ذكريات زائفة: عندما يكذب عليك عقلك، لن تعرف أبدًا

آية صبري
نشر في 2017/08/28

الصورة: Getty/Hans Neleman

في ليلة كان من المفترض أن تكون رومانسية، دعا الشاب الأمريكي «ستيف تايتس» خطيبته إلى العشاء في أحد مطاعم ولاية واشنطن. استقل الاثنان سيارته، التي كانت لسوء حظه تشبه سيارة أحد المتهمين في قضية اغتصاب فتاة في الحي. أوقفت الشرطة ستيف وخطيبته ووجه إليهما الضابط بعض الأسئلة، ولسوء حظ ستيف للمرة الثانية كانت ملامح وجهه تشبه أوصاف المغتصب كثيرًا، فوضعته الشرطة رهن الاعتقال.

في اليوم التالي، عُرضت صورة ستيف على الفتاة ضحية الاغتصاب فأظهرت شكًّا في أنه الجاني، لكنه كان الأقرب في الشكل من بين كل المشتبه بهم، فوُجِّه الاتهام إليه.

إلى هنا تبدو القصة عادية، لكن ما قلب الموازين أن الفتاة أكدت في قاعة المحكمة بكل ثقة أن ستيف هو من اغتصبها. لم تكن تكذب، بل كانت واثقة فعلًا.

صرخ ستيف ببراءته لكن أحدًا لم يسمع، سوى خطيبته التي أوصلت قصته إلى صحفي في قسم التحقيقات بجريدة محلية. تابع الصحفي القضية حتى وصل إلى الفاعل الحقيقي، الذي اعترف كذلك بأنه نفذ 50 جريمة اغتصاب غيرها، لكن هذا كان بعد أن قضى ستيف سنة مريرة في السجن، وبعد أن طُرد من وظيفته التي عمل جاهدًا كي يصل إليها، وبعد أن انهارت خطيبته وفقدت أملها، وبعد أن صارت حالته النفسية سيئة للغاية بسبب الظلم الذي وقع عليه.

خرج ستيف تايتس لكنه رفض أن ينسى الماضي ويبدأ حياته من جديد، فباع كل ما يملك وقرر أن يقاضي الشرطة، يقاضي الحي، يقاضي الفتاة، يقاضي كل من سلب منه حريته وحياته.

وبينما تنفجر عروقه بالحماس، استيقظ في صبيحة المحاكمة حازمًا أمره وأوراقه، فاليوم سيستعيد حقه في أسوأ سنة عاشها، لكنه شعر بألم شديد ولم يستطع حتى أن يطلب مساعدة. أسقطته أزمة قلبية جثةً هامدةً فوق أوراق قضيته، بسبب الضغوط العصبية والنفسية التي لم يستطع تحملها، أو بالأحرى: مات بسبب «ذكرى زائفة».

ذكرياتك تخدعك

هل يمكن العبث بذكريات قديمة وخلق ذكريات جديدة؟

نثق دائمًا في ذكرياتنا، ويتفاخر بعضنا بأن لديه ذاكرة مثل ذاكرة الجمل، ولا يتصور أحد أنه يمكن التشكيك في ذاكرته. تُسهم الذاكرة في تكوين الإنسان بشكل كبير، لكن ماذا سيحدث إذا أخبرك أحدهم أن ذاكرتك، التي يمكن أن تُقسم من أجلها أقدس الأقسام وتدخل رهانات ومنافسات لإثبات صحتها، يمكن «العبث» بها دون حتى أن تدرك هذا؟

لا تخضع ذاكرتنا لتصرفنا فقط، بل يمكن أن تتأثر بعديد من الطرق والأشخاص.

نظريًّا، الذاكرة الزائفة حالة نفسية يتذكر فيها الشخص أحداثًا لم تقع فعلًا، حسب تعريف نظريات علم النفس. أبسط مثال يمكن أن نضربه حين تعتقد أنك تركت شيئًا مثل قلمك على المنضدة، وتقسم أنك فعلت، بينما هو لا يزال في جيبك.

