دماغ ثانٍ في معدتك: الجهاز الهضمي يشعر أيضًا بالحب
كانت العلاقة بين الطعام والمشاعر والحالة المزاجية محل دراسة لفترة طويلة، بين عديد من المهتمين بكلا الأمرين.
حاول كثير من العلماء دراسة التأثير الذي يُحدثه تناول الطعام في مشاعر الإنسان وحالته، والمساحات التي يتداخل فيها أحدهما مع الآخر. ولا يقتصر الأمر فقط على عملية تناول الطعام الميكانيكية، بل يمتد كذلك إلى تحضير تناول الطعام نفسه. ربما لهذا تتضمن المواعيد الغرامية دائمًا تناول الطعام.
من أشهر محاولات إيجاد علاقة بين الطعام والحب ما فعله موقع «YourTango» على سبيل المثال، إذ شارك أكثر من ألف من متابعيه في دراسة أكدت أن 75% منهم يجدون أن تحضير وجبة طعام مع الحبيب/الحبيبة من أكثر الأفعال التي تُظهر حب الطرف الآخر.
الجهاز الهضمي: تسعة أمتار من المشاعر
يصل طول الجهاز الهضمي لدى الإنسان إلى تسعة أمتار، ابتداءً من الحَلق حتى الشرج. هذه الأمتار التسعة تؤدي الوظيفة المعتادة التي نعرفها جميعا: مضغ الطعام، وبلعه، وهضمه، وامتصاصه، وأخيرا إخراجه.
عملية بسيطة وروتينية وأساسية من أجل إمداد أجسادنا بالطاقة التي تحتاجها والتخلص من الفضلات الناتجة عن عملياتها الحيوية. لكن الحقيقة أن جهازنا الهضمي يؤدي وظيفة أخرى لم يخبرنا أحد عنها من قبل. جهازنا الهضمي هو دماغنا الثاني.
هذا هو ما طرحه العالم «مايكل جيرشون» عام 1998، بعد أن أمضى 30 عامًا يحاول فهم الجهاز الهضمي.
اقرأ أيضًا: الأكل كبطاقة هوية: كيف تحوَّلنا إلى وصفات مطبوخة في قدور العالم
يحمل الجهاز العصبي المعوي نواقل عصبية أكثر من الموجودة في الأطراف.
قبل أن نبدأ الحديث عن الدماغ الثاني، دعونا نلقي نظرة سريعة على الظهور والتطور المعرفي للجهاز العصبي عامة، والعصبي المعوي بصفة خاصة.
الجهاز العصبي هو المسؤول عن ردود أفعالك الحركية وأفكارك وتصرفاتك اليومية، وينقسم إلى شقين: الجهاز العصبي المركزي، والجهاز العصبي الطرفي، وكلاهما يتكامل دوره من أجل إتمام الفعل أو رد الفعل المراد.
يتكون الجهاز العصبي المركزي من المخ والحبل الشوكي، بينما يتكون الجهاز الطرفي من الأطراف وخلايا الجسد. طريقة عمل الجهازين تكمن في استقبال مؤثر خارجي على أي جزء من الجسد، لينقل الجهاز العصبي الطرفي هذه المعلومة إلى الجهاز العصبي المركزي، الذي بدوره يتولى تحليلها وتحديد التصرف الأنسب لهذا المؤثر.
يبعث الجهاز العصبي المركزي قراره إلى الجهاز العصبي الطرفي، الذي يبدأ عملية تحفيز الأطراف الحركية بأخذ رد الفعل الذي قرره الجهاز العصبي المركزي.
نظرًا ﻷننا لا نتحكم في كل عضلة أو خلية في أجسادنا، مثل القلب والرئتين، فالجهاز العصبي الطرفي نفسه ينقسم إلى نوعين: إرادي، ولا إرادي.
يتولى الجزء الإرادي تلبية أفعالنا التي نقررها، مثل المشي والوقوف، بينما يتولى الجهاز اللا إرادي تنظيم كل العمليات الحيوية التي لا يسعنا التحكم فيها، كنبضات القلب والتنفس.
