زرع، حصد: النتائج الكارثية لقسوة الآباء
«وجدتني في الحلم أمارس الجنس معه، كنت أقوده، أعنِّفه، أسيطر عليه كليًّا (...) استيقظت من الحلم مذعورة، مرتبكة، لم أبكِ، لكني سمعت خفقان قلبي. كان جسدي باردًا، وحلقي ناشفًا، وسؤال واحد يتكرر دون جواب: كيف أمارس الجنس مع أبي؟».
تعاني إيمان علاقة متوترة مع أبيها، لم تترد كثيرًا قبل أن تفصح عن كراهيتها له: «كان دائم التعنيف لي، يضربني بقسوة، ولا يتركني إلا والكدمات والدم على جسدي». لكنها نفت عنه أي تحرك جنسي تجاهها: «لم يتحرش بي قط، فكيف أمارس الجنس معه في الحلم؟».
الدكتور أحمد عبد الله، أستاذ الطب النفسي، يوضح أن هناك علاقة كبيرة بين الجنس والعنف: «العنف الذي يمارسه الأب عليها تُرجِمَ في عقلها، طبقًا لمدرسة التحليل النفسي، إلى جنس، وفي الحلم كانت تنتقم منه بأن تجبره على ممارسة الجنس معها، وتقوده في تلك العلاقة التي تملك فيها السلطة عليه».
انعدام ميكانيزمات التكيف يخلق مجتمعًا عدوانيًّا
الفقر وعدم القدرة على تلبية حاجات الطفل تجعل الأب يشعر بالعجز، فيمارس العنف تجاه الابن.
تتذكر إيمان، الفتاة المصرية الشابة ذات الستة وعشرين عامًا، أول عنف بدني وجهه لها والدها بقسوة: «كان عمري ست سنوات، وكنت أحضر حفلًا في المدرسة، وهو جاء ليقلني بالسيارة مع إخوتي مثل كل يوم. لكني تأخرت 10 دقائق داخل المدرسة كي يوزعوا علينا هدايا الحفل».
تشرد بعينيها بعيدًا، وتتغير نبرة صوتها، ثم تكمل: «لم يعطني أي فرصة لتفسير الأمر، لم يسمعني، أمسك كوب القهوة الزجاجي وانهال به على رأسي مرات ومرات. خفت أن أحرك رأسي كي لا يضربني بشدة أكبر، خفت أن أبكي لأني أعرف أنه يكره البكاء ويعنفني أكثر. تركته حتى انتهى مني وأوصلنا إلى البيت ورحل».
تتعدد أسباب العدوان بشكل عام بين بيولوجية ونفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ويشرحها الدكتور عبد الله لـ«منشور».
فالأسباب البيولوجية تكون نتيجة تلوث الغذاء بمواد مثل الرصاص، فتترسب أجزاء منه في المخ وتزيد من قابلية الفرد للميل إلى العنف. الأسباب الاجتماعية ربما تنتج عن الضوضاء، في حين أن التنشئة النفسية عليها عامل كبير، فالشخص المعنَّف إما أن يميل إلى العزلة وينطوي على نفسه، وإما أن يتحول إلى شخص عنيف يعيد إنتاج العنف الذي مورس عليه.
أما الأسباب الاقتصادية، كالفقر والبطالة وعدم القدرة على تلبية احتياجات الطفل، فإنها تجعل الأب يشعر بالعجز، فيمارس عنفًا مضادًّا تجاه الطفل. وتأتي الأسباب السياسية لتغلف المناخ العام بالعنف والعدوان.
يرى الدكتور عبد الله أن هناك عددًا من الأسباب العامة التي تزيد من نزعة الأفراد إلى استخدام العنف مع عدم وجود ميكانيزمات التكيف، موضحًا أن «هناك كفتان، واحدة مليئة بالضغوط، سواء اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، والأخرى تحاول خلق مواءمة أو توزان، مثل ممارسة الرياضة أو الهوايات أو سماع الموسيقى، فحين يكون هناك متنفَّس يحدث التوازن. تلك الكفة غير موجودة في الثقافة المصرية، وتعد رفاهية، ما يؤدي إلى ميل كفة الضغوط، فيصبح المجتمع لديه زيادة في نزعة العدوان».
