«زوسكيند».. طفل حلو يلهو بسبعة أرواح

محمد منصور
نشر في 2018/09/03

غلاف رواية «العطر» - الصورة: Bertelsmann 

هل نتوقع أن يبدع كاتب ما أعمالًا معدودات، ومع ذلك ينال شهرةً عريضة، وتُترجَم أعماله القليلة هذه إلى أكبر عدد من اللغات؟ إضافة إلى ذلك: هل من الممكن ألا يكون الكاتب متنوعًا في موضوعاته، ومع ذلك يتلقاها القرَّاء بطريقة غاية في التنوع؟ سؤال ثالث: هل من الطبيعي أن يوجد كاتب معروف ومشهور إلى هذه الدرجة، وفي الوقت نفسه، زاهد في الظهور على وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية؟ سؤال أخير: هل يوجد كاتب ما، يجد كل قارئ في كتبه ما يريد، وكأنَّ إبداعاته غير موجهة لقارئ بعينه، وإنما لجميع القرَّاء بمختلف أفكارهم؟

هذه الأسئلة نستطيع أن نجيب عنها باسم واحد: «باتريك زوسكيند».

وُلِد زوسكيند في مارس عام 1949، بمدينة «إمباخ» في منطقة جبال الألب جنوب ألمانيا، لأب يعمل كاتبًا ومترجمًا، وكذلك كان أخوه الأكبر يعمل صحفيًّا، ما يعني أن زوسكيند الابن ظل محاطًا بالكتب طيلة طفولته إلى أن انتهى من مرحلة الثانوية ليدرس التاريخ بجامعة ميونيخ في الفترة من 1968 حتى 1974، ليعمل بعد ذلك في كتابة القصص القصيرة وسيناريوهات الأفلام.

زوسكيند (الذي يعني في الألمانية «الطفل الحلو») نال شهرته العريضة بعد نشر رواية «العطر: قصة قاتل» (Das Parfum) سنة 1985، والتي تحولت إلى فيلم سنة 2006، وتُرجِمَت إلى 46 لغة. ومع ذلك، فإن زوسكيند يفضل العزلة والابتعاد عن أضواء الشهرة، حتى إنه لم يحضر العرض الأول لفيلم العطر، إضافة إلى أنه يرفض الجوائز الأدبية، ويمتنع عن إجراء أي حوارات صحفية أو مقابلات إذاعية وتلفزيونية. ويعيش بين ميونخ وباريس متفرغًا للكتابة الأدبية.

قبل نشر «العطر»، وبالتحديد في عام 1981، عُرِضَت مسرحية «الكونترباص» (Der Kontrabass)، وهي مونودراما من فصل واحد. وفي الموسم المسرحي لعام 1984 عُرِضت أكثر من 500 عرض في 25 إخراجًا مختلفًا، لتصبح أكثر المسرحيات عرضًا في تاريخ المسرح الألماني، بحسب سمير جريس في تقديمه لترجمة المسرحية إلى العربية.

في عام 1987، أصدر زوسكيند قصة «الحمامة»، ثم في 1995 نشر «ثلاث قصص»، وفي 2003 أصدر «حكاية السيد زومر»، وبعدها «عن الحب والموت» عام 2006، لنلاحظ الفترات الزمنية الطويلة نسبيًّا بين كل عمل وآخر، ما يعكس عدم اتخاذ زوسكيند من الكتابة مهنة، وإنما حالة إنسانية تستدعيه قبل أن يستدعيها.

شخصيات تَرى ولا تُرى

غلاف مسرحية «الكونترباص» - الصورة: Diogenes

قد يقول القارئ لنفسه بشكل لاإرادي عندما يصل إلى نهاية «هوس العمق»: إنه الموت، الشيء الوحيد الجدير بصفة «العمق» في هذا العالم.

