في حضرة ملك الحديقة: النجاة بالحب ولو عشت مشردًا في الدنمارك
يا شباب، ألا تريدون شراء مجلة «Hus Forbi» قبل أن تغادروا؟ سعرها 20 كرونة فقط (3 دولارات). لا أكذب عليكم، ويمكن أن تحكموا بأنفسكم. ابحثوا في جيوبكم، فربما تجدون بعض الفكة، ولو لم تجدوا، لا توجد مشكلة. مساؤكم جميل، واستمتعوا بنهاية الأسبوع. أتمنى لكم كل السعادة، الليلة وكل الليالي التي تليها. انبسطوا وادعموا بعضكم. معًا نكون أقوى، فلا تظلوا وحيدين.
بهذه الكلمات والدعوات، وبابتسامة عريضة، وعلى أنغام صوت «إديث بياف» المنبعث من دراجته المميزة، يبدأ «كيفين بيترسون» حديثه للمارة يوميًّا في قلب آرهوس، ثاني أكبر مدن الدنمارك، يبيع بعض مجلاته التي تصدر خصوصًا للمشردين، وتغطي قصصهم، ويعمل في كتابتها وتوزيعها مشردون أو أشخاص كانوا مشردين.
يشتري كيفين المجلات من مركز توزيع أُنشئ كي يمنحهم فرصة عمل تناسب حياتهم التي اختاروها بإرادتهم في دولة مثل الدنمارك، تتسم بارتفاع مستوى الرفاهية.
يوفر المركز كذلك طعامًا وشرابًا مجانيًّا، وأماكن للاستحمام والنوم، وملابس للموزعين، الذين يحصلون على المجلة بسعر 12 كرونة لإتاحة مجال للربح.
«لا أفعل هذا من أجل المال، أفعله للاستمتاع»، يحكي لي كيفين، الذي بدأت علاقتي به في صيف 2016، حين التقيته لأول مرة في حديقة «مولان بارك»، ولاحقًا عرفت أن أصدقاءه نصَّبوه ملكًا للحديقة التي يتجمع فيها كثير من المشردين خلال النهار.
كان كيفين مرتديًا «تيشيرت» مكتوبًا عليه «Fuck the Poor» (اللعنة على الفقراء)، ومن هنا بدأت حديثي معه مستفسرًا عن التيشيرت، وحين علم أني قادم من مصر لأدرس في الدنمارك قاسمني بعض طعامه وشرابه، وتحدثنا عن أشياء كثيرة، وفاجأتني إنجليزيته التي كنت أعتقد أنها ستكون ضعيفة لأنه يعيش في الشارع.
كيفين ليس لديه جدول مواعيد، وليس عليه الذهاب لقضاء «أمر ما»، ولا يمتلك هاتفًا، لكنك ستعثر عليه بسهولة.
في أثناء ذلك، كنا نتنقل مع مجموعة من الأصدقاء إلى أماكن مختلفة في المدينة، نمكث في كل مكان ساعة أو اثنتين، وصار يُعرِّفني إلى الآخرين على أني «آلان» صديقه الجديد من مصر.
كيفين هو الذي اختار «آلان»، بعد أن واجه كثير من أصدقائه صعوبة في نطق اسمي الحقيقي (علاء)، الذي يتحول تلقائيًّا إلى «آلاه»، فأفنعني بأنه أقرب إلى «آلان»، وهو اسم منتشر في الدنمارك، لذلك لن نواجه مشكله شرح الاسم كل خمس دقائق لشخص جديد.
بعد قضاء معظم الليل معهم، قررت العودة إلى البيت يغمرني شعور بالسعادة والاستمتاع، وفضول أكثر عن هذا العالم، وقررت العمل على قصة لمجلة الجامعة عن مجتمع مشردي المدينة مستعينًا بكيفين، خصوصًا بعدما وجدت أن كل ما نُشر عنهم هناك ينحصر في المخدرات والإدمان والعنف، عكس ما رأيته ذلك اليوم.
