تطور الرومانسية: كيف اكتسبنا القدرة على الحب؟
يصعب وضع تعريف عام يحدد ماهية الحب ويكشف طبيعة هذه العاطفة التي حيرت الإنسانية منذ القِدم، ومع ذلك، لا تزال محاولاتنا مستمرة لتفسير الحب بطُرُق مختلفة منها العلم، إذ يسعى الباحثون جاهدين إلى الوصول لفهم أفضل لهذه الظاهرة.
ويستكشف مقال على موقع «بي بي سي» الفرضيات التي تحاول تفسير أصل الحب، وكيف صار عنصرًا رئيسيًّا ضَمِن استمرار الجنس البشري.
خطوات الحب الأولى
بدأت رحلة الحب مع الجنس، وهو واحد من أقدم النشاطات التي عرفتها الكائنات الحية، فقد نشأ منذ ملياري عام تقريبًا، وأصبح وسيلة عدد هائل من الكائنات لتمرير جيناتها إلى الأجيال التالية وضمان بقائها.
لكن من أجل الشعور بالحب، كان ضروريًّا أن يتطور دماغٌ يمكنه التعامل مع العواطف وفهمها، وهو ما لم يُكتب له النجاح إلا بعد مرور بضعة مليارات من السنوات من بدء الحياة على الأرض.
بدأ تطور أدمغة أول أفراد عائلة «الرئيسيات» التي ينتمي إليها البشر قبل 60 مليون عام، واستغرق ملايين أخرى من السنوات حتى وصل في النهاية إلى إنتاج دماغ الإنسان الحديث، لكن هذا التطور اعترضته مشكلة.
مع نمو أدمغتنا، كان لزامًا أن يولد الأطفال مبكرًا قبل أن تصل أدمغتهم إلى مرحلة الاكتمال، لتجنب إحداث ضرر بالأم بسبب ضخامة حجم الرأس. عَنَى ذلك أن يولد الأطفال وأدمغتهم غير مكتملة وعاجزين عن العناية بأنفسهم، ممَّا استوجب أن يقضي الوالدان مزيدًا من الوقت في السهر على رعايتهم، وكان هذا يعني تهديدًا جديدًا.
وأد الأطفال: خطوة مهمة في مسار التطور
أنواع الكائنات التي فضَّلت الاستقرار في علاقة جنسية مع شريك واحد هي التي قاومت الانقراض.
في عديد من الرئيسيات، لا تكون الأم متاحة للزواج إلا بعد فطام رضيعها، لذا قد يلجأ الذكور في مواسم التزاوج إلى قتل أطفالها أولًا حتى يمكنهم معاشرتها، ومن بين الحيوانات التي تلجأ إلى هذا النوع من القتل يذكر المقال الغوريلا والقرود والدلافين.
انطلاقًا من هذه الملاحظات، اقترح باحث الأنثروبولوجيا الإنجليزي «كيت أوبي» أن الاتجاه نحو إقامة علاقات زواج أحادي لدى هذه الكائنات (استقرار مع شريك جنسي واحد فقط) تطور بغرض منع قتل الأطفال. وبتحليل سلوكيات التزاوج والأبوة عند الرئيسيات، توصل أوبي مع فريقه إلى أن قتل الأطفال سبق ظهور الزواج الأحادي في سلسلة التطور.
بحسب الباحث، الأنواع التي يتجه فيها الذكور والإناث إلى الارتباط بعلاقات متينة تكون فرص بقاء نسلها على قيد الحياة أفضل، لأن الذكور يساعدون في رعاية الأطفال، ونتيجةً لذلك فضَّل التطور هذا النوع من العلاقات.
اقرأ أيضًا: فتوى داروين في تعدد الزوجات: علم النفس التطوري والسلوك الجنسي للبشر
كيف أسهم تطور الحب في تطور البشر؟
يشير المقال إلى أن الزواج الأحادي قد يكون أدى إلى تغيرات في الدماغ مثل تفضيل شريك الحياة وكراهية المنافسين المحتملين، لضمان الحفاظ على العلاقة بين الزوجين مدةً طويلة.