قد يعتقد بعضنا أنه تبعًا لهذه التقسيمة فإن حركة الجهاز الهضمي، من حلق ومريء ومعدة وأمعاء، ما هي إلا جزء من الجهاز الطرفي اللا إرادي، نظرًا ﻷننا لا نتحكم في أي جزء من عملية هضم الطعام هذه. لكن الجهاز الهضمي لديه جهاز ثالث خاص به يؤدي هذه المهمة، يسمى الجهاز العصبي المعوي.
إنه جهاز مستقل بذاته، وينقسم إلى شقين: داخلي، وخارجي. الشق الداخلي لا يبعث تقاريره إلى الجهاز العصبي المركزي، وإنما يستقل بقراراته، وهو المسؤول عن الاستجابة للمؤثرات داخل الجهاز الهضمي، إذ يتحكم في انقباض العضلات الملساء أو الإفرازات اللازمة لعملية الهضم. أما الشق الخارجي فيستجيب للمؤثرات الخارجية المتعلقة بالجهاز الهضمي، مثل رائحة الطعام وشكله وطعمه، ويتحكم في الطريقة التي نشعر أو نفكر بها في هذا الطعام.
الجهاز العصبي المعوي، الذي يُطلَق عليه «الدماغ الثاني»، لديه على طول قناته (بدايةً من الحلق حتى الشرج) بين 200 و600 مليون ناقل عصبي، وهو نفس العدد الذي يوجد في الحبل الشوكي، وأكثر من الموجود في الجهاز العصبي الطرفي.
يقول جيرشون إنه في الغالب تطور جهازنا العصبي كي يترك أمر الهضم وحركة الأمعاء للجهاز العصبي المعوي، ﻷن الجهاز العصبي المركزي ليس بحاجة إلى أن «يلوث يده» بعملية كهذه. لكن جيرشون يوضح أن تعقيد هذا الجهاز أكبر من اقتصار عمله على مجرد تلك العملية الحيوية.
أحد الصدمات التي تلقاها العلماء في دراسة الجهاز العصبي المعوي كانت عندما وجدوا أن هناك معلومات تُنقل من الأمعاء إلى الدماغ، عوضًا عن النسق المعتاد، الذي يقتضي إرسال المعلومات من الدماغ إلى باقي أجزاء الجسد.
الشعور بالمغص في أمعائنا حين نكون متوترين ما هو إلا أحد أمثلة تحكم الجهاز العصبي المعوي في مشاعرنا، وهناك أوقات كثيرة تكون مشاعرنا وحالتنا النفسية متوقفة على الطريقة التي يقرر بها دماغنا الثاني كيف سنشعر.
قد يهمك أيضًا: كيف نبحث في طعامنا عن الخلود؟
الجهاز الهضمي يشعر
واحدة من النظريات التي حظت بجدل عميق بين العلماء كانت نظرية المشاعر ونشأتها، حين روَّج العالمان «ويليام جيمس» و«كارل لانغ» في الثمانينيات لفكرة أن المشاعر تحتاج إلى الجهاز العصبي المعوي لكي تكتمل، نظرًا للاضطرابات التي تحدث في الجهاز الهضمي عندما نتعرض لمشاعر مختلفة، من فرح أو خوف أو خطر أو ما إلى ذلك.
بناءً عليه، اقترح جيمس ولانغ أن هذه الاضطرابات لا بد أنها تُسهم في تشكيل الشعور بشكل ما، وأنها مسؤولة عنه.
هذه النظرية هاجمها «والتر كانون» في أواخر عام 1920، وأكد أنها لم تضع في اعتبارها أن رد فعل الجهاز العصبي المعوي سيكون أبطأ بكثير من الجهاز العصبي المركزي، وأن اعتمادنا على الجهاز العصبي المعوي من أجل الشعور بشيء ما سيكون عملية طويلة، وهو ليس ما يحدث في الحقيقة.
المحاولات الحديثة لفض هذا النزاع تمثلت في نظريتين، إحداهما للعالم «أنطونيو داماسيو»، تقول بأن الجسد عندما يوضع في حالة شعورية للمرة الأولى، يخزن تلك الحالة في ما يشبه ذاكرة الخلايا.
