فتوى «داروين» في تعدد الزوجات: علم النفس التطوري والسلوك الجنسي للبشر

أحمد الشربيني
نشر في 2017/02/22
الصورة: Khashayar Elyassi

ظلَّ التشريع الإسلامي بخصوص تعدد الزوجات يثير الجدل لدى المسلمين وغيرهم، منذ اصطدم العالم الإسلامي مع أوروبا مطلع القرن التاسع عشر.

إلى جانب هجوم بعض الدوائر الغربية على المسلمين بسبب هذه العادة بالذات، سبَّب التعدد أزمة داخل الدوائر الإسلامية/العربية نفسها، وانقسم الناس بشأنه بين مؤيد ومعارض، حتى أصبحت تونس مثلًا تُجرِّم تلك الممارسة بالقانون، بينما تُضيِّق المغرب بشدة على الزواج الثاني.

أُثيرت مسألة التعدد في أمريكا وأوروبا مرة ثانية مؤخرًا لكن من منظور مغاير تمامًا؛ هو منظور «علم النفس التطوري». ليست القضية هذه المرة هجومًا استشراقيًّا على عادات المسلمين في سياق «استعماري»، ولا علاقة للمسألة بالإسلام، لكنها تمس القضية نفسها.

يدور الجدل اليوم بشأن كون تعدد الزوجات نظامًا أقرب إلى الطبيعة البشرية، وكون الزواج الأحادي (الزواج من شخص واحد فقط خلال فترة معينة)، المعتاد اليوم في الثقافة الغربية ومعظم العالم، بدعة حديثة ليس أكثر.

ما علم النفس التطوري؟

عالم الأحياء التطورية «إدوارد ويلسون» (E. O. Wilson)، الذي كانت نظرياته مقدمة لنشأة علم النفس التطوري - الصورة: Jim Harrison

في العملية الجنسية، تقدم النساء أكثر بكثير مما يقدمه الرجال.

يسعى علم النفس التطوري لفهم عقل الإنسان وسماته النفسية من منظور «تكيُّفي»؛ أي أنه يعيد طرح أسئلة علم النفس لكن في ضوء نظرية التطور، مثل: لماذا تطورت الغيرة؟ ما الأسباب التطورية وراء حُب الناس للشهرة؟ أي ثغرة تطورية أنتجت انجذابنا لشخصيات الرسوم المتحركة؟

تُعتبر قضية استراتيجيات التزاوج من القضايا المهمة في علم النفس التطوري؛ إذ يسعى هذا التخصص لتفسير الاستراتيجيات المختلفة للرجال والنساء في اختيارهم للشركاء الجنسيين بناءً على فائدة هذه الخطط لنجاحهم في التكاثر.

بلغةٍ بسيطة: يتطور البشر عمومًا ليكتسبوا صفات تجعلهم أكثر قدرة على التكاثر، وهو ما يعني قدرتهم على تمرير جيناتهم إلى جيل جديد، يمررها بدوره إلى جيل آخر، وهكذا. ويتطور الرجال والنساء على السواء وفق هذا القانون البسيط، لكن هناك فارقًا مهمًّا؛ فالرجال والنساء يملكون أعضاء تناسلية مختلفة تمامًا. وبينما يقدم الرجل في العملية الجنسية مجموعة من الحيوانات المنوية الزهيدة، تقدم النساء ما هو أكثر من ذلك.

امرأة واحدة ﻻ تكفي

الصورة: Mohammed Tawsif Salam

تحتاج المرأة إلى شهر كامل من أجل إنتاج بويضة واحدة، وتسعة أشهر تالية منذ التخصيب وحتى الولادة، ثم بضع سنين أخرى كي يمكن للطفل أن يبدأ في الاعتماد على نفسه. ويحتاج أطفال البشر وقتًا أطول بكثير من أطفال أي ثدييات أخرى حتى يستطيعوا إبقاء أنفسهم على قيد الحياة دون أي تدخل أبوي.

لا يتحمل الرجال كُلفة إنتاج البويضة وأشهر الحمل؛ وليس في صالحهم، بحسب علم النفس التطوري، أن يضيِّعوا كل هذا الوقت، الذي يمكنهم إنفاقه في مطاردة نساء أخريات من أجل نشر جيناتهم أكثر وأكثر؛ وهو الهدف الأسمى للتطور بحسب النظرية الحديثة المتمركزة حول الجينات.

