عود كبريت: شبح «كلام الناس» يطارد النساء في العالم العربي
يُلاحقنا «كلام الناس» دائمًا على اختلاف مجتمعاتنا، فمهما كنت متحضرًا أو «حداثيًّا»، ستسمع صوتًا خفيضًا في عقلك يسأل: «كيف سيفكِّر الناس في ما أفعل، وماذا سيقولون؟». هذا الصوت موجود دائمًا عند النساء، وأحيانًا يأتي من أحد أقرباء الفتاة لتسمعها بأذنيها بدل عقلها، ويكون في هذه الحالة أعلى وأوضح.
اعتادت أمي مثلًا أن تسألني: «ماذا سيظن الناس بنا؟» و«ماذا سيقولون عنا؟». هذه الفكرة تُرعِبها، فالاعتقاد راسخ بأن «سُمعتنا» هي كل ما يبقى منا بعد الموت. وهكذا يمضي كلٌّ منَّا في حياته معتقدًا أن رأي الناس فيه وكلامهم عنه سيستمر في ملاحقته إلى الأبد.
لكن الغريب أن الناس يتكلمون ولو كان سلوكك أخلاقيًّا، بل وعندما يخطئ أحدهم في حقك تظل تفكر في الطريقة التي سيرى الآخَرون بها الأمر، وكيف سينتقل من فم إلى فم حتى يعود في النهاية إليك، مُعلِنًا نظافة سُمعتك أو تلوُّثها.
سُمعة أسرتك.. مسؤوليتك
علَيَّ كأنثى في العالم العربي/الإسلامي أن أتصرف وأتكلم وأقدم نفسي بطريقة معيَّنة، ويراني الناس مُخطِئة إذا اختلفَت الطريقة. يعتقد الناس أن النساء يستحققن ما يلحق بهن إذا انحرفن عن المعتاد، وهي فكرة ملازمة لنا لدرجة أننا، كإناث، نلوم أنفسنا ونفكر في «كلام الناس» قبل أي شيء آخَر.
تأخذ «السُّمْعة» مساحةً كبيرة في عقولنا ومشاعرنا عادةً، فنحن لا نفكر فقط في سُمعتنا الفردية، بل وفي سُمعة عائلاتنا كلها، ونحمل هذه السُّمعة على عاتقنا.
أنتِ، كامرأة عربية، مسؤولة عن سُمعة عائلتك كلها، فردًا فردًا، إذ تمَسُّ سمعتُك سُمعةَ كلٍّ منهم بصورة أو بأخرى. لا تحلمي إذًا بحياة طبيعية أو تطمحي إلى تلبية احتياجاتك العادية تمامًا، وإلا لطَّخَتْ أفعالك سُمعة هؤلاء وشرفهم. أنتِ تتحملين الإساءة إلى سُمعة أقاربك ولو كان بعضهم سيئ السلوك، لأن الأنثى تمثِّل وتحمي اسم العائلة وشرفها.
اقرأ أيضًا: هل هناك حركة نسوية حقيقية في الكويت؟
اعتداء جنسي؟ مسؤوليتك
سأتحدث عن تجرِبتي الشخصية. كدت يومًا أتعرَّض للاغتصاب، وكان أول ما خطر ببالي هو «فيمَ أخطأت؟»، و«هل رآني أحد وعرفني وهو الآن ينشر الخبر؟».
رنَّ السؤال الأول في رأسي، ودفعني إلى التفكير في أن ملابسي أو طريقة كلامي كانت السبب في ما حدث. ربما كنت ألطف من اللازم، أو قدمت نفسي للآخرين بصورة تستفز غرائزهم، وربما صدَرَت عني إشارة أو رسالة تحمل رغبتي في ما حدث. ومهما دافعت عن نفسي، فسيقول الناس إنني لم أكُن محتشمة بما يكفي، وهم يرون عدم الاحتشام سببًا كافيًا ليبدأ الرجال بالاقتراب مني ولمس جسدي.
يعتقد الرجال أن لهم الحق في اعتراضك إذا لم تقدمي نفسك بصورة «مُرضِية»، لأنكِ لا تحترمين نفسك، فكيف يحترمكِ الآخرون؟ لكنني أحترم نفسي، أنا فقط أختلف معهم في تعريف الاحترام بالاحتشام، هذا الاحتشام الذي يفشل كثيرًا في منعهم من التعدِّي على مساحتك.
المُجتمعات الأبوية/الذكورية تحمِّلكِ اللوم حتى لو كنتِ الضحية، فأنت المسؤولة عندما يسيء الرجال التصرف.
ألقيت اللوم على نفسي، وقضيت وقتًا طويلًا في تَذَكُّر كل كلمة وحركة أصدَرْتُها لأحدِّد موضع الخطأ الذي ارتكبتُه. فكرت في إخبار عائلتي لكنني خفت انتشار القصة، ستظن أسرتي أنني اغتُصِبت فعلًا، ولن أسمع إلا سؤالًا واحدًا: «فيمَ سيفكر الناس؟». سيلومني الجميع دون اعتبار لمشاعري، وسيُشفِقون عليَّ لأنني سبَّبت الأذى لنفسي ولسُمعتهم.
تظل «السُّمْعة» أهم ما يفكرون فيه. إنها أهم من مشاعري أو راحتي النفسية، وأهم من الإهانة التي تعرضتُ لها، ومن الصدمة التي أعانيها، ومن كراهيتي لنفسي. إن السُّمعة أهم مني.