قد يهمك أيضًا: كيف نضع حدًا لتعنيف الأطفال؟
تمناه ذكرًا.. فأذله
«لو سألتيني عن أكثر شخص أكرهه في الدنيا، سأقول أبي». أعاد آدم صياغة سؤالي عن علاقته بوالده، وبدأ يحكي.
جاء ذكرًا على أربعة إناث بعد اشتياق وإصرار من الأب على مجيئه، وابتهالات من الأم لتلبية رغبة الزوج. كان الأب دائم القسوة مع بناته، أعلنها بكل بساطة: «أريد ذكرًا».
في عام 1995 جاءته البشرى، تحمل الزوجة في رحمها ذكرًا، يحمل الجنين بدوره اسم والده، ويحمل الأب سعادة من لم يُرزق بأبناء من قبل، وتحمل الشقيقات غصة في الحلق والقلب أيضًا، فالآتي عليهن أسوأ.
جاء آدم، وسُخِّرت البنات لخدمته وامتصاص غضب الأب حتى إذا كان ذلك الغضب من «الصغير». مرت سنواته الأولى وهو قرة عين والده، ذلك الضخم قاسي القلب مع بناته يتحول في يد صغيره إلى قطعة من الصلصال، يسبه فيضحك، يصفعه بكفه الصغير فيدير له الآخر.
أفسده الدلال الزائد، تيقن الأب بعد أن شب الصغير وأكمل من العمر 10 أعوام، قرر حينها أن القسوة، تحديدًا القسوة المفرطة، ستصلح ما أفسده الدلال. بدأ بتعنيفه وضربه في كل مناسبة وعلى كل خطأ، يبكي آدم، فيستفيض الأب في تعنيفه.
يظل مخزون العنف مع الطفل حتى يصل إلى سن المراهقة، ثم يبدأ في الظهور ويكون أكثر حدة.
لم يرسب آدم طوال مراحل التعليم المختلفة، لكنه لم يكن متميزًا، كان يتخطى مرحلة النجاح بدرجة واحدة، حتى إن مجموعه في الثانوية العامة لم يتجاوز 56%، دخل على إثرها أحد المعاهد الخاصة.
في مراهقته تعاطى الحشيش والبانجو والحبوب الكيميائية: «كنت أعرف أنه يعرف، وهو كان يعرف أنني أعرف أنه يعرف. بعد كل تعاطٍ كان يوبخني، يصفعني، يكز على أسنانه حتى تكاد تنكسر. وهو يضربني بالسوط كنت أبتسم لأني أوصلته إلى تلك الحال. لم أدرك حينها أنني كنت أتعاطى الحبوب حتى لا أشعر بآلام الضرب، لكنني أدركت ذلك في فترة لاحقة وكرهته». يرى آدم أنه لم يُفسِد نفسه، لكن والده الذي رباه على الخطأ أفسده، وحين قرر أن يصلحه كسره.
تتعدد أشكال انتقام الأبناء من آبائهم، وتختلف طبقًا لنوع القسوة والعنف الممارَس عليهم. هذا ما يؤكده لـ«منشور» الدكتور أحمد أنور، أستاذ الاجتماع في جامعة عين شمس.
يوضح أنور أنه من الممكن أن يكون الانتقام أمرًا مُلحًّا لكن دون أن يعيه الطفل، فيظهر في أحلامه، أو يجعله يرسب في التعليم، أو يخالف القوانين: «يرتد العنف على الذات عند بعض الأشخاص، فيظهر في قضم الأظافر وتعاطي المخدرات، والانحراف الأخلاقي والجنسي».
أشكال الانتقام البسيطة، بحسبه، مثل التأتأة في الكلام والتبول اللا إرادي ورفض الأكل، تظهر في مراحل مبكرة من عمر الطفل، بينما يظل مخزون العنف حتى يصل إلى سن المراهقة، فيبدأ في الظهور ويكون أكثر حدة وعنفًا.
