير من الاضطهاد الأبوي والأفكار الذكورية يرجع إلى سيادة أيديولوجية ذكورية وطبقية تراهن على تجهيل المجتمعات.
هناك أيضًا فئات واسعة من المتضررات من النظام الأبوي لا يصل لهن الخطاب النسوي، خصوصًا في المناطق المهمشة والمفقرة، وبين الفئات خارج المركزيات المسيطرة التي تصنع تقابلات حتى داخل الحركات النسوية، مثل المدينة مقابل القرية، والطبقات البرجوازية مقابل المفقرة، والعرقيات والإثنيات المهيمنة مقابل المهمشة، والجنسانيات المعيارية مقابل اللامعيارية. وهنا تأتي أهمية تفعيل التعليم النسوي القاعدي، وتقديم الأفكار النسوية في مختلف الوسائط لكي تصل للجميع.
النسوية أم العدالة الجندرية؟
تقوم النسوية في جوهرها على مبادئ وسياسات تتأسس على مبدأي العدالة والحرية، وهذه المفاهيم هي في الأساس شاملة وغير قابلة للتجزئة، وتُلزم الحركات النسوية بغض النظر عن اختلاف سياقها بجملة من الالتزامات الثورية، منها النضال لأجل تحقيق العدالة للجميع، ومناهضة أنظمة القمع المتنوعة التي تنتج اللامساواة واللاعدالة.
وهي وإن كانت تقدم خطابات ونظريات معنية أساسًا بالقراءة التاريخية لاضطهادات النساء والأنواع الجندرية، وتسليط الضوء عليها في الواقع اليومي وتفكيك بنيات العنف التي تنتجها، فإنها في خضم ذلك ترمي إلى تفكيك الأدوار الجندرية التي لا تؤذي النساء فقط، بل تخلق حالة من العنف والتمييز بين جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن نوعهم الاجتماعي.
العدالة الجندرية تشكل جزءًا كبيرًا من العمل النسوي، سواء نظريًا أو على مستوى السياسات والنضالات التي تخوضها الحركات النسوية، وهي مفهوم لا يُختصر في العدالة لأجل النساء كفئة مضطهدة على أساس نوعها الاجتماعي، بل يتعداها نحو تحدي أنماط اللاعدالة التي خلقها النظام الأبوي، من خلال محاولة إيقاف إنتاج العنف والتمييز الذي يضع على مجموعات واسعة توافق المعيار الجندري للرجولة مهمة ممارسة العنف، والتحول نحو كائنات سلطوية تتجاهل مشاعرها وروابطها العاطفية لأجل وهم السلطة، وتخلق حالة من العنف النفسي والاجتماعي تجاه من يوافقون معيار الرجولة، من خلال فرض نماذج قاسية منذ الطفولة تتجاهل مشاعرهم، مثل منعهم من التعبير عن مشاعر الخوف أو الحزن أو مشاركتها باعتبارها ضعفًا، وتضعهم تحت ضغط كبير لإثبات القوة، وهو ما يدفع العديد من المراهقين والشباب إلى ارتكاب المخاطر والجرائم لكي يصبحوا «رجالًا».
الدفاع عن تحرر النساء في عمقه نضالًا من أجل العدالة بين مختلف الأنواع الجندرية.
ورغم أن النسوية بمختلف مدارسها تناضل لأجل العدالة والمساواة الجندرية، فإن جزءًا كبيرًا من تياراتها ونظرياتها، مثل النسوية السوداء، والاشتراكية، والتقاطعية، ونسوية ما بعد الاستعمار، ترى أن العدالة الجندرية ليست الهدف الرئيسي للحركات النسوية، التي تناضل ضد أنظمة متعددة تنتج الاضطهاد والعنف الجندري والطبقي والعنصري والاستعماري، وهي بذلك تصيغ سياسات والتزامات ثورية تناهض وتناضل ضد الأبوية، والمعيارية الغيرية، والرأسمالية والاستعمار، والعنصرية، نظرًا لأن التمييز الجندري يشكل جزءًا بسيطًا من مجموع الاضطهادات التي تعيشها النساء والأطياف الجندرية، وتقدم بديلًا تحرريًا لعالم يشمل حرية الجميع، كما تعبر عن ذلك المنظرة الماركسية أنجيلا دايفس، والتي تشتمل النسوية بالنسبة لها على «أكثر من المساواة الجندرية، وأكثر من الجندر فقط. فلا بد أن تشكل النسوية وعيًا بالرأسمالية والعنصرية والكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وبالإعاقة، وبأنواع جندرية أكثر مما نتخيل، وجنسانيات أكثر مما نظن أننا قادرات على تسميتها».
هذا ما يجعل الدفاع عن تحرر النساء في عمقه نضالًا من أجل العدالة بين مختلف الأنواع الجندرية، ويحمل التزامًا سياسيًا بتبني تقاطعات الاضطهاد المختلفة المؤثرة في مصائر الطبقات المضطهدة، والتي لا يكون الجندر العامل الوحيد فيها، بل تتضمن العرق، والطبقة، والميول الجنسانية، والقدرات الجسدية والعقلية، وحالة المواطنة، وغيرها الكثير من حلقات الاضطهاد.