لذلك، إذا اعتدى أحدهم عليكِ ففكري في سُمعَتك قبل أي شيء آخر، حتى لو مضى الشخص المريض الذي اعتدى عليكِ حُرًّا، ويداه القذرتان محمَّلتان برائحة عطرك. فكري في سُمعَتك قبل أي شيء آخر.
يُصبِح الأمر محيِّرًا فعلًا؛ هل أترك هذا الشخص يُفلِت من العقاب، أم أخاطر بسُمعتي؟ لو استطعت إثبات الأمر فسيُعاقَب، لكنني سأتعرض للهجوم والشك في أخلاقي، بل والشك في قيمتي كإنسان، كل هذا لأنني قررت الكلام.
المُجتمعات الأبوية/الذكورية تُحمِّلك اللوم ولو كنتِ الضحيَّة، فأنت المسؤولة عندما يسيء الرجال التصرُّف. تبدو لهم المسألة بسيطة، فكيف يسيء رجل عربي مسلم السلوك بهذا الشكل؟ وكيف يمكن لهذا الرجل المثالي أن يمدَّ يده ليرتكب جُرمًا إذا لم تكوني أنتِ السبب، وإذا لم تكن مشيتكِ وضحكاتكِ وأنفاسكِ موجودة فقط لاستفزازه؟
أول أخطائك أنكِ فكرت في الوجود
اختبأتُ بعد هذه الحادثة من كل الناس، وانغلقتُ على نفسي تمامًا وتوقفتُ عن ممارسة أي نشاط. استجمعتُ ما تَبقَّى لديَّ من قوة وادَّعيت أني بخير. هربتُ من الأعين كي لا يجدني أحد، لعلِّي أحافظ على ما بَقِي من كرامتي، فلديَّ سُمعة يجب الحفاظ عليها.
يحب مجتمعنا التعميم وإطلاق الأحكام، كما يحب إلقاء اللوم على النساء. الأنثى دائمًا مُراقَبة، ويعشق الناس اختلاق الأحاديث حول طريقة لبسها وسلوكها. يبدأ الناس عادةً بالتساؤل عنكِ في فضول، ثم يضعونكِ في قالب ويطلقون حكمهم عليك. ولأن غالبية الناس يرفضون تصديق حدوث هذه الاعتداءات الجنسية في مجتمع محافِظ، فإنهم يلجؤون إلى لوم المرأة، لأنه «كيف يمكن لهذه الفضائح أن تقع في مجتمعنا المثالي؟».
الإجابة بسيطة، إنها «السُّمْعة».
ضع نفسكَ مكاننا دقيقة، وفكر منذ لحظة استيقاظك: ماذا يجب أن تلبس؟
ينكر الناس وجود هذه الحوادث بسبب قِلَّة إبلاغ النساء عنها. إن العدد الضئيل من النساء الذي يقرِّر الإبلاغ عن حوادث كهذه يقابَل عادةً بسيل من الشكوك والاتهامات والأحكام الجُزافية، لتشعر المرأة في النهاية بالحقارة وانعدام القيمة.
أنتِ ملطَّخة، وهذا خطؤك، وهو خطأ سيَحُولُ دون زواجك وزواج أخواتك، وسيمتد حتى يصبح عارًا على كل أسرتك. والخطأ كذلك أنك فكرتِ في حدوث مثل هذه الحوادث في مجتمعاتنا المثالية، وأنكِ فكرتِ في الخروج واستثارة الرجال، وأنكِ فكرتِ في الابتسام والحديث والمشي.
أول أخطائك أنكِ فكرتِ في الوجود، والثاني أنكِ تحاولين مقاومة الرجل بعدما أيقظتِ وحش ذكورته، بالإضافة طبعًا إلى إخباركِ الناسَ بما حدث، ولومِ الرجل وتحميله مسؤولية خطئكِ الخاص، وتلطيخِ سُمعة عائلتكِ الذي سيستمرّ في مطاردتكِ إلى الأبد.
قد يهمك أيضًا: أسئلة شائعة عن النسوية
ضع نفسكَ مكاني
نحن دائمًا تحت هذه الضغوط، قد نفقد كل شيء ونُصبِح موضعًا لأحكام الآخرين أحيانًا ولشفقتهم أحيانًا أخرى، وقد ينبذنا الجميع. يُطاردنا «كلام الناس» دون رحمة، ويُصبح أحيانًا أثقل من أن نتحمَّله ونحن لم نختَرْ حَمْله.
ضع نفسك مكاننا دقيقة، وفكِّر منذ لحظة استيقاظك: ماذا يجب أن تلبس؟ وكيف سيؤثر هذا على صورتك أمام الآخَرين؟ ثم ابدأ في حساب كل خطواتك وفكِّر في كل كلمة تخرج منك.
لكن فكِّر مع ذلك أن كل شيء قد ينهار ببساطة إذا قرر رجل ما أن يتدخَّل، لأن ترويض هذا الرجل مسؤوليتكَ وحدك، وعليكَ أنت واجب تعليمه مبادئ السلوك الإنساني.
أتمنى لك التوفيق. حافظ على سمعتك، ولا تنسَ ارتداء «دروعك الواقية» كل يوم للحفاظ على سُمعة أسرتك وشرفها.
ميم الحسيني