قارئ أعمال زوسكيند يكتشف سمة مهمة تجمع بين شخصيات أعماله الإبداعية، فجميعها هامشية، لا تلقى اهتمامًا من أحد إلا عندما يستغلها في إنجاز أمور تدر الربح والمنفعة على الآخرين. ومع أن هذه الشخصيات مؤثرة في جميع الأحدث، فإنها تعيش وحيدة وشبه منبوذة:

عازف الكونترباص، رغم حبه لآلته، واعترافه بدورها المهم في الأوركسترا، يدرك أنها السبب في أن يجلس في الصف السادس أو السابع دون أن يراه أحد، وبالتالي لا يجد من يقدر موهبته حق قدرها، ما يجعله فريسة للحب والكراهية على السواء. يحب آلته التي لا وجود لأي أوركسترا من دونها، ويكرهها لأنه بسببها يعيش حياته في الظل رغم شعوره بأنه يستحق أكثر من ذلك لأنه الأفضل.

«هذا يحدث كثيرًا،

الأفضل ينقرض،

لأنه ضد تيار الزمن،

هذا التيار يكتسح كل ما في وجهه» - الكونترباص

عبقرية «جان بابتيست غرنوي» في ابتكار العطور، أعادت إلى «بلديني» مجده الضائع وبريقه الذي أخذ في الأفول بعدما نال منه الكِبَر وتغيرت الأذواق الباريسية في تفضيل الروائح. ومع أن غرنوي موهوب في تمييز جميع الروائح وتحديدها، فإنه يعيش من دون رائحة خاصة، ما يسهم في عزلته عن البشر رغم وجوده المؤثر، وصمته الدائم رغم معرفته بكثير من الأمور، وكأن الرائحة هي الدليل الأقوى على وجودنا، ومن دونها لن نكون. فعلاقتنا بالرائحة تحدد مدى عمق إحساسنا بالآخرين: الأم تحدد رائحة أطفالها من ملابسهم، والعاشق يظل محتفظًا برائحة معشوقته حتى إنه لو أغمض عينه يستطيع أن يحدد حبيبته من بين الآلاف بسبب الرائحة. ولعل ذلك يدل على أن بحث غرنوي الدائم عن الرائحة هو بحث وجودي عميق يشبه رحلة بحث الفلاسفة والشعراء عن الحقيقة.

«... وللرائحة الطيبة قدرة على الإقناع أقوى من الكلمات ونور العين والشعور والإرادة» - العطر

يُميز «جان بابتيست غرنوي» بطل فيلم «Perfume» جميع الروائح، لكنه يعيش دون رائحة خاصة

«جوناثان نويل»، بطل «الحمامة»، بحسب زوسكيند، تجاوز الخمسين من عمره، عاش منها عشرين عامًا خاليةً من أي أحداث، حتى فاجأته مشكلة الحمامة التي ذهبت بالأمان الذي كان يحياه. إنه «لم يكن يتخيل أن يحدث له في حياته أي شيء ذو أهمية ما عدا موته»، لنلاحظ أن لا شيء مهمًّا يحدث للإنسان إلا الحب والموت. الحمامة ووظيفة جوناثان (حارس بنك) بتأويلاتهما المتنوعة، يعملان على التأثير في الشخصية إلى حد أننا نكاد نشعر بالأسى لمجرد أن طيرًا صغيرًا أرعب إنسانًا ما، إلى درجة جعلته لا يستطيع مغادرة غرفته بسبب حمامة تحولت من رمز للسلام إلى رمز للقمع والترهيب والرعب.

الفنانة الشابة في «هوس العمق»، والتي لم يطلق عليه الكاتب اسمًا بهدف التعميم على كل من يشتغل في الفن، أقامت معرضها الأول، فعلق أحد النقاد بحسن نية بهدف التشجيع، قائلًا: «أعمالك مثيرة للاهتمام، وهي تدل على موهبة حقيقية، لكن ينقصك العمق».