هل تطالب النسوية بحقوق النساء على حساب الرجال؟
الهدف الأساسي للنسوية هو استبدال النظام الأبوي الموجود في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي بنظام خالٍ من الهيمنة الذكورية والتمييز على أساس الجندر، وهي بذلك لا تهدف إلى إعادة إنتاج النظام الأبوي بشكل آخر تتسيد فيه النساء، وإنما إلى هدم نظام التراتبيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية من الأساس، وبناء مجتمعات يكون أفرادها متساوين بغض النظر عن نوعهم الاجتماعي.
لذلك تكون جميع الفئات والأنواع الجندرية معنية بمناهضة النظام الأبوي وتبني القضية النسوية، كما تشرح المنظرة النسوية السوداء بيل هوكس في كتابها «النسوية للجميع». فالنظام الأبوي لا يضر النساء حصرًا، بل يمتد ليشكل سلطة عنيفة وقسرية تفرض أدوار سلطة وأدوار خضوع على الأفراد، سلطة الرجل على المرأة، والمغاير على الكويري، والوالدين على الأطفال، لتتكون علاقات تمييزية قائمة على أساس غير متساوٍ، يفضي في الأخير إلى فشلها واتسامها بالعنف.
ومن أجل تحقيق التحول المجتمعي الذي يبني مجتمعًا وعلاقات وأنظمة عادلة، يجب على الجميع أن يتعلموا التفكير بطريقة غير متحيزة جنسيًا، بما فيهم من يحددَّون اجتماعيًا بأنهم رجال. فالنسوية كتيار سياسي وفكري تلزم الرجال الرافضين للنظام الأبوي بمسؤوليات، منها تحدي امتيازاتهم التي منحها لهم هذا النظام، واستخدام مواقعهم لمناهضته، وهذه المسؤولية تحتاج لعمل صادق ينطلق من أنها واجب وليس مِنَّة.
الكثير من النسويات يواجهن مشكلة نموذج «الرجل النسوي»، الذي يتحدث قليلًا عن النظام الأبوي، لكنه يستهلك الكثير من الوقت في التنظير الذكوري والخطابات التي لا تواجه فعلًا امتيازاته الذكورية. يمكن لأي شخص بغض النظر عن نوعه الاجتماعي أن يكون نسويًا، لكن ذلك يتطلب جهدًا كبيرًا من التعلم والإنصات والعمل المشترك.
تشير هوكس في هذا السياق إلى أنه لكي يحصل ذلك، يجب أن يحصل الأولاد الصغار والفتيات الصغيرات على تعليم نسوي متساوٍ حول التمييز الجنسي والذكورية، ليستطيعوا تطوير القدرة على التفكير بطريقة مناهضة للتمييز الجندري، من خلال إنشاء مجتمع يتساوى فيه الرجال والنساء حقًا، ويمكن فيه إقامة علاقات صادقة وكاملة للجميع.
إن النسوية للجميع التي تدعو إليها بيل هوكس تعطي فرصة لقراءة النضالات النسوية كنضالات جماعية وغير مقصورة على النساء. ورغم ذلك يجادل كثيرون بأنه ما دامت النسوية تناضل ضد كل هذه الأنظمة ولأجل الجميع، فلماذا لا تُستبدل بمصطلح «حقوق الإنسان»؟ هذا الخطاب يتغاضى عن واقع أن توظيف النسوية يأتي أساسًا من كونها خطابًا سياسيًا يضيء اضطهاد النساء ويفككه بناء على نوعهن الاجتماعي، وهذا يجعل التسمية نفسها شأنًا سياسيًا كما يورد ميثاق المبادئ النسوية للنسويات الأفارقة، الذي يؤكد أن «العمل على النضال من أجل حقوق النساء هو في العمق مسألة سياسية، وعملية التسمية هي شأن سياسي أيضًا. واختيارنا لتسمية أنفسنا نسويات يضعنا في موقع أيديولوجي واضح. بتسمية أنفسنا نسويات، فنحن نعمل على تسييس النضال من أجل حقوق النساء، ونسائل شرعية البنى التي تُبقي على خضوع النساء، ونطور أدوات للتحليل والفعل التحويليين».
التحليل الذي توظفه النسوية لفهم ديناميات القوة والأنظمة التي تنتج القمع واللامساواة يجعلها، في عدة تيارات جذرية منها، لا تناضل حصرًا لأجل فئة معينة، وهذا يعني أن قضايا مثل العنصرية والرأسمالية هي عناصر تتقاطع بشكل وثيق مع النسوية، وتشكل مركزًا لنضالها. والقضاء على التفكير والسلوك العنصري والطبقي والمتحيز جنسيًا حسب بيل هوكس، أمر أساسي لتحقيق الأجندة النسوية.
النسوية لا تقاتل للسماح لعدد قليل من النساء المتميزات من الطبقة العليا والمهيمنة بالنجاح، وبدلًا من ذلك، تركز نضالاتها على تغيير واقع الجميع، وبشكل أكبر ممن يتضررن من سيادة النظام الأبوي الغيري والرأسمالي والعنصري والاستعماري.
سعاد إسويلم