أنت لم تكذب، لكنك نطقت كذبًا، فذاكرتك صوَّرت لك هذا الحدث فعلًا، وربما رأيت نفسك وأنت تُخرج القلم من جيبك وتكتب به شيئًا ثم تضعه على المنضدة وترحل، لكن هذا لم يحدث، بل صنعته ذاكرتك في محاولة لملءِ الفراغات الموجودة فيها، فاصطنعت ذكريات أخرى أكملت بها القصة بناءً على خبرة سابقة أو كلام سمعته، أو ربما بالتخيل فقط. هذا ما حدث مع ستيف تايتس، فالفتاة لم تكذب، بل وقعت ضحية ذكرى زائفة.

قد يهمك أيضًا: العلم يشرح كيف تخوننا الذاكرة

الذاكرة تشبه «ويكيبيديا»

تجربة عملية لخلق ذكريات جديدة والعبث بذكريات قديمة

تنتج الذكريات الزائفة نتيجة عوامل مثل المعلومات التي تعرضها السُّلطات للمواطنين، أو المعلومات المتكررة في ثقافتنا منذ الصغر.

يشبِّه علماء النفس ذاكرتنا بالموقع الشهير «ويكيبيديا»، الذي يمكنك أن تعرف منه معلومات معينة، لكن بإمكانك كذلك أن تغير في هذه المعلومات إذا لم تعجبك، وأيضًا يمكن لأي شخص أن يغير فيها.

هكذا الحال مع ذاكرتنا، فهي لا تخضع لتصرفنا فقط، بل يمكن أن تتأثر بعديد من الطرق والأشخاص. تحكي عالمة الذاكرة «جوليا شو» في كتابها «وهم الذاكرة» أنها نفذت تجربة معينة، فأحضرت مجموعة من المتطوعين وزارت أقارب كل واحد واستمعت إلى شهاداتهم عن ماضي هذا المتطوع.

بعد ذلك، جلست شو مع كل متطوع وطلبت منه أن يحكي لها تفاصيل حدث بعينه عرفته من أقربائه، ثم واجهت المتطوع بأن قريبه حكى لها أنه ارتكب حادث سرقة مثلًا، أو جريمة معينة، حين كان صغيرًا.

من الطبيعي أن لا يتذكر المتطوعون ارتكاب هذه الجريمة التي لم تحدث أصلًا، لكن تأكيد الباحثة شجعهم على التعمق في الموقف والانغماس فيه ذهنيًّا. ولأن المتطوعين صدقوا أن تلك الجريمة حقيقية تمامًا مثل غيرها من القصص التي رواها عنهم أقاربهم، بدأ معظمهم يطورون ذكريات خاصة بهذا الموقف، ويزينون هذه الذكريات شيئًا فشيئًا بمزيد من التفاصيل.

اقرأ أيضًا: حكايتان عن ألاعيب العقل: هل علينا أن نشك في ذكرياتنا؟

تنتج تلك الذكريات الزائفة نتيجة العوامل الخارجية في المقام الأول، مثل رأي أشخاص محددين، أو عن طريق معلومات تعرضها السُّلطة، أو معلومات متكررة في الثقافة التي يتلقاها الفرد منذ الصغر. ويمكن أن تكون العوامل داخلية، فالشخص الذي لديه رغبة في إرضاء الذات أو الحصول على الأفضل، يمكن بسهولة أن تتفاعل ذاكرته مع تلك المؤثرات.

الذاكرة سلاح خطير

الصورة: Ingo Joseph

مؤخرًا، نفذ العلماء دراسات عدة لمعرفة إمكانية محو ذكريات من أدمغة البشر، وزرع مكانها ذكريات جديدة لم تحدث قط، ممَّا يمهد لإعادة تشكيل حياة الإنسان الذي سيتعرض لهذا الزرع.

مجموعة من العلماء في معهد ريكين الياباني أجروا تجربة لإقناع بعض المتطوعين برؤية بعض الخطوط السوداء على أنها حمراء، ونجحوا في ذلك.