أصيبت الفتاة بهوس البحث عن العمق، فبدأت تفتش في كتب الفن، وتدرس أعمال الفنانين الآخرين، وتتجول في المعارض والمتاحف، إلى أن تملَّك الهوس منها، فتدهورت صحتها بشكل ملحوظ، ولم تعد تخرج من المنزل، وابتلعت كثيرًا من الأقراص المهدئة، ما جعلها تصاب بالسمنة. غير أنها، وبسبب هوسها غير الطبيعي بشيء غير محدد كالعمق، ألقت بنفسها من شاهق، وسقطت ميتة. قد يقول القارئ لنفسه بشكل لاإرادي عندما يصل إلى هذه النهاية: إنه الموت، الشيء الوحيد الجدير بصفة «العمق» في هذا العالم.

ما الذي أفضى بهذه الفتاة إلى هذه النهاية المأساوية، وإن تكن الأعمق؟ إنه الحب/حب الفن. لنجد أنفسنا أمام الثنائية الأقرب إلى قلب زوسكيند: الحب والموت.

عن صعوبة تعريف المعروف

غلاف كتاب «عن الحب والموت» - الصورة: Diogenes

حينما كان زوسكيند يعمل على كتابة سيناريو فيلم، خلال 2005، راوده سؤال: «لماذا الحب مرتبط بالموت على نحو جوهري، ولا فكاك منه منذ القديم حتى يومنا هذا؟». ولمحاولة الإجابة عن هذا السؤال القديم/الجديد شرع زوسكيند في وضع كتابه «عن الحب والموت».

يبدأ زوسكيند الكتاب بتصدير للقديس «أوغسطينوس» يقول فيه: «إنْ لم يسألني أحد ما عن الموضوع، فإنني عند ذلك أعرفه، أما إن سألني عنه أحدهم، وأنا أود شرحه له، فإنني حينئذ لا أعرفه». إذ يؤكد الفيلسوف القديس أن هناك أشياء نستطيع أن نعيشها على آخرها، وكأننا نعرفها حق المعرفة، لكن حينما يطالبوننا بتعريفها، فإننا نعجز عن ذلك، ومن هذه الأشياء: الحب، والشعر، والزمن.

بإمكاننا أن نجد التشابه بين استحالة تعريف الحب والشعر، في ما قاله «بورخيس» في كتابه «صنعة الشعر»: «إننا نعرف ما هو الشعر. نعرف ذلك جيدًا إلى حد أننا لا نستطيع تعريفه بكلمات أخرى، مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة، واللون الأحمر والأصفر، أو معنى الغضب، الحب، الكراهية، الفجر، الغروب».

من ناحيته، يدلل زوسكيند على استحالة تعريف الحب، فيصرِّح بأن الشعراء لا يكتبون إلا عن كل ما لا يعرفونه، فالأشياء المعروفة والمحددة لا تثير شهيتهم للكتابة، ودليل استحالة تعريف الحب أن غالبية قصائد الشعراء تدور حوله محاولة تعريفه، يقول زوسكيند: «الإنسان كفنان منذ فجر التاريخ (...) لم تشغله موضوعات مثل موضوع الحب، فالشعراء، كما هو معروف، لا يكتبون عن ما يعرفونه حق المعرفة، بل عن ما لا يعرفونه، وهذا لأسباب هم أيضًا لايعرفونها حق المعرفة، لكنهم يريدون بكل تأكيد أن يعرفوها حق المعرفة».

مع ذلك، يحاول زوسكيند الاقتراب من الحب بالتعريف، فيؤكد أن العشق والحب تلازمهما كمية معتبرة من الغباء: «أليس الحب، في نهاية المطاف، ليس أكثر من مرض، لا من النوع الخفيف، بل من أشدها شناعة؟ أم تراه سُمًّا، تحدد درجة الجرعة ما إذا كان تأثيره مباركًا أو مدمرًا؟ أنجدنا يا سقراط بحكمتك».

لذلك يوصي الكاتب بقراءة رسائل الحب الشخصية بعد كتابتها بمسافة زمنية من 20 إلى 30 سنة، ووقتها ستغمر وجه الواحد منا حمرة الخجل نظرًا إلى الركام الموثَّق من الحماقة والكبرياء والعنجهية والغرور: المضمون مبتذل والأسلوب ركيك.

علاقة الحب والموت المشؤومة بدأت بعد التحول في الفنون التشكيلية من تجسيد صورة الموت في صورة كئيبة/عفيفة إلى صورة إيروسية شهوانية.

