المينيماليزم الرقمي: هل أصبحنا نعيش حياة يأس هادئة؟
يحدث كثيرًا أن تقرر قضاء ليلة في الخارج رفقة الأصدقاء، أو في العمل على الانتهاء من مقال بدأت كتابته ولم تنهه، أو ربما في قراءة كتاب أجلت قراءته لفترة من الوقت. لكن حينما يأتي المساء تجد نفسك عالقًا في تويتر، أو في قراءة مقطورة مقالات عن دراما الانتخابات الأمريكية وآخر نقاشات اليسار حول العدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات، أو مثلًا في مشاهدة خمس حلقات مرة واحدة من مسلسل «Peaky Blinders» على نتفليكس. تنتهي الليلة ولم تنهِ ما عزمت على إنهاءه، فتستاء على الوقت الذي أضعته في تصفح مواضيع تشحن العواطف وتستنزفها. قد تشعر في نهاية الليلة بأنك كيس قمامة، عديم الفائدة، وفوق ذلك كله، مستنزَف. لكن لا تقسُ على نفسك، فلست وحدك من يعاني كل هذا، يبدو أن شركات التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي قد ضخت أموالًا هائلة لتوقعنا جميعًا في شباكها وتستحوذ على انتباهنا لأطول وقت ممكن، ثم تبيع ما حصدته من أوقات وأذهان للمعلنين.
قبل استعراض الموضوع، أود الإشارة إلى إشكالية ترجمة كلمة مينيماليزم (Minimalism) إلى العربية، فلا أظن أن هنالك مفردة في اللغة العربية تقابلها وتمنحها قوة المعنى نفسها. عادة ما يترجَم هذا المفهوم إلى التّقشف، أو الزهد أو التجرد، لكن كل هذه المفردات لا تقابل المينيماليزم في المعنى الدقيق. أخترت «التجرد» هنا للدلالة على التقليل من هوسنا بالتعلق بالأشياء، لذلك سيكون استخدامي لهذه المفردة بداية من هنا بديلًا للمينيماليزم.
عن التجرد والحياة الطيبة
في فيلم وثائقي عرض على نتفليكس، يتحدث الثنائي «جوشوا فيلد» و«رايان نيكوديمس» عن التغير الكبير الذي حدث لحياتهما بعد اعتناقهما مبدأ التجرد والتخلص من المقتنيات، وعن الحرية التي استعاداها باسترجاع حياتهما من هوس المادية واقتناء الأشياء الرخيصة الذي غذته الرأسمالية.
عادة ما يساء فهم فلسفة التجرد بربطها بفن التصميم والعمارة الحديثة، لكن حينما نفحص بدقة المواد المرئية والسمعية التي ينتجها معتنقو هذه الفلسفة، نفهم أنها حيلة بارعة لعيش حياة متأنية وطيبة، فهي لا تعني التبسيط أو التخلص من اقتناء الأشياء، وإنما اقتناء أشياء عالية الجودة تضيف قيمة إلي حياتنا.
مثلًا، أن يقتني الواحد منا معطفًا حيك على يد مصمم شغوف بما يفعله، بدلًا من اقتناء معطف رخيص من ماركات الأزياء السريعة نعجل برميه حينما تخبرنا الإعلانات أن موسمه قد انتهى. إذًا، حين نتخلص من هوس اقتناء كل ما هو جديد، نكسر الحلقة ونتخلص قليلًا من قبضة الرأسمالية على حياتنا. وهذا بالضبط ما أراد «كال نيوبورت» أن يوضحه في كتابه «فلسفة التجرد الرقمي»، لأن كل خطوة اقتراب نحو التجرد الرقمي تعني بالضرورة خطوة هروب من قبضة الرأسمالية، وعملية تحويل التجربة الإنسانية إلى بيانات ومنتجات للتنبؤ بالسلوكيات عن طريق خوارزميات التعلم الآلي.
خروج آليات شركات التقنية إلى العلن
يبدأ نيوبورت تقصيه من حكاية مدير المنتجات السابق لدى غوغل «تريستان هاريس»، الذي أصبح لاحقًا مخبرًا في وداي السيليكون. ظهر هاريس في مقابلة مع «أندرسن كوبر» ببرنامج «60 Minutes»، ونشر غسيل شركات التكنولوجيا، إذ قال إن هذه الشركات تدفع المستهلكين إلى استخدام منصاتها «بطرق محددة وأوقات مطولة»، وإنها بُرمجت لتكون إدمانية ويصعب مقاومتها.
قد لا يبدو لنا هذا الخبر مفاجئًا، فلا يخفى على أحد انتقال المال من شركات النفط إلى شركات التقنية خلال العقد الماضي. وعندما نلقي نظرة على قيمة شركات التكنولوجيا في السوق ندرك أن التنقيب قد تحول من حقول النفط والمناجم إلى الأذهان والهشاشة النفسية.
استغلال الهشاشة النفسية
يلتقي نيوبورت بـ«آدم آلتر»، المهتم بعلم النفس والتكنولوجيا، ليفهم كيف قوضت الأجهزة نوايانا لعيش حياة متأنية وطيبة. آدم، بصفته عالم نفس، لم يبحث في المشكلة بشكلها الحضاري، وإنما قارب جذورها النفسية.
هناك مختبر يدعى مختبر الإقناع، مهمته البحث في أساليب التأثير على سلوكيات البشر من خلال التكنولوجيا.
