المعركة مع «كورونا»: قصص من حياة الطاقم الطبي في الكويت
نجلس في منازلنا، نتململ من حظر التجول المفروض علينا، نواجه الحياة الرتيبة والمكوث مع نفس الأشخاص طوال الوقت، نغضب من نشاط أطفالنا الزائد، أولئك الذين كانوا يفرغون طاقاتهم في المدارس، نحاول كسر الملل بابتكار أنشطة أو ممارسة هواياتنا المركونة، نقلق من زيادة وزننا إثر قلة الحركة وكثرة الأكل، لكننا ننسى أن على الجانب الآخر من لا يمتلكون هذا الترف، لا يتمكنون من اللعب مع أطفالهم، ولا البقاء بالقرب من عائلاتهم، بل يقضون معظم يومهم في العمل، ويعودون لمنازلهم منهكين ليقضوا بقية يومهم وحيدين خشية على بقية من يسكن معهم، أطباء وممرضون يقفون في وجه فيروس كورونا الجائح، في معركة غامضة لا تُعرف نهايتها.
«بابا أبيك»
«عزلت نفسي عن المنزل، أزور عائلتي لساعة واحدة في اليوم، لم أتصور أن يأتي يوم تقف فيه ابنتي عند الباب وأقف بعيدًا عنها لا يمكنني أن ألمسها ولا أحضنها، تبكي وتقول بابا أبيك، لكن ما باليد حيلة». هذا ما يقوله الدكتور حمد الأنصاري، الطبيب في الصحة الوقائية والذي يعمل الآن في محجر «الجون»، خلال حديثه لـ«منشور».
كان الأنصاري ضمن فريق طبي سافر إلى إيران لفحص أول دفعة من المسافرين العائدين إلى الكويت، لم يخبر والده أو والدته بسفره خوفًا من القلق عليه، وواجه مع زملائه بعض التعسف من السلطات الإيرانية في المطار، إذ رفضوا لبس الفريق الطبي للبدلات الوقائية بحجة عدم إشاعة الذعر، بالإضافة إلى فرض فحص المسافرين عند باب الطائرة فقط، مما صعب عليهم عملهم.
تقول دانة القطان: «الخوف أمر طبيعي، لكن لو استمررنا في الخوف فلن نفعل أي شيء».
في قسم الباطنية بمستشفى مبارك الكبير، يخلع الدكتور فواز فرحان رداء الوقاية، ويغير ملابسه حتى لا ينقل عبرها أي مسبب للمرض إلى منزله. بعد قضاء يوم طويل ومتعب، يصل إلى البيت ويترك حذاءه في السيارة التي لا يركبها غيره، وعندها يدخل في عزل خاص، وتضطر زوجته إلى إبعاد ابنه ذي السنتين عنه، وهو أكثر أطفاله تعلقًا به.
«كلما خرجت، تضع والدتي يدها على قلبها»، هكذا يصف فواز لـ«منشور» خوف أمه وقلقها على ابنها المعرض للإصابة يوميًا. وعلى العكس تقول دانة القطان: «الخوف أمر طبيعي، لكن لو استمررنا في الخوف فلن نفعل أي شيء».
دانة طالبة في كلية التمريض، تطوعت للعمل مع الطاقم الطبي في محاجر الفندقين «هوليداي إن» و «بلازا»، وخلال حديثها كانت تعبر عن فخرها بهذا التطوع، وتؤكد أنها تعلمت خلاله ما لم تتعلمه في كتب الكلية.
باريس الموبوءة: المرض كجزء من العمل
نجف طبيب أنف وأذن وحنجرة مبتعث لفرنسا منذ 2015، وهو متخصص في جراحات السرطان. ومنذ تصاعد أرقام المرضى بشكل مخيف في باريس كان ينوي العودة للكويت، إلا أن كون الأولوية في الطائرات العائدة للمصابين بالمرض، ولنقص الأطباء في المستشفى الذي يعمل فيه، قرر البقاء في فرنسا مع عائلته، حتى أجرى عملية لمريضة السرطان وأصيب بكورونا.
