أطياف التوحُّد: مرض أم تنوع جيني؟
في عام 1991، أصدرت «دونا ويليامز»، وهي كاتبة أسترالية لم تكن معروفة في المشهد الثقافي، مذكراتها بعنوان «مجهول في لامكان: السيرة الذاتية لطفلة مصابة بالتوحد».
على عكس المتوقع، بيع الكتاب بشكل مذهل، ولاقى نجاحًا دوليًّا، وظل على قائمة «النيويورك تايمز» لأعلى الكتب مبيعًا لمدة 15 أسبوعًا.
كانت دونا تسمع الناس يشتكون من أنهم ليس لديهم أصدقاء، بينما لم يكن هذا يزعجها على الإطلاق. وعندما فضَّلَت الانعزال عن العالم الخارجي أشارت إلى أن ذلك لم يكن بسبب سوء الفهم الشائع من أنها لا تفهم كلام الناس، بل أنها ببساطة لم تكن قادرة على التواصل معهم، ما جعلها تغلق حواسها وأجهزتها الإدراكية، فالأصوات عالية النبرة والأضواء لم تكن شيئًا يطاق.
يستعرض مقال منشور على موقع «Aeon» تاريخ مرض التوحد، وتغيُّر طرق التعامل معه.
توحُّد: لا أحد يسمع أصحاب المسألة
حتى بداية تسعينيات القرن العشرين لم تكن الروايات التي كان يحكيها المصابون بالتوحد عن أنفسهم تؤخذ في الحسبان. ففي ذلك الوقت اعتقد أغلب العلماء أن التوحد مجرد مرض، هكذا دون تفسير ولا تركيب، وأنه اضطراب عقلي، واتجه التركيز في التعامل معه على تحديده والقضاء عليه.
ادَّعت «لورنا وينغ»، الطبيبة النفسية البريطانية التي أسهمت في تطوير التصنيف السريري وتصنيف أطياف التوحد بداية من عام 1960، أن المصابين بالتوحد يعانون ضعفًا في ثلاث مناطق أساسية:
- التفاعل الاجتماعي
- التواصل
- المُخيلة
جرى تحديد عدد من الوسائل لاكتشاف هذا الضعف، كالأحجيات والألعاب، إضافة إلى ما يحصل عليه الأطباء من معلومات عبر أفراد العائلة.
أدى علماء النفس والأعصاب دورهم في محاولة تطوير تدخلات سلوكية للإصلاح السريع، إضافة إلى دورهم في البحث عن الجين المتسبب في مرض التوحد. غير أنه، وبعد كثير من الضجيج في ما يخص الأمر، اتضح أن فكرة تشخيص التوحد بواسطة نمط جيني ثابت تتلاشى بسرعة من الرؤية، ويظهر للمتخصصين أنها تحمل بعض الفجوات.
عندما بدأ المصابون بالتوحد، مثل دونا ويليامز، في الحديث عن أنفسهم وتحدي النظرة الخاطئة لهذا السجل العلمي، كانت حركة «التنوُّع العصبي» تأخذ شكلها على الإنترنت، فقد هاجم عدد من ناشطي كثير من المنتديات المعنية بأمراض التوحد واضطرابات الطفولة المفهوم الذي يقول إن التوحد مرض أو اختلال.
يقول «جيم سنكلير»، مؤسس «الشبكة الدولية للدفاع عن مرضى التوحد»، إنه لا يجب أن يعتمد المجتمع نوعًا أو نمطًا واحدًا وثابتًا للأعصاب، لأن هذا يجعل أي طريقة تعامل مختلفة مع العالم تتحوَّل مباشرة إلى مرض يجب علاجه، لا التعايش معه.
هناك تناقض ظاهر في فهمنا للتوحد: هل هو اضطراب يجب علاجه؟ كيف يمكن له أن يكون مرضًا ينبغي معالجته في حالة ما، وفي حالة أخرى يكون شيئًا يجب استيعابه اجتماعيًّا، بل والاحتفاء بالتنوع في بعض الأوقات؟
الحال أن عددًا من الناس الذين ينضمون إلى مجتمع التنوع العصبي يقولون إن التوحد مجرد متغير طبيعي في حالة الإنسان. لكن هل يجب أن يحوز المتوحدون نفس الحقوق القانونية كالناس جميعًا، أم أن حاجتهم تختلف؟ وإذا كان الأمر هكذا، إذًا، كيف؟ وإذا كنا متشككين بشأن العلاج السريري، فمن الذي يستطيع أن يقرر المؤهلين لتقديم الدعم الإضافي؟
تكمن المعضلة الأساسية في أنه على مدى تاريخه المضطرب أصلًا، تغيرت الآراء حول ما إذا كان التوحد جزءًا من الوصف السردي لحياة الفرد التي تنمو وتتغير مع الوقت، أم أنه تصنيف قابل للقياس يحق للآخرين إحصاؤه وتعيين حدوده وتعريفه.
