لأغراض سياسية: قصة اختراع الخير والشر في الحكايات
من الأمور التي يمكن ملاحظة تكرارها بسهولة في قصص الأطفال، أو في القصص الخيالية عمومًا، أنها عادةً ما تقوم على بناء واضح يعتمد ثنائية يتضاد فيها الخير والشر.
البطل هو الخير بالطبع، فهو المدافع عن العقد الأخلاقي للمجتمع والمحافظ على استقراره، في مقابل عدوه الشرير الذي لا يملك أجندة سوى نفسه ومصالحه الخاصة، لأجلها يدوس على الجميع، وليست لديه أخلاق حتى في التعامل مع تابعيه، فلا مانع عنده من سحقهم إذا رغب في ذلك لا أكثر.
لكنك في الحقيقة قد تُدهش وأنت تقرأ النسخ الأصلية، أو النسخ الأقرب إلى الأصل مما هو متوفر لدينا، من قصص الأطفال القديمة والمشهورة في الثقافة الغربية، بل وحتى الأساطير والملاحم، وذلك بالأساس لمدى اختلافها عن النسخ الأحدث المنقحة المنتشرة لدينا منها، وهو ليس مجرد اختلاف في مجريات الأحداث، بل في البنية الأدبية والغرض الحكائي نفسه.
المثير للتأمل أن القصص القديمة تفتقر إلى ثنائية الخير والشر الملازمة لها حاليًّا، إذ لم يكن البطل بطلًا بالمعنى الخيري المجتمعي المعروف لدينا، بل كان بطلًا لأنه ينتصر في النهاية، أو لأنه الأجمل أو الأكثر شبابًا أو الأذكى، أو لأنه طفل ومن الأسهل على الأطفال التوحد معه والإفادة من قصته، أو حتى لأنه البطل، وهكذا أرادت الحكاية.
هذا البطل الذي يتكرر في القصص القديمة لم يكن يحمل هَمًّا أخلاقيًّا يعمل لأجله، فلا هَمّ لديه سوى نفسه، وكذلك تسلية القرّاء بفطنته وخفة دمه وشجاعته، وهدهدة الأطفال إلى النوم أو تخويفهم من الذئاب والظلام والغرباء.
من أين إذًا جاءت هذه الثنائية الأخلاقية كي تحتل قصصًا كانت من قبل أبسط بكثير، ولتصير هوسًا يميز الثقافة الشعبية الحالية، وليصبح البطل مقيدًا بأفكار الخير والصواب الأخلاقي ورمزًا لنصرة المجتمع والعمل على حمايته؟
تٌجادل الكاتبة «كاثرين نيكولاس»، في مقالها المنشور على موقع «aeon»، بأن هذه الثنائية الأخلاقية ما هي إلا نتاج خيال سياسي، يحاول دفع فكرة القومية إلى صدارة المشهد الإنساني الحديث، قومية البطل الخيرية دائمًا في مقابل الآخر الشرير بالطبع. وترى كاثرين أن لهذه القومية الضيقة خطورتها التي قد لا تبصرها وأنت تتماهى مع أخلاق البطل الجميلة، المقبولة اجتماعيًّا، التي لا تخرج عن النمط، فتتساءل متحيّرًا: ما الذي يجعل الدفاع عن الخير والأخلاق والمجتمع أمرًا سيئًا في رأي بعضنا؟
رجلان يحملان فوق ظهريهما كل الحكايات
ربما سمعت عن قصص الأخوين غريم، وعن هذين الرجلين اللذين طافا بالبيوت ليجمعا الحكايات من أفواه الجدّات.
هذه الحكايات كانت شفهية في أغلبها، ولم يبدأ جمعها كتابةً إلا في نهايات القرن الثامن عشر. حدث هذا كرد فعل على تسلُّط فرنسا السياسي والثقافي التالي لثورتها الكبيرة في 1789، وللحروب الاستحواذية التي قادها نابليون بونابارت بجيوشه وعلمائه، والإعلاء الكامل في أوروبا لكل التفضيلات الحضارية الفرنسية.
لكن كانت هناك أسباب أخرى بالطبع أدت إلى حراك مجتمعي جعل هذا الجمع ممكنًا، بل جعله أولوية.
