ربع قرن على الحرب الأهلية اللبنانية: الأمل يقتل أهالي المفقودين ويحييهم
لم تكن وداد حلواني تعرف أن تلك هي المرة الأخيرة التي سترى فيها زوجها عدنان، عندما حضر البوليس السري إلى منزلها في بيروت في سبتمبر 1982 وهما يستعدان لتناول الغداء واقتادوه إلى الخارج، من أجل استجوابه بخصوص حادث سير.
بعد مرور 32 عامًا، لا تزال وداد تكافح لمعرفة مصير عدنان، والأمر بالنسبة إليها أكبر كثيرًا من اختفاء زوجها وحده، فقضية مفقودي الحرب الأهلية قضية وطنية تمس كثيرًا من اللبنانيين، إذ يُعتقد أن قرابة 17 ألف شخص فُُقدوا في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. ويستعرض مقال على موقع «The Independent» تطورات هذه القضية الشائكة.
حرب أهلية تركت علامات استفهام
بدأت الحرب الأهلية اللبنانية في إبريل عام 1975 وانتهت بعد 15 عامًا في 1990، مخلفةً وراءها أكثر من 150 ألف قتيل و17 ألف مفقود، يُعتقد أن كثيرًا منهم مسجونون في سوريا. بدأت الحرب بنزاع بين مجموعات مسيحية وأخرى فلسطينية ساندتها قوًى إسلامية ويسارية، ثم تدخلت قوى إقليمية، أهمها سوريا وإسرائيل، في الصراع الذي تخللته انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان، وأعمال خطف طائفية.
ما زال كثير من ذوي المفقودين يعيشون على أمل لقاء أقربائهم وأحبَّتهم، ويتحدُّون في ذلك رفض الحكومات اللبنانية المتعاقبة التعامل مع هذا الملف الشائك. وداد حلواني، التي اختفى زوجها قبل تناوله الغداء، هي نموذج يمثل معاناة آلاف الأسر التي تريد معرفة الحقيقة، وربما لا تسعى سوى للتصالح مع الماضي، لا الزَّج بالسياسيين في السجون.
الأهالي ينتفضون بحثًا عن ذويهم
في العام ذاته الذى اختفى فيه زوجها، شاركت وداد في إنشاء لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، واستمرت في ممارسة الضغط على الحكومة أملًا في الحصول على أجوبة. وفي 2005، بدأت مجموعة من النساء اعتصامًا مفتوحًا في خيمة طُبعت عليها صور آلاف المفقودين في حديقة قرب البرلمان اللبناني.
ترى وداد ضرورة جمع عينات حمض نووي من المقابر الجماعية التي تضمم غالبًا رفات مفقودين.
بعد نحو ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، ظهر في الأفق بصيص من الأمل، إذ أصدر مجلس الشورى اللبناني عام 2014 قرارًا يعطي ذوي المفقودين الحق في الحصول على صور من الوثائق التي أصدرتها لجنة تقصي الحقائق، التي أنشئت في عام 2000.
اعترف القرار بحق أسر المفقودين في معرفة مصائر ذويهم، وهو ما تعتبره حلواني «نصرًا عظيمًا» لأقارب المفقودين، رغم أن الوثائق كانت خالية من المعلومات كما ظهر في ما بعد.
ترى وداد حلواني ضرورة أن تتبع ذلك خطوات جادة من جانب الحكومة، مثل جمع عينات الحمض النووي لفحص الجثث والتعرف على هوياتها، بعد اكتشاف مقابر جماعية في بيروت تضم على الأرجح رفات كثير من المفقودين.
مجرمو الحرب لا يزالون في السُّلطة
ترى الحكومة اللبنانية أن فتح ملف المفقودين سيَنْكَأ جروحًا قديمة وربما يهدد السلم الأهلي، أما المركز الدولي للعدالة الانتقالية، وهو منظمة غير حكومية تهدف إلى إخضاع المسؤولين عن جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان للمساءلة، فيعتبر حجب الدولة للماضي نوعًا من فقدان الذاكرة القسري.
يقول عضو مجلس النواب اللبناني غسان مخيبر إن السبب في تغييب القضية على المستوى الحكومي أن المسؤولين عن تلك الجرائم ما زالوا في السُّلطة، إذ كانت الكثير من الأحزاب السياسية تمتلك ميليشيات خاصة بها، حسب مخيبر، وهي مسؤولة بالتالي عن الانتهاكات التي حدثت في الحرب، وكثير من المتورطين لا يزالون في السُّلطة ويرغبون في إخفاء ماضيهم الأسود.