وهكذا تنقسم استراتيجيات التزاوج وفقًا للجنس: يسعى الرجل إلى معاشرة أكثر من امرأة واحدة لأنه جاهز على نحو دائم لنشر جيناته، كما يسعى لاحتكار النساء في مواجهة التنافس مع الرجال الآخرين، بينما تسعى النساء إلى كسب رجل واحد والحفاظ عليه لخفض الكُلفة التي تتحملها هي في التناسل، ولكي تجده جاهزًا كذلك عندما تصبح مستعدة مرة أخرى للتخصيب.

علم نفس الاغتصاب؟ 

لكن العلاقات الجنسية أعقد كثيرًا من أن يمرَّ البحث العلمي بها دون جدل.

حقق علم النفس التطوري سُمعة سيئة بين المتعاطفين مع القيم الليبرالية.

نشر اثنان من علماء النفس التطوري، هما «راندي ثورنهيل» (Randy Thornhill) و«كريج بالمر» (Craig T. Palmer)، كتابًا عام 2000 سمَّياه «التاريخ الطبيعي للاغتصاب: الأسس البيولوجية للجنس القسري». دافع «ثورنهيل» و«بالمر» في كتابهما عن نظرية مفادها أن الاغتصاب هو «استراتيجية تزاوج» طورها الرجال من أجل تمريرٍ قليل الكُلفة ومضمون لجيناتهم، بديلًا عن استراتيجيتهم الأساسية بإقامة العلاقات بالتراضي، أو إلى جانبها.

أثار الكتاب بالطبع قدرًا هائلًا من الجدل، فبصرف النظر عن إشارة النظرية إلى أن الاغتصاب جزء من الطبيعة البشرية؛ فقد سبَّب الكاتبان درجة أعظم من الغضب بسبب توصياتهما للتعامل مع الاغتصاب، التي اشتملت على «الزي المُحتشم للنساء» من بين أشياء أخرى.

استطاع علم النفس التطوري عمومًا تحقيق سُمعة سيئة بين المتعاطفين مع القيم الليبرالية على وجه الخصوص؛ بسبب تشديده على الصور الثقافية النمطية عن الرجال والنساء، وتحويلها إلى طبيعة بشرية.

ويطرح سوء السُّمعة هذا صورة أخرى محتملة لذلك العلم: هل هو بحث شريف عن الحقيقة، أم أنه ملطَّخ بمختلف أشكال الانحياز البشري؟

يرى بعض الباحثين أن جميع نتائج علم النفس التطوري تستلزم التعاطي معها بقدر من الحذر؛ بسبب نشاط هذا العلم في منطقة مُحمَّلة فعلًا بانحيازات وأحكام مُسبقة. يبدو هذا تحذيرًا ضروريًّا قبل تناول ما يقوله علم النفس التطوري في المسألة التي نقصدها.

اقرأ أيضًا: هل اختلاف سلوك الرجال والنساء بيولوجي أم ثقافي فحسب؟

ما رأي علم النفس التطوري في تعدد الزوجات؟

الصورة: Tord Sollie

يرى «مايكل برايس» (Michael E. Price)، أستاذ علم النفس بجامعة برونل الإنجليزية، في مقال له على موقع (Psychology Today)، أن البشر تطوروا ببساطة لممارستهم تعدد الزوجات.

يعتقد «برايس» أن نظام الزواج الأقرب إلى «الطبيعة البشرية» هو تعدد الزوجات.

يعتمد «برايس» في الدفاع عن رأيه على البحوث التي تُجرى على المجتمعات «قبل الحديثة»، التي تُظهر نسبة أعلى كثيرًا للثقافات متعددة الزوجات، مقارنة بالثقافات أحادية الزواج أو ثقافات تعدد الأزواجويعود هذا في رأي الكاتب إلى تفضيل الرجال الذي يفترضه علم النفس التطوري للبحث عن عدة شريكات، بالإضافة إلى تكلفة تعدد الأزواج إذا قورنت بها في تعدد الزوجات.

في تعدد الزوجات، تستطيع المرأة تلقِّي الحيوانات المنوية حتى إذا كان زوجها قد مارس الجنس منذ فترة قليلة مع زوجة أخرى، وهو ما يعني أن الكُلفة «التطورية» التي تتحملها المرأة نتيجة وجودها في علاقة تعدد زوجات أقل كثيرًا من الكُلفة التي يتحملها الرجل في علاقة تعدد أزواج؛ والتي يجب عليه فيها أن يتنظر فترة قد تقترب من سنة حتى يتمكن من ممارسة الجنس مع زوجته، إذا كانت حاملًا من زوج آخر.