إذا كان زوسكيند قال كل هذا الكلام عن الحب، فماذا سيقول عن الموت؟ وكيف يفضي الحب، من وجهة نظر الكاتب إلى الموت. يجيب زوسكيند عن ذلك بأن الحب بصورة عامة ينشأ نتيجة موقف لامبالاة تجاه الموت، داعمًا وجهة نظره بما قاله «ستندال»: «الحب الحقيقي يجعل فكرة الموت مألوفة، خفيفة، وليس فيها ما يُفزع. يصبح الموت موضوع موازنة بسيطة، يصبح الثمن الذي يقبل المرء بدفعه لقاء أشياء كثيرة».

إن هذا الكلام مفهوم بالطبع لكل من خاض تجربة الحب، إذ إن عذابات الغرام تجعل الموت ليس فقط أمرًا هينًا أمام ضراوتها، وإنما هو الخلاص الوحيد على أمل البعث في عالم آخر أفضل، أو العدم الذي لا يشعر فيه المرء بأي نوع من العذاب. حتى إننا من فرط ما استمعنا إلى قصص عن عشاق قتلوا أنفسهم بتنا لا نتأثر كثيرًا، ونكتفي بأن نردد بشكل آلي مع مصمصة الشفاه: «ومن الحب ما قتل».

ينقل زوسكيند عن «فيليب أرييس» في كتابه «تاريخ الموت» أن هذه العلاقة المشؤومة بين الحب والموت بدأت منذ القرن السادس عشر، عندما حدث التحول لأول مرة في الفنون التشكيلية من تجسيد صورة الموت في صورة كئيبة/عفيفة إلى صورة إيروسية شهوانية، مشيرًا إلى أن اللغة الفرنسية أوجدت مفهوم «الموت الأصغر» للتعبير عن ذروة النشوة الجنسية.

إن هذا الاقتباس يجعلنا، بفضل زوسكيند، نتحرر من التصور المادي الأحادي للموت باعتباره فقدانًا للحياة، وإنما تتنوع دلالة هذا الموت لتنعكس على ما هو إيروسي، وما هو عاطفي. فالحب موت صغير كما أوضح ابن عربي، والموت يقظة أخرى، كما هو موجود في المقولة الشائعة في الثقافة العربية: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا». «الطفل الحلو» يجعل القارئ، من دون وعي منه، يحب الموت بدلالاته المتنوعة، ويموت في الحب بحالاته المختلفة.

لعلنا نجد سبب شهرة «الطفل الحلو» والحضور الطاغي لأعماله في كلمات سمير جريس التي أثبتها في مقدمة ترجمته لمسرحية «الكونترباص»: «زوسكيند يجمع في أعماله بين الجدية والفكرة العميقة واللغة المحملة بالرموز والإيحاءات والأسلوب التشويقي المسلي والعالم الغرائبي... إنه يوازن بين طموحه الأدبي والنجاح الذي يبتغيه لدى الجمهور».

هناك أمر آخر قد يوصلنا إلى سبب شهرة زوسكيند، فالكاتب الزاهد يجمع في أعماله الأدبية كمية متنوعة من المعلومات في مختلف المجالات: في «الكونترباص» يرصد الموسيقى الكلاسيكية ومراحل تطور الأوركسترا والآلات القديمة والحديثة. في «العطر» نقرأ ما يشبه البحث في صناعة الروائح وحاسة الشم وفرنسا القرن الثامن عشر. فالقارئ الذي ينشد المتعة ينجذب إلى «حواديت» زوسكيند المشوقة، والباحث في التاريخ سيجد مبتغاه، وعالم النفس عليه أن يدرس شخصياته كي يكتشف كثيرًا من الموضوعات عن جوهر النفس البشرية، ولا غنى للشاعر عن قراءة زوسكيند الذي تحمل لغته كثيرًا من الرموز والدلالات الموحية والصور الغريبة. لنقول في النهاية: إن زوسكيند كاتب بسبعة أرواح.

محمد منصور