يسعى مخيبر لإنشاء لجنة وطنية مستقلة لتولي ملف المفقودين، ويأمل أن تتمكن تلك اللجنة من إيجاد آلية للتعامل مع قضية فتح المقابر الجماعية، إذ تضغط بعض المنظمات غير الحكومية من أجل حماية تلك الأماكن، بسبب الحساسية السياسية المحيطة بالمسألة.
المجتمع في مواجهة الحكومة اللبنانية
منذ عام 1995، تحث الحكومة اللبنانية كل من فقدوا أقرباءً لهم في الحرب على «تجاوز الأمر».
ترى «جوستين دي مايو»، التي أسست منظمة غير حكومية للتوعية بشأن المفقودين، أن لبنان ليس مستعدًا بعد للتعامل مع ملف مفقودي الحرب الأهلية، الذي يتطلب في رأيها إرادة سياسية، غير أنها تعتقد مع ذلك أن المجتمع لن يتمكن من التطلُّع إلى المستقبل لو لم يتعامل بحسم مع هذه المسألة. وتسعى منظمة دي مايو إلى جذب الشباب لدعم القضية، والضغط على المسؤولين لتحقيق تقدم أكبر.
لم تُجرِ الحكومة اللبنانية تحقيقًا رسميًّا يُذكر في أحداث الحرب الأهلية، فقد أصدرت اللجنة الرسمية التي تكونت من مسؤولين أمنيين لبنانيين في عام 2000 تقريرًا من صفحتين فقط، ورد به أن المفقودين 2046 شخصًا يُعتقد أنهم جميعًا في عداد الموتى، ونصحت الأُسَر بإعلان وفاة مفقوديها.
ومنذ عام 1995، تحث الحكومة اللبنانية كل من فقدوا أقرباءً لهم في الحرب على تجاوز الأمر، حتى أنها أعطتهم حق إعلان وفاة المفقودين، غير أن كثيرين يرون أن إعلان وفاة أحبِّتهم سيقضي على ما تبقى من أمل في كشف حقيقة ما حدث لهم، وفق المقال.
وربما كان الأكثر تفاؤلًا باحتمال عودة أحبتهم هم هؤلاء الذين يعتقدون أن أقاربهم مسجونون في سوريا، لكن السلطات السورية تنفي وجود سجناء لبنانيين لديها من مفقودي الحرب الأهلية، بعد أن أفرجت عن أربع دفعات من المسجونين بين عامي 1976 و2000.
حتى الأمل يكلف مالًا
يقول كاتب المقال إن بعض الناس يلجؤون إلى دفع المال للحصول على المعلومات، فتذكر ماري منصوراتي، التي تبلغ 85 عامَا، أنها أنفقت 200 ألف دولار أملًا في العثور على ابنها دانيال الذي اختُطف خلال زيارة لدمشق في 1992، بعد انتهاء الحرب الأهلية بعامين، إذ كان عضوًا في ميليشا مسيحية، أكد قائدها أنه لا يزال حيًّا ومحبوسًا في سوريا.
تقول ماري إنها تدفع نحو 500 دولار في كل مرة للحصول على معلومة جديدة، لكنها تدور رغم ذلك في دائرة إحباط مستمر، لأنه «حين يرحل السارقون يأتي الكذابون، وعندما يذهب الكذابون، يعود السارقون».
رغم كل العقبات والتقارير التي تشير إلى وفاته في التسعينيات، تأبى ماري إلا أن تتشبث بالأمل: «ابني لا يزال حيًّا ومسجونًا في سوريا، أنا متأكدة أنه على قيد الحياة».
ما زال الجرح ملتهبًا رغم مرور السنوات وتغيُّر الوجوه والأجيال، وما زالت شمعة الأمل موقدة لا تنطفئ كذلك، فهناك أُم لم تخرج من المنزل لاقتناعها أن ابنها سيعود يومًا، وأخرى أبقت على غرفة ابنها دون تغيير أملًا في أن يسكنها مجددًا، وزوجة لا تكف عن النظر عبر النافذة لعلها تلمح زوجها في طريقه إلى البيت.
دينا ظافر