متنوعون عصبيًّا، وتصنيفات ثابتة
منذ عام 1910 حتى 1950، كانت المحاولات الأكثر أهمية لتصنيف النمو النفسي للأطفال وتشريحه وفهمه تأتي على شكلين أساسيين:
- التحليل النفسي
- اختبارات الذكاء
بنى علماء التحليل النفسي للأطفال عملهم على الفكرة الكبيرة لعالم التحليل النفسي الشهير سيغموند فرويد، التي تقول بأن مسار حياة الشخص يكون مدفوعًا بالغرائز والرغبات التي ترسخت معه منذ مرحلة الطفولة، ويمكن تحليلها من خلال الشهادات الشخصية وتاريخ الحالة. أما اختبارات الذكاء، فقد بُنيت على محاولات الطبيب النفسي الفرنسي «ألفريد بينيه» لتحديد القدرات البشرية وترتيبها.
هذه العلوم البشرية المؤثرة لها أهداف مختلفة. فقد أعطى التحليل النفسي صوتًا للتجارب الفريدة والمميزة الخاصة بالفرد، وفي الوقت نفسه، كانت الرأسمالية مزدهرة، والروابط العائلية تفقد السلطة والنفوذ. بينما كانت اختبارات الذكاء تخدم الهدف البيروقراطي لتصنيف أنواع الأطفال وفرزها من أجل نظام تعليم مؤسسي دائم التوسع وذي رعاية مؤسسية.
بعد الحرب العالمية الثانية تغيرت النظرة التقليدية إلى التحليل النفسي الفرويدي، وكذلك اختبارات الذكاء، وبدأ عدد من المختصين في التعامل مع هذه التقسيمات على أساس أنها تفرض تصنيفات تزداد هشاشة، قريبة مما صنعه النازيون من تقسيمات اجتماعية ضارة سياسيًّا طبقًا لأنواع الإنسان.
استجابت أبحاث التوحد في ستينيات القرن العشرين وأنشأت نموذجًا جديدًا تمامًا، ومناسبًا بشكل أكبر لمطالب المناخ الاجتماعي لما بعد الحرب وإعادة تنظيم خدمات الدولة.
وبالترافق مع محاولة خلق دولة الرفاه كان المختصون النفسيون يقدمون أولى محاولاتهم لتصنيف التوحد كتشخيص عالمي يمكن أن يجري تصنيفه في العالم كله. وفي سبيلهم لوضع تعريف عالمي، توقفوا عن استخدام وصف الحالة، ولجؤوا بدلًا من ذلك إلى الإحصاء باستخدام تقنيات اختبارات الذكاء والتحديد الكمي، لالتقاط تعقيد تنمية الأنا والتفاعل الاجتماعي.
صار التشخيص بمرض التوحد نوعًا جديدًا من الإدماج، وبادرةً على الكرم تجاه الاختلاف النفسي.
في بدايات السبعينيات أغلقت أمريكا وبريطانيا وبعض الدول الغربية الأخرى عددًا من المعاهد الكبيرة التي تديرها الدولة، وبالتالي كان على كل الأطفال، دون تمييز لقدراتهم أو اختلافاتهم، أن يمرُّوا بالنظام التعليمي العادي. وهكذا، كان هناك نقص واضح في خبرة فهم احتياجات الأطفال الفردية.
في بريطانيا، ركَّز عالما التحليل النفسي ذوا الشهرة العالية «جون بولبي» و«دونالد وينيكوت» على دور انفصال الأب والأم خلال الحرب العالمية الثانية. غير أن جيل الستينيات من علماء تحليل نفس التوحد كانوا مهتمين أكثر برؤية علماء التحليل النفسي يلومون المرأة على المشكلات التي تحدث للأطفال، ومنها التوحد، ربما لأنهم اعتقدوا أن المشكلة بنيوية.
بالطبع كان عدد من المحللين النفسيين ومن يدافعون عن التوحد كـ«مرض» قادرين على فهم التفاعل المعقد بين العوامل الجينية والبيئية، لكن كان من الواضح أن تشخيص طفل على أنه «متوحد» طريقة مؤكدة لضمان حصوله على خدمات تعليمية خاصة ودعم.
هكذا، صار التشخيص بمرض التوحد نوعًا جديدًا من الإدماج، وبادرةً على الكرم تجاه الاختلاف النفسي، وقد كان تأثيرها ملحوظًا.
ماذا علينا أن نفعل إذًا؟
في ظل أصوات جديدة تدعو إلى التعامل مع التوحد كاختلاف واسع يضم عددًا كبيرًا من الأنماط، تظهر معضلة التعامل مع الأطفال المتوحدين كأشخاص عاديين لا يختلفون عن غيرهم، وبالتالي وضعهم في مدارس لا تلقي بالًا لاختلافهم عن الأطفال «العاديين».
يجب أن نفهم اختلاف كل طفل على حدة، فالتوحد ليس مرضًا له طريقة علاج واحدة، بل يختلف باختلاف الطفل. علينا أن نتعامل مع الأطفال المتوحدين كأفراد في جماعة بشرية واسعة، ذوي احتياجات يجب على الدولة والأسرة توفيرها لهم، لا كمجموعة من المرضى بحاجة إلى علاج دوائي فحسب.
أحمد ليثي