اقرأ أيضًا: العاقبة والعقاب: عندما ننتقم من أطفالنا دون أن ندري
قانون معاقبة الأب معطل بأمر القاضي
علاقة الأب والابن في نظر المجتمع غير محددة ولا مشروطة، فالابن ملك لوالده، يفعل به ما يريد دون حساب.
«كان أبي يحب الأوامر، يكره الجدال والنقاش، وأنا كنت الوحيدة بين إخوتي التي تصر على الفهم والاقتناع. لم يعجبه ذلك، وفي إحدى المرات قذفني بمطفأة السجائر الزجاجية التي كانت ضخمة للغاية. أخطأ أبي التصويب فأحدثت المطفأة ثقبًا في الحائط، فاغتاظ لأنها لم تصبني في وجهي، فهَمَّ بركلي وضربي بقبضته حتى كسر فكي»، هكذا تحكي إيمان.
في كل مرة تتلقى فيها العنف من والدها تقتله في خيالها. تتمنى الفتاة لو تحمل سكينًا وتطعنه في صدره مرة تلو الأخرى حتى تنتهي منه إلى الأبد، لكنها لا تفعل. فكرت أن ترحل عن البيت وتصل إلى أقرب مركز شرطة للإبلاغ عنه، لكن دموع أمها أوقفتها.
ربما كانت توسلات الأم ودموعها ذريعة جيدة حتى لا تصاب إيمان بخيبة أمل حال لجوئها إلى القانون الذي تكاتف مع والدها ضدها، فطبقًا للمادة (7) مكرر (أ) من «قانون الطفل» المصري، يجب «مراعاة واجبات وحقوق متولي رعاية الطفل، وحقه في التأديب المباح شرعًا».
يؤكد هاني هلال، أمين عام الائتلاف المصري لحقوق الطفل، أن اللجوء إلى القانون لمعاقبة الأب العنيف مع أبنائه غير مُجدٍ: «المشكلة الرئيسية في ثقافة المجتمع ونظرته إلى علاقة الأب بأبنائه، فهو يرى أنها علاقة غير محددة وغير مشروطة، وأن الابن ملك لوالده يفعل به ما يريد دون حساب أو مُساءلة».
دخلت المادة (7) مكرر (أ) من قانون الطفل إلى مجلس الشورى أكثر من مرة، ورُفِضَت، وكانت المادة المعروضة تنص على أنه «يُحظر تعريض الطفل عمدًا لأي إيذاء بدني ضار أو ممارسة ضارة أو غير مشروعة»، وأضاف المجلس إليها «مع مراعاة واجبات وحقوق متولي رعاية الطفل وحقه في التأديب المباح شرعًا، يُحظر تعريض الطفل عمدًا لأي إيذاء بدني ضار أو ممارسة ضارة أو غير مشروعة»، طبقًا لهلال.
النص لم يحدد أن الأب أو الأم هما اللذان من حقهما، فقط، تأديب أبنائهما، بل أشار إلى «متولي رعاية الطفل»، أي المعلم في المدرسة، والمشرف في دار الأيتام، والوصي على الطفل، من حق كل هؤلاء تأديبه وضربه.
في عام 1931 بدأ الحديث عن تجريم ختان الإناث، وحتى 2008 كانت نسبة التقدم لا تتجاوز 0.5% طبقًا لهاني هلال، وبعد أكثر من 70 عامًا على إصدار مادة قانونية صريحة تجرم ختان الإناث، إضافة إلى التوعية المجتمعية المستمرة لتغيير تلك الثقافة السائدة من خلال المجتمع المدني، زادت نسبة التقدم زيادة ملحوظة: «تعنيف وضرب الآباء لأبنائهم عادة مجتمعية تحظى بقبول أكثر من الختان، حتى إن الموروث المجتمعي والأمثال الشعبية في معظمها تحض على تعنيف الأبناء من أجل تربيتهم».