كان هذا عصر تبلور فكرة القومية، والنظر إلى الدولة على أنها جامعة لأفراد ينطقون بلغة واحدة، لا مجرد مساحات شاسعة تنتثر اللغات خلالها دون رابط سوى كنيسة ولغة لاتينية تسيِّر الدين والحكومة. تراجعت الملكية والدين ومعهما اللغة اللاتينية، وجاء العلم والقانون الوضعي والطباعة وانتشار القراءة ليشكِّلا مجتمعات جديدة تبحث عن توثيق يدعم اللغة المختارة لكل دولة، ويجذِّر تراثها، ويُكسبها شرعية تبرر بها هويتها وتعلي من شأنها.
كان الألمان أول المنشغلين بهذا المسعى، خوفًا من ضياع معالم وطنيتهم الجرمانية أمام الفرنسية، وكمحاولة لتخطي الوضع السياسي الممزق حينها، ولريادتهم الفعلية في مجال التنظير الفكري بين شعوب أوروبا.
استجاب كثيرون لدعوات الفيلسوف الألماني «يوهان جوتفريد هيردر» لجمع التراث الشعبي واستلهامه، وكان من أهم المستجيبين الأخوان غريم، اللذان توليا مهمة جمع الحكايات الشعبية الشفهية وتدوينها، في تأكيد عملي لرأي هيردر بأن الروح الوطنية الألمانية تكمن في شكل وطريقة تطور لغة الأمة، وفي تاريخها وما مرت به، وفي خيالها الشعبي المسجِّل لهذا كله.
وهكذا، كانت القصص الشعبية بالنسبة إليه كاشفة عن الشكل الفطري والصافي للفكر المنبثق عن اللغة الألمانية، والمشترك بين جميع الأفراد الناطقين بها.
في قصة «جاك ونبتة الفاصوليا»، يحاول جاك أن يسرق طعام العملاق وذهبه، أي أن بطل القصة لص.
تبعت باقي القوميات الأوروبية هذا المسعى الألماني، وصار استلهام التراث وإحياؤه فضيلة سياسية ووطنية، فلم يقتصر الأمر على جمع الحكايات الشعبية والأساطير والشعر القديم، بل أخذ الأدباء يستلهمونها في إنتاج جديد يحمل معالم خاصة جدًّا بقومياتهم، تميزها عن غيرها، وتقول إنها الأفضل، والأكثر أخلاقية، والأجدر بالفوز في النهاية طبعًا.
اقرأ أيضًا: لماذا أفسدوا ليالي طفولتنا بحكاياتهم المخيفة؟
وقالت الجدات: الهَمُّ اليومي يحرك خيالنا، لا الأخلاق
في سياق الحكي الشعبي القديم، لم يكن أحد يقاتل من أجل القيم.
قد يبين بعض القصص فضائل الكرم والأمانة، لكن يصعب أن تجد اتفاقًا مسبقًا بين كل القصص على تحديد الأفعال المحمودة والأخرى المذمومة، فيمكن أن تُعاقَب شخصية لعصيان النصيحة في قصة، وتنجو بحياتها في أخرى للأمر نفسه. بمعنى أوضح: لا يوجد تعريف واضح للصواب والخطأ، وبالتالي للأخلاق.
في قصة «الخنازير الثلاثة»، ليست الخنازير خيِّرة والذئب شريرًا، بل هي مسألة جوع لا أكثر، ولو كانت الخنازير تتناول اللحوم هي الأخرى لما توانت عن مطاردة الذئب.
لا تحتوي القصص القديمة، بشكل واضح، على التيمة الثابتة للبطل الطيب والعدو الخبيث، ولنضرب مثلًا. هل تعرف قصة «جاك ونبتة الفاصوليا» في نسختها الأصلية؟ إنها تحكي عن الفتى الذي حصل على حبوب فاصوليا سحرية مقابل بيع بقرته، وحين زرع الحبوب انبثقت منها شجرة ضخمة أوصلته إلى السماء حيث أرض العملاق، وهناك حاول جاك أن يسرق طعام العملاق وذهبه، أي أن بطل القصة مجرد لص، دون تبرير أو محاولة شرح سلوكه.
حاولت الصيغ الجديدة من الحكاية اختلاق تفسيرات مختلفة تبرر ما فعله جاك، بعضها جعل من العملاق غولًا يأكل الأطفال ويستحق العقاب، وبعضها ادّعى أنه سرق مال والد جاك في الماضي، وبالتالي فإن جاك يحاول استرداده فحسب.