بعد العملية عاد ياسر إلى منزله بشكل طبيعي كأي يوم عمل، ثم تلقى اتصالًا من المستشفى يبلغه بأن الطاقم الذي شاركه العملية قد خضع لفحوص أتت نتائجها إيجابية، وأن عليه الانتباه في حال ظهرت عليه أعراض المرض. وفعلًا بدأت الأعراض تظهر على نجف، بدأ بفقدان حاسة الشم والتذوق، يقول: «كنت أشرب القهوة وأشعر بأنني لا أعرف ما الذي أشربه»، بعدها أتى انسداد الأنف والصداع.
تكمن مشكلة إصابة ياسر في فرنسا بأنه فُحص لكونه طبيبًا يحق له ذلك، بينما يعيش مع عائلته، زوجة وطفل، وفي حال التقاطهما للفيروس فلن تجري المستشفيات هناك أي فحوصات لهما، إذ أن تفاقم الوضع الصحي في باريس وصل إلى عدم القدرة على إجراء الفحوصات للعامة، والحالات الحرجة فقط هي التي تتمكن من الذهاب للمشفى للعلاج، ولهذا تمكن القلق من ياسر حول وضع عائلته مع ظهور الأعراض الأولية لديه، فحاول عزل نفسه عن زوجته وابنه رغم صغر حجم شقته حتى ظهور نتائج الفحص.
بعد تأكد إصابته، اتصل نجف بالسفارة الكويتية في باريس لإبلاغهم بحالته، إلا أنه حرص على عدم معرفة الكويتيين هناك بوجود طبيب كويتي مصاب بالفيروس: «كان هذا سيثير الرعب، ويشكل ضغطًا على سفارتنا في فرنسا لإعادة المغتربين، ولم أود أن يحدث ذلك، فاكتفيت بإبلاغ أصدقائي المقربين من الأطباء ليساعدوني في الاهتمام بصحتي والعلاج».
عالج ياسر نفسه بنفسه، عاش يومًا بيوم يتناول الأدوية التي ينصحه بها أصدقاؤه الأطباء والفيتامينات التي يرى أنها ستخفف الأعراض لديه. وفي ظل عدم وجود لقاح محدد للفيروس، فإن محاولة تخفيف الأعراض حتى زوالها وخروج الفيروس من الجسد من شأنه شفاء المريض، وهو ما حصل مع ياسر.
«كان وضعًا صعبًا، أعيش مع ابني في نفس المسكن لكن لا أستطيع الاقتراب منه ولمسه، يبكي بحرقة بسبب عدم فهم لماذا أرفض الاقتراب منه، وكل يوم يزداد خوفي من أن أضره هو وزوجتي».
بخبرته الطبية وبمساعدة الأصدقاء وباتصالات المستشفى للاطمئنان عليه، شفي ياسر وزالت الأعراض، وعادت صحته كما يجب، وقتها فقط قرر إبلاغ أهله في الكويت، وبرر إخفاء الأمر عنهم هذه المدة بأن هذا «سيكون قلقًا دون جدوى، سأخيفهم دون استطاعتهم تقديم شيء، لذلك آثرت عدم إبلاغهم إلا بعد العلاج. من الأفضل إبلاغهم بأني أصبت وشفيت على أن أبلغهم بأني مريض فيصابون بالهلع».
«تعب حلو»
تقول الممرضة دانة القطان: «كل المحجور عليهم يحتاجون للعناية، والهيئة التمريضية عددها قليل. نحن في المحجر 8 ممرضات وممرض واحد نتعامل مع 600 حالة، نحفظهم ونحفظ أدويتهم ونراعي نفسياتهم. الأمر متعب حقًا، ووضع الكمام طوال الوقت مرهق للوجه والتنفس، لكن بعد كل هذا يقابلك بعض المحجورين بالدعاء، يتحدثون معنا عن أنفسهم، يطمئنون علينا وعلى أوضاعنا، وهنا يزول كل التعب، ونشعر بأنه حلو».