كيفين ليس لديه جدول مواعيد، وليس عليه الذهاب لقضاء «أمر ما»، ولا يمتلك هاتفًا محمولًا، لكنك ستعثر عليه بسهولة، إذ يقضي معظم ساعات الليل في مكان حيوي وسط المدينة، محاطًا بعدد كبير من الأصدقاء، وعادةً ما يبدأ بيع المجلات هناك بعد الغروب لبضع ساعات قليلة، حتى يقرر التوقف لأنه جمع قدرًا من المال يكفيه ليعيش اليوم، ويؤمِّن حياة الغد.
«لا أحتاج أكثر من ذلك: نقود لليوم، وأخرى لأشتري بعض الجرائد كي أبيعها غدًا. لا أفكر في الغد كثيرًا، فغدًا كل شيء ممكن. أما اليوم، فأنا سعيد، لديَّ المال والبيرة وبعض الحشيش».
الجو يزداد برودة، والمطر يبدأ في الهطول، فنقرر تغيير مكان استقرارنا من منتصف الشارع إلى أحد مداخل المركز التجاري المجاور. وبينما نتحرك، يقول كيفين جملته المشهورة: «معًا نكون أقوى، فعلينا أن نتكاتف وندعم بعضنا كي ننجو».
لم يتغير المشهد كثيرًا تحت السقف الجديد. دراجة كيفين في المنتصف ممتلئة بعلب البيرة، التي يبيع منها أحيانًا لمن يريد، وأيضًا يمنحها مجانًا في أحيان أخرى. تمتلئ العربة أيضًا بالطعام والحلويات والفاكهة الطازجة التي يعطيها لهم المارة، وهي دائمًا مجانية لكل الموجودين الذين يتغير عددهم باستمرار.
بينما الجو يزداد برودة، تزداد المشاعر دفئًا، وأبدأ في الانصهار بينهم، ومشاركة ساندوتش «هوت دوغ» أعطاه لنا أحد المارة. ألاحظ أن هذا الجمع الذي يتكون من عدد كبير من الجنسيات يتشارك كل شيء. اسمك ليس مهمًّا، وكذلك لا يهم لونك ولا بلدك، فهنا يمكنك أن تأكل وتشرب وتدخن وتسمع الموسيقى، وأيضًا تحب.
بدأت أقضي معهم أيامًا كثيرة كفرد منهم، ليس ضيفًا أو صحفيًّا، واكتسبت معظم عادتهم في كل شيء تقريبًا، فبدأت المصافحة بالأقدام بدلًا من اليد، بعد أن أخبرني كيفين أنهم اخترعوا هذه الطريقة حتى لا يضطروا إلى لمس يد أي شخص، إذ يُشاع أن مرضًا جلديًّا يظهر بين أصابع اليدين ينتشر هذه الفترة. كيف نتصافح بالأقدام؟ حين تقابل أحدهم تمد قدمك اليمنى لتلمس جانب حذائه الأيسر، ثم قدمك اليسرى لتلمس يمناه. وبهذا نتحاشى اللمس، فمستويات النظافة ليست في أفضل حالاتها.
في الخامسة عرف كيفين طريق الذهاب إلى هولندا، وفي السابعة عشرة قرر بدء رحلته الخاصة.
يقضي كيفين باقي الليل يشرب البيرة، ويحتفل مع أصدقائه في نفس المكان غالبًا، متجمعين حول الموسيقى التي تغيرت إلى «الروك آند رول» لتناسب الجو الاحتفالي، الذي يستمر أحيانًا حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي.