في قصة «الجَمال النائم»، لم تكن الأميرة تدافع عن الخير مثلًا بأي شكل، لم تفعل سوى أن ظلت نائمة حتى أيقظها أمير كانت وظيفته المجيء إليها وتقبيلها. وحتى سندريلا، في القصة الأصلية، لم يُطلب منها أي شيء سوى أن تكون جميلة، وأن تكون قدمها صغيرة.
وفي قصة «الخنازير الثلاثة»، ليست الخنازير خيِّرة والذئب شريرًا، بل هي مسألة جوع من الذئب، ولو كانت الخنازير تتناول اللحوم هي الأخرى لما توانت عن مطاردته واتباع ذات أساليبه للحصول على الطعام.
ومع أن الأمر أشد تعقيدًا في الملاحم الكبيرة مثل الإلياذة، فإنه يظل نفسه. تحكي الملحمة الإغريقية عن فريقين (الإغريق والطرواديون)، وبها شخصيات تصارع من أجل قيم أخلاقية، لكن لا يمثل أيٌّ منهما الخير والآخر الشر كما في قصصنا الحديثة، ولا يحمل «أخيل» أو «هكتور» قِيمًا لا يتبناها الآخر، ولا يحارب أحدهما لحماية العالم من الفريق الآخر، بل لكلٍّ منهما مصالحه الخاصة فقط ولا يقاتل من أجل شيء خارج عنها.
حِصة تلوين: الخير بالأبيض والشر بالأسود يا أولاد
كان الأخوان «جايكوب كارل غريم» و«فيلهلم كارل غريم» مختلفي الطباع، فجايكوب أمضى حياته دون زواج، وهو في عمله صارم وملتزم بالمنهج العلمي، أما فيلهلم فتزوج وأنجب أطفالًا، وكانت صحته هشة، وكان أديبًا ذا نَفَس كتابي يشبه حَكّائي الزمن القديم أكثر منه باحثًا.
جمع الأخوان في «مجموعة حكايات الأطفال والأسرة» 200 حكاية، صدرت في جزئين: الأول عام 1812، والثاني عام 1815. ثم توالت الطبعات والتنقيحات حتى عام 1857. وكانت لفيلهلم ذي الروح الأدبية اليد الطولى في اللعب بالقصص الأصلية، ملء فجوات الحبكات، إضافة التعليقات التي توضح المداليل الأخلاقية، سواء وُجدت أم لم توجد.
في كتابها «The Hard Facts of the Grimms’ Fairy Tales»، تُعلِّق الأكاديمية الأمريكية «ماريا تاتار» على هذا بقولها إنه «بدلًا من التصالح مع غياب نظام أخلاقي (...) أصرّ [فيلهلم] على إضافة تصريحات أخلاقية، حتى حيثما لم تكن هنالك عبرة».
أكدت هذه الإضافات أن القيم الأخلاقية كانت ساحة الصراع الحقيقية في الدراما الشعبية، وهو ما أثر في رأي علماء الفلكلور التالين له، فاقتنعوا بالأخلاقية الفطرية للقصص الشعبية، حتى إذا لم تظهر في بنائها أي عظة أخلاقية.
هذا التعديل الأخلاقي للقصص كي تلائم هدف جمعها (إعلاء القومية الخاصة) تبعه الباقون بالطبع، فبدأ المؤلفون الآخرون في تغيير القصص القديمة كي تحوي تمييزًا أخلاقيًّا بين البطل وعدوه.
هكذا، تحول «روبن هود»، الذي كان خارجًا عن القانون ويحيا بصخب وسط رجاله في الغابة، إلى سارق نبيل يسطو على المال من الأغنياء ليعطيه للفقراء، في نسخة «جوزيف ريتسون» التي كُتبت من أجل إذكاء انتفاضة شعبية بريطانية بعد اندلاع الثورة الفرنسية. وتحول منافسه مأمور شرطة نوتنغهام من مجرد عدو عادي ورجل قانون يحاول ممارسة عمله، إلى شخص لا أخلاقي يمثل الاستغلال السيئ للسلطة ضد الضعفاء.
توالت التعديلات المطولة على باقي القصص، سواء داخل الدولة الواحدة تصارعًا على الحكم وتحقيقًا للعدل، أو داخل البيت الواحد غيرةً وحسدًا.
