عاجز؟ أنا كذلك: أطباء على كراسٍ متحركة
«شيري بلاويت»، طبيبة أمريكية تدرس في السنة الثالثة من مرحلة التخصص في جامعة ستانفورد، فوجئت بتكليفها بتقييم عمل منضدة جديدة تُستخدم لمساعدة ذوي الإعاقات الحركية، لكن دهشتها لم تكن أكبر من دهشة مندوب شركة المعدات الطبية عندما سألته: «هل عليّ تقييم المنضدة كطبيبة أم كمستخدمة؟»، ذلك لأنها طبيبة علاج طبيعي وتعاني إعاقة حركية في نفس الوقت. ويعرض مقال منشور في جريدة نيويورك تايمز قصتها.
هل أنتِ عاجزة؟
اختلفت ردود أفعال المرضى عند اكتشافهم أن طبيبتهم ليست أحسن حالًا، فالمرضى الأكبر سنًّا يبدوا عليهم الاستياء أو الفزع، بينما يتقبلها الشباب.
عرضت شيري بلاويت قصة بطولتها في مواجهة الإعاقة الحركية من منظور لم يتطرق إليه كثيرون، إذ أنها من أولئك القلائل الذين لم يجدوا حرجًا في العمل في مجال العلاج الطبيعي وإعادة التأهيل، رغم أنها من أشد المحتاجين إليه، ورغم كل ذلك لم تحقق نجاحات طبية فقط، بل رياضية أيضًا، مستمدةً إصرارها من نظرة مرضاها إليها.
وُلدت بلاويت عام 1980 لأبوين مزارعين، وتعرضت في عامها الثاني لإصابة في الحبل الشوكي تسببت في إعاقة حركتها مدى الحياة، إلا أنها مثّلت بلادها في ثلاث دورات للألعاب البارالمبية، وحققت عددًا من الميداليات.
على مدار سنوات عملها كطبيبة، عاينت شيري ردود أفعال مختلفة للمرضى عند اكتشافهم أن طبيبتهم ليست أحسن حالًا منهم، بل ربما تكون في حال أسوأ. لاحظتْ أن ردود أفعال المرضى تختلف بين الأجيال، فالمرضى الشباب يَبدون أكثر تقبلًا، ربما لأن ذوي الاحتياجات الخاصة أصبح لهم أخيرًا دور فاعل في مختلف المجالات، بينما ترى على ملامح المرضى الأكبر سنًّا التعجب والاستياء وأحيانًا الفزع، ربما لِما نشؤوا عليه من أفكار عن المُقعَدين.
ذات يوم، دخلت بلاويت بمقعدها المتحرك غرفة إحدى المريضات المسنات، وبمجرد أن رأتها وضعت يدها على يد الطبيبة ونظرت إليها في شفقة، وسألتها: «هل أنتِ عاجزة؟». وفي موقف آخر، مريض مسن مرح رأى بلاويت فقال لها: «لا بد أن هذه مزحة»، حتى أنها تشعر في بعض الأحيان أن المرضى يترددون في شرح مشاكلهم الصحية لها، بما أن ما تعانيه أكبر مما يعانونه.
قد يهمك أيضًا: هل يمكن دمج جسد الإنسان والآلة؟
بمرور السنين، بدأت بلاويت تتيقّن من أن مثل هذه المواقف التي كانت تؤذيها ما هي إلا أحكام مسبقة، نتيجة نقص تجارب المرضى مع أطباء مقعدين.
أثبتت إحصائية ينقلها المقال أن أقل من 3% فقط من الأطباء تحت التمرين في كليات الطب يعانون إعاقات، ومِن بين هذه النسبة الضئيلة نسبة أقل تعاني إعاقات حركية، فكيف نطمع بعد ذلك أن يتقبل المرضى أطباء مُقعَدين وهم لم يعتادوا رؤيتهم؟
لهذا لا يصبح المعاق طبيبًا
إحجام المقعدين عن دخول مجال الطب يرجع إلى أسباب معقدة، فالأمر ليس مجرد خوف من أن تمنع الإعاقة الطبيب من إتمام مهامه، فهناك من الأدوات ما يعينه على ذلك.