تذكر القطان بعض المواقف التي تحصل لها مع حالات موجودة في المحجر، كسيدة عجوز يُجرى لها الفحص بشكل يومي، فيتبين ارتفاع السكر في الدم لديها بسبب سوء حالتها النفسية، كانت تشكي: «اختنقت، أريد الخروج، لا أستطيع التحمل»، ثم تنهار باكية. ومسن آخر في المحجر اشتبه بحالته بسبب ارتفاع درجة حرارته، بكى يرجو: «لا تأخذوني لمستشفى جابر، الله يخليكم»، واضطر الأطباء لوضع ابنه السليم معه لمرافقته إلى المستشفى رغم خطورة ذلك، لكونها الطريقة الوحيدة التي استطاعوا بها تهدئته.
في مثل هذه المواقف، لا يكون هناك حل لدى الطاقم الطبي سوى تهدئة المرضى والمحجور عليهم. الخروج فيه خطر على الجميع، لكن البقاء بين جدران الغرف خانق ويقتل الروح.
بعض الأطباء النفسيين يزورون المرضى والمحجور عليهم، خاصة أولئك الذين يعانون من الاكتئاب.
يقول الدكتور فواز فرحان: «شخصيات الأطباء مختلفة، لكن مهنة الطب تهذب الإنسان، لذلك يجب أن نكون هادئين مع الجميع. أحيانًا تتأخر نتائج الفحوص، وهنا يزداد الهلع لدى الناس، فألجأ حينها لتهدئة الشخص، أخبره بأن كورونا لا يختلف عن الإنفلونزا، وأن كل تجهيزاتنا ممتازة، وأنصحهم بالابتعاد عن الأخبار في الخارج. كلما تحدثنا مع الشخص أكثر، هدأ وأحس بالاهتمام. لقد تدربنا على مهارات التواصل في كلية الطب وهذا جزء من مهمتنا». يضيف: «نظرات أهالي المرضى المليئة بالأسئلة والقلق مؤثرة جدًا، تؤثر في شخصيًا».
ولمثل هذا التأثر والحالة النفسية للجميع تخبرنا القطان بأن بعض الأطباء النفسيين يزورون المرضى والمحجور عليهم، خاصة أولئك الذين يعانون من الاكتئاب، لكن «بعضهم يتضايق من كثرة الفحوصات. في الحجر رجل وزوجته تظهر فحوصاتهما متباينة بين إيجابية وسلبية، ولكثرة الفحص للتأكد أصابهما الإنهاك، وغضب الرجل واتهمنا بالإهمال، لكننا نتفهم التعب والقلق، ولا نأخذ الموضوع بشكل شخصي، بل نمتص هذه المشاعر ونتعامل مع المحجورين كنزلاء لا مرضى».
أما الدكتور حمد الأنصاري فيخبرنا عن ضيقه من تهاون البعض والخروج من المنزل، مما يشعره بأن كل هذا التعب والإنهاك قد يذهب سدى لو انتشر المرض بسبب ذلك. لكنه من الجانب الآخر يحدثنا عن تأثره الشديد بخروج الحالات المحجور عليها بعد التأكد من خلو أجسادهم من الفيروس: «شكرهم ودعاؤهم وسعادتهم تؤثر في كثيرًا، أشعر وكأنه تحرير».
يقول الدكتور ياسر نجف: «من الصعب طمأنة المرضى، نعم أشعر بما يشعرون به وأعرف ما يمرون به لكوني قد خضت نفس التجربة، لكن لكل منا تجربته المختلفة، الأعراض تتراوح في القوة والصعوبة بين مريض وآخر، لهذا علينا أن نكون دقيقين مع المريض في تعريفه بحالته، رغم ذلك فكوني قد تعافيت يعطي أملًا لطيفًا للآخرين».
تدريبات وبروتوكولات وخطط: مستعدون لكل شيء
يؤكد الدكتور حمد الأنصاري، بصفته مختصًا في الصحة الوقائية، أن وزارة الصحة كانت مستعدة للتعامل مع الفيروس قبل وصوله إلى الكويت. فمنذ انتشر في الصين وصار انتقاله إلى بقية العالم محتومًا، وضعت الوزارة خطة كاملة وعملت على تحديثها بشكل مستمر تماشيًا مع الأحداث اليومية، وهذه الخطة هي ما جعلت الطاقم الطبي يعمل بكفاءة عالية بحسب ما يراه الكويتيون.