بالطبع لم تبقَ الحكايات الشعبية على حالها من ذلك الحين، بل مرت بتغيرات كثيرة جدًّا لأغراض أدبية وغير أدبية، فصارت بين يدي أدباء بأسماء معينة، يعيدون كتابتها ويلتزمون بخط الحكاية الأصلي، أو يغيرونه تمامًا بما يناسب أهدافهم، ثم يُشتق منها الأدب الفانتازي ذو التفرعات الكثيرة، وتحترف شاشة السينما تحويلها إلى أفلام جماهيرية.
بالغسيل الجيد، يمكن لبعض القلوب السوداء أن تصير بيضاء
الأدهى أن الاختلاف لم يقتصر على إدخال هذه ثنائية الخير والشر إلى الحكايات، بل صارت للخير قوة جديدة، فمن الممكن أن يفقد الشرير هويته بمجرد تخليه عن قيمه السابقة وتحليه بقيم الخير والفضيلة. ومع كل الموسيقى التأثيرية الممكنة، ينبلج الخير في قلب الشرير في لحظة عاطفية طاغية داخل خيالنا الحديث، فيعُم البياض المشهد: ملك الخواتم، هاري بوتر، بافي قاتلة مصاصي الدماء، إلخ.
ولأن الشر والكراهية والحسد هو الجزء المحوري من تكوين الشخصية المنافسة، تفقد هويتها وتتحول إلى شخص آخر بمجرد تخليها عنه، إذ لا توجد أي خاصية تميزها عن غيرها من البشر، ولا تملك شيئًا من الاتساع الإنساني الطبيعي في مداها النفسي، مجرد شخصيات أحادية الجانب، تتحرك وفق موضعها على خشبة المسرح، في الظل أو في النور.
بالطبع، وكما هو متوقع، يتقبل الجانب الطيب كل التائبين، ليصبحوا محاربين من أجل العدالة، على عكس الجانب الشرير الذي لا عطف لديه، ولا يوجد ولاء حقيقي بين أعضائه لبعضهم بعضًا حتى.
فرقة العدالة: شرح القانون الوضعي لعالم عبثي
لا تحمل ثنائية الخير والشر أي عمق أخلاقي حقيقي، ولا تفيد إلا في حث الشباب على التجنيد في الجيوش، أي تروِّج لأجندات سياسية لا أكثر.
تأتي الأزمة في خروج هذا التمثل الأدبي إلى الواقع، والنظر إلى العالم بنفس الطريقة، فنحن كمجموعة مجتمعية نرى أنفسنا الأفضل، أو نحن كدولة نقرر أننا نمثل رسالة الخير والديمقراطية، وأي معارض لنا شرير بالضرورة، ومن ليس معنا، فهو بالضرورة علينا، لأنه لا يوجد مكان آخر أصلًا.
قد نرسل طائراتنا لضرب الأعداء في أي دولة أخرى ولن يرى أحد أننا مخطئون، لأن لدينا منابر خيالية تبُث في عقول شعبنا كل القصص التي تصنع من أبطالنا «سوبرهيروز»، ومِن كل «آخَر» كائنات شريرة حمقاء ليس لها قِيم، مجرد «أشرار» يركبون الجمال أو يعيشون في الأحراش والغابات وينطقون بلغات مثيرة للضحك.
بالنسبة إلى كاتبة المقال كاثرين نيكولاس، لا تحمل ثنائية الخير والشر أي عمق أخلاقي حقيقي، ولا تفيد إلا في الترويج لادعاءات الاستقرار المجتمعي، وحثِّ الشباب على التجنيد في الجيش وترك بيوتهم والرحيل إلى حروب في بلدان لا يعرفون موقعها على الخريطة أصلًا، أي أنها تروِّج لأجندات سياسية لا أكثر، وربطها بالفلكلور والأساطير القديمة يمنحها شرعية تقوِّي موقفها.
لكنها في الحقيقة لا تنبع من أي رؤية أخلاقية، ولا تساعد إلا في تسطيح نظرتنا ودعم ميولنا الاستسهالية لتقييم الآخرين وحصرهم ضمن تصنيفات لا تقترب في شيء من الواقع، بل في المقابل، تجعل من القتل العمد بطولة، ومن معسكرات الاعتقال حَجْرًا صحيًّا يؤدي الغرض منه بأفضل ما يكون. لأن الشيء الوحيد الذي يعملنا إياه أبطالنا الطيبون أن الآخرين يختلفون عنا، أقل منا، يريدون أذيتنا، وعلينا مسامحة أي تجاوز يصدر عن جانبنا الطيب خلال محاولته البطولية جدًّا لحمايتنا والقضاء على أعدائنا.
سارة العناني