يفتح هذا الباب على مصراعيه للنظر في إمكانية تشكيل شخصيات البشر عن طريق زرع ومحو ذكريات معينة في أدمغتهم، دون أن يستطيع أحد أن يعرف الفارق بين الذكريات الحقيقية والزائفة. فعند البحث المعملي، وجد العلماء اليابانيون أن الذكريات الزائفة تحفز نفس الأجزاء التي تحفزها الذكريات الحقيقية في الدماغ. فقط عند وجود أدلة مادية مستقلة يمكن إلى حدٍّ ما التفريق بين الذكريات ومعرفة الزائف منها.

ضحايا الذاكرة

«إليزابيث لوفتاس» تشرح رحلتها لإنقاذ ضحايا الذاكرة الزائفة

«ضحايا الذاكرة» هو اسم كتاب لعالم النفس الشهير «مارك بندرغراست»، يورد فيه عددًا من القصص التي لعبت فيها الذاكرة الزائفة دورًا كبيرًا، وتسببت في تشتيت عديد من الأُسَر وتدمير حياة أشخاص أبرياء.

يروي بندرغراست قصة فتاة اتهمت والدها بالاعتداء عليها جنسيًّا منذ كان عمرها سنتين حتى ست سنوات. انفصلت الفتاة عن والديها ورفعت دعوى قضائية ضد أبيها، الذي صُدِم ممَّا سمعه من اتهامات لم يعرف لها أساسًا من ابنته الوحيدة.

تولى بندرغراست القضية واستطاع إثبات براءة الأب، استنادًا إلى أن الإنسان الطبيعي لا يستطيع أن يحتفظ بذكريات قبل سن الثالثة أو الرابعة، وهذا عكس ما حدث مع الفتاة التي تذكرت الاعتداء وهي بعدُ في الثانية من عمرها، واتضح أنها وقعت ضحية لذكرى زائفة، ويعكف العالِم الآن على علاج الفتاة وإعادة ترميم العائلة.

يعتقد بعض العلماء أنه يمكن الاستفادة من الذاكرة الزائفة في علاج أمراض مثل ألزهايمر، والتحكم في الوزن.

في محاضرة تتحدث فيها عن الذكريات الزائفة ورحلتها لإنقاذ ضحايا الذاكرة، توضح عالمة الذاكرة الشهيرة «إليزابيث لوفتاس» أن 300 شخص بريء أُدينوا بجرائم لم يقترفوها، وقضوا ما بين 10 و30 عامًا في السجن جرَّاء ذلك. أثبت تحليل الحمض النووي (DNA) براءة هؤلاء الأشخاص، لكن الأهم أن تحليل الجرائم توصل إلى أن 75% من الأحكام الخاطئة التي صدرت ضدهم كان سببها ذكرى خاطئة من شاهد عيان. 300 شخص دُمِّرت حياتهم نتيجة الذكريات الزائفة.

لهذا أنشأ بعض العلماء مؤسسة «False Memory Syndrome Foundation» عام 1992، لعلاج الناس من ذكرياتهم الزائفة، والدفاع عن الأبرياء في المحاكم، وإنقاذ مزيد من الأرواح والحيوات.

رغم ذلك، يعتقد علماء أنه يمكن الاستفادة من الذاكرة الزائفة في علاج أمراض مثل ألزهايمر، وكذلك التحكم في الوزن، عن طريق زرع ذكريات سيئة مرتبطة بتناول وجبات ضارَّة، أو ذكريات جيدة ترتبط بالأكل الصحي.

قد يعجبك أيضًا: هل يجعلنا السُّبات نتخلص من ذكرياتنا؟

الصورة: Free-Photos

ذاكرتنا شيء مرعب ومركَّب بشكل لا يصدق، ويمكن أن تضعنا دراسات وتجارب الذاكرة المزيفة في حالة من عدم الثقة بأي شيء، لكن الأكثر رعبًا أننا ندرك إمكانية أن يتحكم فينا معالجون نفسيون أو سُلطة أو خلاف ذلك، وممَّا يزيد الرعب عدم قدرتنا على إدراك زيف الذكريات سوى بوجود أدلة مادية.

آية صبري