يعتقد «برايس»، نتيجة لهذا كله، أن نظام الزواج الأقرب إلى «الطبيعة البشرية» هو تعدد الزوجات. ويطرح هذا سؤالًا ضروريًّا عن انحدار هذا النظام في الدول الغربية، وعن النُّفور العام منه في قطاعات من العرب أيضًا. كيف حدث هذا الانحدار لو كان تعدد الزوجات فعلًا «نظامًا طبيعيًّا»؟

الإجابة التي يقترحها أنصار النظرية عادةً هي «الثقافة».

يدافع «برايس» مثلًا عن رأي مفاده أن أحادية الزواج أنتجت مجتمعات أقوى؛ بسبب عدالة توزيع النساء في هذه المجتمعات. يُشكِّل هذا حافزًا يدفع الرجال للبقاء داخل المجموعة، وعدم هجرها بحثًا عن فرص للتزاوج في مكان آخر، كما يؤدي إلى حالة عامة من الرضا بين الرجال، وهو ما تنتج عنه معدلات جريمة أقل في المجتمعات الأحادية.

المزيد من إثارة الجدل إذًا. فوفقًا لهذا الرأي، تصبح فرضية تعدد الزوجات خلفية نظرية لتفسير الخيانة الزوجية مثلًا؛ فليست هذه الأخيرة إلا تعبيرًا عن الطبيعة البشرية الذكورية، التي لن تكتفي أبدًا بامرأة واحدة.

عظمة القضيب ترُد

مجموعة من عظام القضيب لعدد من الثدييات - الصورة: Ryan Biracree

لكن هذا الحل لا يبدو مرضيًا للجميع. يعتقد آخرون أن لأحادية الزواج جذور بيولوجية واضحة أكثر من كونها عَرَضًا ثقافيًّا ساق الإنسان بمناقضة «الطبيعة البشرية».

يُرجع عدد من الباحثين فقد الإنسان لعظمة القضيب مثلًا إلى تطور أحادية الزواج منذ مليوني عام تقريبًا، الأمر الذي يعني أن أحادية الزواج جزء من الطبيعة البشرية مثلها مثل الهيكل العظمي. ولكن ما علاقة عظمة القضيب بالزواج الأحادي؟

عظمة القضيب هي ببساطة عظمة في القضيب. ومع أن أطوالها تتراوح بشكل هائل من فصيلة إلى أخرى، فإنها تغيب بشكل تمامًا في جسم الإنسان وحده من بين كل الثدييات. وبحسب البحث المذكور، تلعب عظمة القضيب دورًا مهمًّا في إطالة العملية الجنسية، وهو ما يساعد الذكور في «حجز» الإناث المُتنافَس عليهن لأطول فترة ممكنة، لكن الإنسان ﻻ يحتاج لهذه «التقنية»، لأنه، بحسب البحث، أحادي التزاوج منذ مليوني عام.

يقلب هذا البحث فرضية علم النفس التطوري على رأسها، فتعدد الأزواج في هذه الحالة هو الظاهرة الجديدة التي تستدعي تفسيرًا، لا العكس.

قد يهمك أيضًا: مستقبل الجنس: كيف حطمت التكنولوجيا المسافات والقدرات المحدودة في العلاقة الحميمة

المسيحية أم الزراعة، ما الذي شجع الزواج الأحادي؟

الصورة: Janmad

يظل التضارب قائمًا، ويمتد إلى تاريخ التحول إلى أحادية الزواج، فقد كتب الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» (Michel Foucault) في السبعينات والثمانينات عن ارتباط أحادية الحب في العالم الغربي بظهور وانتشار المسيحية. واليوم، يدافع «مايكل برايس» عن رأي مشابه بشأن أحادية الزواج، بينما يرى علماء آخرون أن الزراعة هي التي استحثت الزواج الأحادي؛ بمضاعفتها تأثير الأمراض الجنسية المُعدية في المجتمعات الزراعية.

ينسب «برايس» للزراعة دورًا مختلفًا تمامًا؛ فهي التي أبرزت الطبيعة البشرية التعددية بسماحها لبعض الرجال بتكوين الثروة، وبالتالي بضمِّ أعداد كبيرة من النساء إلى حوزتهم.

رغم كل التضارب، فإن التناول العلمي الرصين لمسألة حساسة مثل هذه ينبغي أن يمتلك الشجاعة باستمرار لطرح إجابات جديدة تبتعد عن القوالب والأنماط الجاهزة، لكن الخطورة تظل قائمة مع ذلك: هل يمكن الفصل بشكل واضح بين «علم رصين» وخطاب علمي يلعب أحيانًا دور الخلفية الأيديولوجية لمُختلف أشكال التمييز؟

لا يبدو أننا سنلقى إجابة حاسمة لهذا السؤال في وقت قريب على الأقل.

أحمد الشربيني