بناءً على ذلك، في المرة القادمة التي يتعرض الجسد فيها لموقف مشابه، سيتصرف وفقًا لما يعرفه مسبقًا. ليس هذا فقط، بل إن الجسد بإمكانه أن يتخذ القرارات تلقائيًّا. وحقيقةُ أن الجهاز العصبي المعوي يملك كل تلك الناقلات العصبية تجعله المرشح الأقوى للتصرف في المواقف المختلفة وإعطاء الشعور المناسب.
البكتيريا الموجودة داخل جهازك الهضمي لها دول كبير في حالتك المزاجية.
لا يزال هذا الموضوع محل دراسة، ولا تزال الاكتشافات العلمية تحدث على أساس دوري، لكن ما يمكننا بناء معرفتنا عليه الآن أن الجهاز العصبي المعوي لديه عدد هائل من الناقلات العصبية، وأن بإمكانه أن يرسل معلوماته إلى الدماغ، لا أن يكتفي باستقبالها.
يمكن للجهاز العصبي المعوي أن يخبر الدماغ بما يجب أن يشعر به أو يفعله الآن، عن طريق بعض المواد الكيميائية مثل السيروتونين والدوبامين، التي تُسهم في تحفيز أو تثبيط الحالة المزاجية للإنسان. هذه المركبات وُجد أنها تُصنع داخل الجهاز العصبي المعوي، مع العلم بأن المكان الآخر الوحيد الذي يُصنع فيه السيروتونين مثلًا هو الدماغ فقط.
هذه المركبات الكيميائية يحفَّز إفرازها داخل الجهاز الهضمي بمساعدة شيء آخر، هل يمكنك أن تتخيل ما هو؟
إنها البكتيريا
أحد الأمور الأساسية التي تُسهم في حالتك المزاجية وتحفيز إنتاج هرمون السيروتونين هي البكتيريا الموجودة داخل جهازك الهضمي. هذه البكتيريا ليست بالبسيطة أو القليلة، بل إن عددها في جهازك الهضمي يفوق كل الخلايا الموجودة داخل جسدك بأكمله.
هذه البكتيريا ليس غرضها أن تغزو أجسادنا، وإنما هي بكتيريا مفيدة تصحبنا منذ لحظة ميلادنا، وتساعدنا على الهضم والتخلص من أي كائنات غريبة قد تحاول غزو أجسادنا.
توجد هذه البكتيريا بأنواع مختلفة، والقليل من نوع منها قد يساعد على تغيير حالتك المزاجية أو الطريقة التي تتعامل بها مع أي موقف.
أثبتت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا الأمريكية على 40 امرأة أن هناك نوعًا من البكتيريا يُدعى «بريفوتيللا»، وُجد بكثرة لدى سبع من المشتركات، وهؤلاء لديهن اتصال أكبر بين مشاعرهن وقدرتهن على الانتباه والتواصل الحسي الدماغي.
بكتيريا الجهاز الهضمي ليست أمرًا واقعًا أو لا يمكن تغييره، بل يمكن فعل ذلك عن طريق نوع الطعام الذي نأكله. ففي دراسة أُجريت على مجموعتين من الأطفال، واحدة من أوروبا والأخرى من منطقة إفريقية ريفية (لضمان تنوع الطعام بين المجموعتين)، وُجد تباين عظيم بين أنواع البكتيريا الموجودة في كلا المجموعتين.
المجال الذي يدرس حقيقة العلاقة بين الجهاز العصبي المعوي والدماغ لا يزال يتعرض لكثير من البحث والتمحيص، وقد انبثق فرع جديد من العلوم العصبية يُدعى «علم الأعصاب المعوية» (Neurogastroenterology)، يهدف إلى دراسة هذه الظاهرة وفهمها، ومعرفة ماهية العلاقة بين الجهاز الهضمي والدماغ، وكيف أنها وثيقة إلى هذا الحد.
لكن، على قدر ما نعرف الآن، جهازك الهضمي يتحكم في ما تشعر به، وطعامك يتحكم في ما يشعر به جهازك الهضمي. وهذا لا يتوقف على كونك رجلًا أو امرأة بالتأكيد.
أفنان سلطان