ربما يكون هذا هو الطفرة التي غيرت مسار التطور البشري، فالرعاية الإضافية التي قدمها الذكور ساعدت التجمعات البشرية الأولى على الازدهار، وسمحت لدماغ الإنسان بأن تنمو أكثر من باقي الفصائل الأقرب إليه.
ومع ازدياد حجم الدماغ، ازداد حجم المجموعة ومقدار التعاون بين أفرادها، وهو ما نعاينه لدى الإنسان المنتصب، السَّلَف المبكر للإنسان الحديث والذي عاش قبل مليوني سنة تقريبًا، بينما لم تظهر المناطق الدماغية التي ترتبط بالقدرة على الحب إلا في الآونة الأخيرة من تطورنا.
لدعم هذه الفرضية، أجرت «ستيفاني كاشيوبو»، الأستاذ المساعد في الطب النفسي، دراسة على أجزاء الدماغ التي تشارك في الحب.
توصلت كاشيوبو إلى وجود علاقة بين الحب الشديد ومنطقة التلفيف الزاوي (جزء من أحد فصوص الدماغ) الموجودة عند القرَدَة العليا والبشر فقط، والتي ترتبط بالقدرة على توليد الاستعارات اللغوية، وهذا أمر منطقي، إذ لا يمكن التعبير عن الجوانب المعقدة من عواطفنا بدون لغة مركبة تسمح بتكوين ألفاظ دقيقة ومتنوعة، وهو ما يشير إلى ارتباط الحب بقدراتنا العقلية التجريدية.
الأم مصدر الحب
أيًّا كان السبب، يجب أن نكون شاكرين لأن شيئًا ما دفع البشر للبقاء معًا، وإلا لانقرضنا منذ زمن.
القاسم الذي تشترك فيه جميع الرئيسيات هو الرابطة القوية بين الأم وطفلها، وهو ما فتح المجال أمام فرضية جديدة اقترحها عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي «روبرت سوسمان»، تشير إلى أن عمليات الدماغ المسؤولة عن خلق رابطة قوية بين الأم وطفلها كانت الأساس الذي اعتُمد عليه لخلق الحب الرومانسي.
قد يعجبك أيضًا: الرومانسية الحالمة قد تفسد صحتك
ستكون هذه الفكرة منطقية لو علمنا أن الروابط التي تتكون بين الأزواج خلال علاقاتهم طويلة الأمد تشبه تلك التي تربط الأم وطفلها، وتعتمد كذلك على عمليات هرمونية مشابهة لها، وأظهرت الأبحاث أن الانفصال عمَّن نحبهم، سواءً كانوا بشرًا أو حيوانات، يخلق مشاعر الألم العاطفي، وهو ما يحثنا على تجنبها بالبقاء قربهم.
يتأثر تكوُّن هذه الرابطة عند الثدييات بالجهاز الحوفي المسؤول عن العواطف والانفعالات، الذي ظهر قبل فترة طويلة من ظهور أولى الرئيسيات، إذ نجد في جميع مراحل الحب المعروفة، مثل الرغبة الجنسية والترابط بين الأزواج، أن العديد من الحيوانات كان لديها على الأقل نوع من الاستعداد للحب منذ ملايين السنين.
اقرأ أيضًا: ما الذي يتغير فينا بتأخر أول ممارسة جنسية؟
في مسار الأحداث هذا، دفعت عدة عوامل أجدادنا لتطوير أدمغة أكبر من أي وقت مضى، ممَّا سمح بنشوء الحب الرومانسي في نهاية المطاف.
سواءً تجلَّت هذه العوامل في قتل الأطفال أو في الرابطة بين الأم وطفلها، يجب أن نكون شاكرين لأن شيئًا ما دفع البشر للبقاء معًا، فلولا هذا لربما انقرضنا منذ زمن طويل.
إدريس أمجيش