حتى المشهورين بإثارة المتاعب أو لديهم سجل إجرامي، يجدون ترحيبًا ما داموا يحسنون التصرف. وفي حال خرجت الأمور عن السيطرة، كيفين هو الشخص الذي يتدخل لحل المشكلة بالحديث ومحاولة تهدئه الموقف، وحماية أصدقائه كذلك وإبعادهم عن المشكلات، خصوصًا أن هناك مجموعات مختلفة من المشردين في الشارع، لذلك يلقبونه «ملك مولان بارك».
يلمع البرق في السماء، وتلمع عينا كيفين، ثم يُخرج سلسلة على شكل مطرقة معلقة في رقبته، ويبدأ يحكي عن أنه لا يؤمن بالأديان، لكنه يقدس إلهًا واحدًا من آلهة «الفايكنغ» القديمة هو «ثور»، إله البرق وحامي البشر الذي يُرمز إليه بالمطرقة، لأنه يحمل في يمناه مطرقة يحارب بها أعداءه، وهي مطرقة لها قدرة كبيرة على تحطيم الجبال وإطلاق البرق وتدمير أي شيء، وأيضًا لها القدرة على إعادة البشر والحيوانات إلى الحياة.
تربَّى كيفين بيترسون (36 عامًا) فى بيت كبير بحديقة مع والدته واختين، في مدينة فلستد الجنوبية القريبة من حدود ألمانيا. كان والده يقود شاحنة كبيرة يجوب بها دول أوروبا، لذلك أحب كيفين الطفل الترحال: «كنت أسافر معه منذ صغري، وعندما بلغت الخامسة عرفت طريق الذهاب إلى هولندا، وفي السابعة عشرة قررت أن أبدأ رحلتي الخاصة».
جاء كيفين إلى مدينة آرهوس في 2002، ويعيش في الشارع منذ ذلك الحين. خاض رحلة شاقة في الحياة، تعاطى خلالها الهيروين والكوكايين، لكنه استطاع أن يُقلع عنها بمساعدة أشخاص قابلهم خلال سفره: «حين كنت في إنجلترا كانت حالتي سيئة، قابلت أُناسًا طيبين وطلبت منهم المساعدة، وكانوا كرماء معي، واتفقنا أن يحبسوني فى غرفة وحدي. بعد فترة قصيرة صرت عصبيًّا، ما اضطرهم في بعض الأحيان إلى تقييدي، وكانوا يعطونني الطعام مع زجاجة فودكا لتعينني على التحمل».
لم تكن طريقة احترافية، لكنها نجحت مع كيفين وأقلع تمامًا. من وقتها توقف عن التعاطي: «الآن، فقط بيرة وحشيش».
منذ وصوله إلى آرهوس، يعيش كيفين متنقلًا من مكان إلى آخر دون أن يغادر المدينة مطلقًا. لكن قبل أن ألتقيه بشهر واحد فقط، حصل على مكان خاص به لأول مرة. واحدة من الأُسر الدنماركية منحته نصف مساحة «كرفان» متوقف منذ فترة في الساحة الخلفية للمنزل لينام فيه، وسمحوا له باستخدام حمام المنزل، لكنه يرفض أن يفعل ذلك، ويقضي حاجته في وعاء إذا اضطر إلى ذلك، خصوصًا أنه لا يستخدم الكرفان سوى لوقت النوم فقط.
كنت الوحيد الذي دعاه كيفين إلى الكرفان، فالرجل لا يريد أن يُغضب مالكي البيت. يحدثني كيفين عن سعادته بالكرفان، وكيف أنه أفضل شيء حصل عليه في حياته.
فبعد انتهاء يوم طويل يقود دراجته إلى «منزله» الصغير الذي بالكاد يتسع له، ويشعل شمعتين ليضيء المكان، ويخلع عنه ملابسه، ويجلس إلى جهاز الكمبيوتر المحمول الذي ابتاعه، يشاهد بعض مقاطع الفيديو ويتصفح فيسبوك، بينما يدخن سيجارة الحشيش الأخيرة قبل ، ويغمض عينيه راضيًا.
علاء القمحاوي