المشكلة الكبرى تكمُن في التحيز ضد تلك الفئة وتصنيفها عنصريًّا، سواء أكان ذلك معلَنًا أم خفيًّا، تحت مسمى «معايير القبول الفنية» لكليات الطب، ما يجعل الطلاب يفكرون أكثر من مرة قبل أن يُصَرحوا بمرضهم في طلبات الالتحاق، وتلك الحيرة تنتهي في كثير من الأحيان بتخلي الشاب عن حلمه، وامتهان أي وظيفة أخرى أكثر قبولًا مجتمعيًّا.
يعاني أصحاب الإعاقات غالبًا من ظلم وتفرقة في المعاملة، ووجود أطباء من ذوي الاحتياجات الخاصة أحد الحلول للتغيير.
لم تكن بلاويت وحدها التي تعاني، فـ«ليزا ليتسوني»، الأستاذة في كلية الطب بجامعة هارفارد الأمريكية، صاحبة خبرة في مواجهة النظرة المجتمعية لذوي الاحتياجات الخاصة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
خلال عامها الدراسي الأول في كلية الطب، شُخِّصت حالتها بمرض التصلب المتعدد، وبعد أن تكرر سقوطها أرضًا، أصبحت تستعين بعصى للسير.
ينقل المقال عن ليتسوني أن أحد أسوأ المواقف التي تعرضت لها كان في عشاء لطلاب وأساتذة الجامعة، حين قال لها أحد الأساتذة: «لدينا حاليًّا عدد كبير من الأطباء، بما لا يجعلنا نتحمل عناء تدريب أطباء معاقين». ورغم كل ما تلقته من إحباط، فإنها استمرت في دراستها وعملها حتى أصبحت زميلة لمن سَخَر من إعاقتها.
ربما كان القاسم المشترك بين ليتسوني وبلاويت هو تجاهل النظرة الدونية لقدراتهما، ومواصلة طريقهما دون أن يُنقص المحبطون من إصرارهما، وهو ما أكدته بلاويت حين تقدمت للالتحاق بكلية الطب، ففضلت أن لا تستهلك طاقتها في الظلم الذي قد تقابله، وتوفِّرها لتحسين أدائها الدراسي. بل إنها بالتزامن مع التفوق في الدراسة، استطاعت ممارسة رياضة العدو بالكرسي المتحرك، وتمثيل الولايات المتحدة في دورة الألعاب البارالمبية.
يتعرض أصحاب الإعاقات غالبًا لظلم وتفرقة في المعاملة وإهمال لحالتهم الصحية، وإن كان هذا الوضع لا بد له أن يتغير، بحسب بلاويت، فإن وجود أطباء من ذوي الاحتياجات الخاصة هو أحد أهم الحلول العملية للتغيير، فعندما تعكس مهنة مثل الطب التنوع الموجود في المجتمع، سيُسهِم ذلك دون شك في رفع الوعي، مما يصُب في مصلحة الجميع.
غير لائق طبيًّا لمهنة طبيب
النظرة الدونية إلى الطبيب المعاق من الأمور النادرة المشتركة بين المجتمعات الشرقية والغربية، ونجد أمثلة من أصحاب الإعاقات في مجتمعاتنا العربية تملؤنا فخرًا بإصرارهم، وحزنًا في نفس الوقت لما لاقوه من صعوبات وتحديات من المجتمع.
أبرزت صحيفة «الأهرام» المصرية قصة طبيب أسنان يُدعى نبيل سليمان، أصيب بمرض شلل الأطفال، ما جعله في تحدٍّ دائم مع نظرة المجتمع منذ أن كان في مرحلة الدراسة الابتدائية، مرورًا بسخرية أساتذته وزملائه في المرحلة الجامعية، حتى مجابهة العوائق الروتينية بعد أن أصبح طبيبًا.
جاءت نتيجة الكشف الطبي على نبيل سليمان أنه «غير لائق طبيًّا لوظيفة طبيب».