يرى هلال أن وجود استراتيجية موحدة تهدف بالأساس إلى تغيير نظرة المجتمع لعلاقة الأب بابنه، بدءًا من المشرعين والقضاة والقائمين على القانون والموظفين، إضافة إلى جلسات توعية من المجتمع المدني، من شأنها أن تحد من العنف تجاه الطفل.
«لو عوقب الأب على إلحاق الأذى أو الضرر بابنه، سيحد هذا بشكل كبير من تكرار الأمر، فضلًا عن أنه سيقلل من احتمال انتقام الأبناء من آبائهم».
تقضي الفقرة (2) من المادة (96) من قانون الطفل بعقوبة الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر أو بغرامة لا تقل عن 2000 جنيه ولا تتجاوز خمسة آلاف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من عَرَّض طفلًا للخطر أو العنف أو الإساءة، لكن أغلب القضاة، بحسب هاني هلال، يرفضون تطبيق تلك المادة في حالات العنف الأسري، ويتمسكون بالمادة (7) مكرر (أ) كمَخرج حتى لا يعاقَب الأب عملًا بـ«حقه في التأديب المباح شرعًا».
كان والد آدم يعتقد أن تعنيفه المستمر وضربه بالسوط حق له، لكن الأب تقدم في السن ولم تعد صحته تسعفه، وتفسخت العلاقة بينه وبين وحيده الذي اشتد عوده. حين يرفع الأب صوته معتمدًا على قوته السابقة، يناطحه الابن بشراسة لم يعهدها الأب، فيتراجع الأخير.
في إحدى الليالي أحضر آدم فتاة إلى غرفته، كان والده نائمًا في الغرفة المجاورة، ثم استيقظ على أصوات وهمهمات تخرج من غرفة ابنه. طرق الباب ففتح آدم، رفع الأب صوته، فنهره آدم، تراجع الأب، أغلق الابن الباب لدقائق، ثم خرج مع الفتاة متحديًا إياه.
العنف ينتج عنه إخلال بالاحترام حين تسمح القوة البدنية بذلك، هذا ما يؤكده أحمد عبد الله: «هو لا يعبأ بوجوده، لا يكن له أي احترام، ينتقم منه بشدة»، وهذا الفعل يتكرر كثيرًا بين الأبناء المعنَّفين تجاه آبائهم: «يعتقد الابن أنه بذلك يذل والده، إما بعدم احترامه له، أو لأن قدرته الجنسية ضعفت بسبب السن، فيتعمد إغاظته لأنه يستطيع ممارسة الجنس والأب لا يستطيع، وهذا في ثقافتنا شأن عظيم».
تزوجت إيمان من أول شخص تقدم لها. كانت تسابق الزمن لترحل من البيت، أو بمعنى أدق، من أبيها: «لم أكن أحبه، لم أكن أعرفه، لكنه كان المنقذ بالنسبة لي. مر على زواجنا أربع سنوات، ومن أول يوم فيها منعت أبي من دخول بيتي».
مع أول حادثة عنف تعرضت لها إيمان على يد أبيها أصابتها صدمة، ويؤكد عبد الله أن الصدمة التي تنتج عن العنف من الشخص المنوط به الرعاية والحماية تشكل ما يسمى «الذاكرة الصدمية»، ولو لم يُعالَج الطفل تظل تلك الصدمات مُخَزَّنة، وعند رؤية أو حدوث أي عنف مشابه تُستعاد الذكريات على هيئة كوابيس، إما أن تكون مؤذية للابن، وإما انتقامية من الأب.
يحذر عبد الله من استخدام العنف مع الأبناء، فما تزرعه طوال سنوات عمرك تجنيه في آخر الأمر: «انتقام الأبناء من قسوة آبائهم أمر حتمي، ربما يختلف من شخص إلى آخر، وربما يتدرج بدءًا من الخيال والتجاهل والأحلام وصولًا إلى العنف اللفظي والبدني»، بينما التسامح، ربما، غير وارد بالمرة.
رشا جدة