عمل الأنصاري متعلق بالتقصي الوبائي، وهي سلسلة طويلة من البحث، إذ أن ظهور حالة إيجابية يعني عمل طاقم طبي كامل بالبحث عن كل مخالطي هذه الحالة، ومخالطي هؤلاء المخالطين حتى الوصول لمصدر الفيروس القادم من الخارج، بالإضافة إلى متابعتهم خلال أسبوعين في الحجر المنزلي.
وبسبب ضخامة هذا العمل يقول: «نعرف أنه ظرف استثنائي، لذلك لا نلتزم بمواعيد خفاراتنا، بل نعمل خارجها لمساعدة زملائنا، نشيل بعضنا ونتفهم الأخطاء ونتعاون في تفاديها ومعالجتها. قد يرى الناس لأول مرة الإنهاك الذي نعيشه، إلا أننا معتادون على ذلك بسبب طبيعة عملنا، أحيانًا نعمل 36 ساعة دون العودة لمنازلنا».
رغم وجود الخطط والهمم للعمل عليها، هل كان الطاقم الطبي مدربًا على التعامل مع الأوبئة بالأساس؟ يخبرنا الدكتور فواز فرحان أنه «بالإضافة إلى تدريبنا على التعامل مع الأوبئة في كلية الطب، فإننا لا نواجه وباء لأول مرة. أنا أتعامل مع كورونا كثالث وباء في مسيرتي الطبية، الأول إنفلونزا الخنازير في 2009 والثاني إيبولا القادم للكويت مع بعض المغتربين الأفارقة في 2014. نحن مدربون على البروتوكولات ولبس الوقاية وغيرها».
أما دانة القطان فلكونها لا تزال طالبة في عامها الأخير بكلية التمريض، فقد خضعت لتدريبات مؤخرًا متعلقة بالفحص، خاصة أجهزة الفحص الجديدة التي تساعد على معرفة الإصابة بفيروس كورونا.
من باريس يخبرنا الدكتور ياسر نجف عن وضع مشابه وخفارات تمتد إلى 13 ساعة. بعد تعافيه، عاد نجف إلى العمل رغم قلق عائلته، لكنه يذكر أن بعض الدراسات تؤكد أن من يتعافى من الإصابة بكورونا يكتسب جسده مناعة ضد الفيروس بحيث يصعب إصابته ثانية، مما أوصل بعض العلماء لتجربة أخذ الأجسام المضادة من شخص متعافي ونقلها إلى مريض. ورغم أن هذه الدراسات لا تزال قيد البحث، فإن نجف يعتقد أنها تبدو مبشرة.
«لدي مرضى سرطان يعتمدون علي، لا يمكنني تركهم في هذا الوقت، ولا يمكنني ترك زملائي في مثل هذه الظروف»، هكذا يتحدث نجف عن أهمية عودته للعمل بعد التعافي. كان يتحدث بأسى عن مرضى قضوا نحبهم، وتحزنه فكرة أن الموت صار جزءًا من حياته اليومية ومسألة اعتيادية: «ممكن أن نتحدث بشكل عادي مع مريض في الصباح، فيموت في الليل ولا يعود موجودًا».
خط دفاعنا الأول: «أشعر بالتقدير»
«رأيت بعض المتطوعين في الجمعيات التعاونية دون كمامات، بلغتهم بضرورة ارتدائها، وأني على استعداد لتقديم أي مساعدة يحتاجونها بحكم اختصاصي. حين عرفوا أني طبيب رحبوا بحرارة، وأبلغوني أن الأطباء يدخلون للجمعيات دون انتظار. أحسست بالتقدير لأول مرة».
كان صوت الدكتور حمد الأنصاري في حديثه هذا مليئًا بالبهجة والتأثر، وهو التأثر نفسه الذي كان لدى الممرضة دانة القطان وهي تحكي: «عند خروجي من المحجر في أوقات حظر التجول، أمر على نقطة تفتيش أمنية، وبمجرد معرفتهم بعملي أجد ابتسامة فخر كبيرة ودعوات لطيفة، هذا التقدير لا يمكن نسيانه أبدًا».
شيخة البهاويد