سليمان، الذي بدأت معاناته منذ عمر عامين بسبب عدم فعالية تطعيم شلل الأطفال، قضى معظم طفولته في زيارة المستشفيات، وبدأت معاناة أخرى في دراسته الابتدائية، إذ ظل وحيدًا دون أصدقاء بسبب حالته الصحية، لكن سخرية زملائه من طريقة مشيه لم تزده سوى إصرارًا على مواصلة الدراسة والتفوق على من يسخرون منه، حتى أنه في الثانوية حصل على مجموع درجات أهّله للالتحاق بكلية طب الأسنان.
لم يختلف ما حدث بين ليتسوني وأستاذها عما وقع لنبيل سليمان، فأستاذ جامعي مصري قابل سليمان في بداية مرحلة الجامعة وقال له: «أرى أن الكلية صعبة عليك نظرًا لظروفك الصحية، ليتك تنتقل إلى كلية أخرى تناسب ظروفك»، لكن سليمان واصل التفوق وحصل في عامه الثالث على لقب الطالب المثالي على مستوى الكلية، وأنهى دراسته في المركز السادس.
يطول الحديث عن العراقيل الروتينية التي لاقاها الطبيب الشاب، لكن يكفي ذكر أنه عندما صدر أمر تعيينه في إحدى مديريات الشؤون الصحية، جاءت نتيجة الكشف الطبي أنه «غير لائق طبيًّا لوظيفة طبيب»، وعندما صَعّد الأمر لاقى رفضًا في البداية بحجة أن هذا هو القانون، وبعد محاولات وافق أحد المسؤولين على قبول أوراق تعيينه، رغم تأكيده أن «هذا غير قانوني».
واصل سليمان نجاحاته على المستوى الأكاديمي والعملي والشخصي، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه، وصار استشاريًّا علميًّا في الهيئة العامة للمستشفيات والمعاهد التعليمية. وبعد فترة، افتتح عيادته الخاصة وتزوج وأنجب ثلاثة أطفال، ويعيش حياة طبيعية كافح طويلًا من أجلها.
اقرأ أيضًا: أطراف صناعية رخيصة: وعود طبية هائلة تقدمها الطباعة «ثلاثية الأبعاد»
فاقد الشيء قد يعطيه
نموذج مُشرف آخر في المنطقة العربية هو الطبيب اللبناني جميل زغيب، الذي أصيب بمرض قاسٍ يُدعى التصلب الجانبي الضموري (ALS)، يصيب الخلايا العصبية المسؤولة عن حركة العضلات، ويؤدي إلى ضمور العضلات والشلل التام، ولم يُبقِ هذا المرض للطبيب شيئًا من قوة جسده سوى عينين نابهتين، استطاع أن يؤلف بهما كتابين، حصل على تكريم بسببهما.
حقق زغيب نجاحًا كبيرًا في مجال طب الأطفال، وحاز حب مرضاه الأطفال واستحسان آبائهم بفضل مهارته في تخصصه.
يقول طفل يُدعى رالف، يتلقى العلاج لدى الطبيب زغيب: «إنه طبيبي الذي أحبه ولن أذهب إلى غيره مهما صار»، فيما تؤكد والدة أحد المرضى أنها تتواصل مع زغيب باستمرار عبر الهاتف لاستشارته في فحوصات أبنائها، ما يبرهن على أن مثل هذا الإنسان، حتى إن فقد نعمة الصحة والحياة الطبيعية، فإنه قد يكون قادرًا على منحها إلى غيره، فليس دائمًا «فاقد الشيء لا يعطيه».
خلال حفل تكريم زغيب، تقديرًا لجهوده في الكتابين، أطَلّ على الحضور عبر الشاشات لعدم تمكنه من حضور الحفل بنفسه، ووجه رسالة قال فيها إنه «على الإنسان أن يجتهد في وظيفته وفي جسمه وروحه، فإذا توقف جسمه عن العمل، يمكن لروحه الاستمرار في ذلك، فللإنسان قدرات كثيرة وكبيرة عليه أن يفتش عنها ويكتشفها».
أيمن محمود