ما فهمه من خلال بحثه أن هذه المنصات تسبب إدمانًا سلوكيًا، ليس إدمانًا مثل الذي يحدث مع متعاطي المث، بل إدمان أخف، لكنه يفي بالغرض، فهو يسهم في إضافة القروش إلى جيوب آلهة وادي السيليكون. ما توصل إليه آدم يثير الغضب لو كان حقيقيًا، إذ يبدو أن شركات التقنية قد نقبت في مشاكل الإنسان النفسية، ووظفت قوتين نفسيتين في خطط أعمالها.
الأولى: حبنا لتلقي المكافآت. فأجسادنا تفرز كمية دوبامين حينما نتلقى أمرًا مباغتًا. ذلك بالضبط ما يحدث حينما نتلقى إعجابات أو إعادة تغريد وسم على منشور أحد الأصدقاء. كنا قبل إدخال أزرار الانطباعات نستخدم المنصات الاجتماعية لمتابعة الأصدقاء وأحوالهم، أما الآن فنستخدمها لنتلقى المفاجآت الصغيرة والحلوة، مثل إعجاب على تغريداتنا الظريفة، أو نكزة على فيسبوك. هل تتذكر مثلًا حين كانت شارة الإشعارات في فيسبوك باللون الأزرق، ولم يهتم بها أحد؟ تغيرت بعدها إلى اللون الأحمر، لون الدم والخطر، كأنهم يقولون لك: تحقق من الإشعارات قبل أن تحدث مصيبة ما.
الحاجة النفسية الأخرى التي استغلتها هذه الشركات لتحث على الإدمان السلوكي تتمثل في حاجتنا لاعتراف الآخرين بنا. بالطبع، لم عساهم لا يستثمرون ذلك؟ سيكون من الغباء ألا تستخدم شركات التواصل الاجتماعي هذه الحاجة.
تقول أدبيات علم النفس التطوري إن حاجتنا إلى القبول الاجتماعي قد سُنت وشُحذت على مدى تاريخنا التطوري، كنا بحاجة إلى البقاء بجوار القبيلة وأن نحوز على رضاها كي نؤمِّن حاجتنا من الغذاء والأمان. تخيل تأصُّل هذه الغريزة فينا، ودورها في بقائنا، وتخيل الآن عبث شركات وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الحاجة النفسية لرفع قيمة أسهمها في الوول ستريت؟
بالمناسبة، هذه الحقيقة لا تعتبر سرًا في وادي السيليكون، فهناك مختبر يدعى «Persuasive Technology Lab»، أو مختبر الإقناع، مهمته البحث في أساليب التأثير على سلوكيات البشر من خلال التكنولوجيا. تخرَّج في هذا المختبر الكثير من مليونيرات التكنولوجيا، مثل «مايك كريغر» مؤسس تطبيق إنستغرام.
التخلص من إدمان الهاتف
يحتوي الكتاب على فصل كامل في فن إزالة الفوضى الرقمية، وكذلك تمارين تساعد القارئ على ممارسة العزلة وقضاء أوقات فراغ مثالية واستعادة الحياة الاجتماعية. ويمكن لهذا الكتاب أن يكون بمثابة عمل إرشادي للتخلص من إدمان الهاتف. لن أخوض هنا في التفاصيل لأنها كثيرة ومهمة، لكن أستطيع أن أخبرك أن أنشطة مثل الكتابة والرسم وإصلاح ما ينكسر في بيتك قد تقتلعك من أمام شاشة هاتفك لبعض الوقت.
أصبح الهاتف بمثابة درع تلتقطه كلما شعرت بأنك لا تقوى على مجابهة كل هذا الفراغ وحدك.
أحب كذلك أن أذكر الطريقة المتأنية التي عاش بها «هنري ديفيد ثورو» حياته، وتنقله بين الاتصال بالمجتمع العلمي وأصدقائه في كونكورد، وعزلته في كوخه بجانب بركة والدْن. يقول نيوبورت إن هذا الخليط بين الاتصال والانفصال هو الحل المثالي لمشكلة الحرمان من العزلة، التي قد يعاني منها الدماغ بسبب عدم تمكنه من أخذ فسحة من سيل المعلومات الجاري على الشاشات، أو بسبب سماعات الهاتف التي تلقي في آذاننا أغاني بينك فلويد وداير ستريت وجيمي هندريكس وتشكيلة من البودكاست على مدار 24 ساعة في اليوم.
بالحديث عن ثورو، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها عند توصيل التلغراف بين مينا وتكساس، وامتعاضه من الفلاحين الذين يتركون مقاعدهم المريحة في الأمسيات للذهاب إلى محطات التلغراف في البلدة للتحقق من البرقيات القادمة، ما تراه سيفعل لو كان هنا اليوم؟ هل سينتف شعر رأسه لو عرف أننا اقتلعنا محطة التلغراف وأتينا بها إلي مقاعدنا المريحة؟
لا نستطيع الاستغناء عن الهاتف الذكي، فقد نحتاجه للاتصال بحبيب بعيد، أو تدوين معلومة مهمة، وقد ينتشلنا أحيانًا من الشعور بالوحدة والوقوف قبالة الوجود وثقله دون حاجز، خصوصًا خلال الأزمة الحالية وانقطاعنا عن أي تواصل حقيقي. أصبح هذا الجهاز بمثابة درع تلتقطه كلما شعرت بأنك لا تقوى على مجابهة كل هذا الفراغ وحدك، لكن كل هذا لا يبرر وقوعنا في نفس الخطأ الذي وقع فيه فلاحو كونكورد، الذين قضوا معظم حياتهم يحرثون حقولهم للحصول على القليل من الرفاهية. هل أصبحنا نجوب منصات التواصل الاجتماعي ليل نهار لنحصل على القليل من المتع الرديئة؟ هل ينطبق علينا الآن قول ثورو: «جموعٌ من البشر، يعيشون حياة يأس هادئة»؟
زهرة ناصر