جماهير أكثر.. وعي أقل: كيف يُفقدك القطيع فرديتك؟
في الغالب، أنت مشيت في حياتك في مظاهرة واحدة على الأقل، هتفت من أعماق قلبك مناديًا بشعار ما، صرخت وبكيت وضحكت ورقصت، وربما ضَربت وضُرِبت، أو ربما كنت جزءًا من آلاف المشجعين في استاد كرة قدم، أو حتى وسط عشرات منهم على مقهى، تتابعون مباراة مصيرية لفريقكم المفضل.
ربما احتضنت غريبًا لا تعرفه احتفالًا بهدف، أو صرخت بسباب بذيئ يخص شرف أم لاعب الفريق المنافس الذي يدَّعي الإصابة ليحصل على ضربة جزاء، وربما لكمت مشجعًا منافسًا، بادئًا معركة قد تخمد بعد دقيقة أو تتوهج لتشمل المدينة كلها، أو حضرت حفل موسيقى صاخبًا لمغنٍ لا تعرفه، ورغم ذلك رقصت على موسيقاه التي قد تكرهها في ظروف أخرى، وشاركت أغرابًا في الغناء والهتاف والتصفيق.
ورغم أن مشاركتك في أحد كرنفالات ريو دي جانيرو احتمال واهن جدًّا، لكن يقابله احتمال آخر مرتفع أنك حضرت أحد موالد الأولياء الصالحين المنتشرة في أغلب أنحاء بلاد العرب.
لو لم تفعل أيًّا من ذلك، فأنت على الأقل رقصت على مزمار عبد السلام في حفل زفاف ابن عمتك حتى لم تعد تشعر بقدميك مع أصدقاء لا تطيقهم عادة. لا تحاول الإنكار، فقد أرسل إلينا ابن عمتك مقطع الفيديو.
إن فعلت واحدة من تلك الأشياء، فأنت تذكر بالتأكيد ذلك الشعور الجارف الذي سيطر عليك بأنك لست إلا ذرة تراب في ريح عاصفة، الشعور الذي جعلك تفعل ما لم تكن تظن يومًا أنك فاعله. أنت تفسر ذلك بأنه كان «بركة سيدنا الولي» أو «حب الوطن» أو «الانتماء إلى النادي»، أو حتى «سحر المزيكا»، ناهيك بفرحتك الشديدة بابن عمتك طبعًا.
حسنٌ، لا ينكر أحد محبتك لابن عمتك، لكن علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي ذهبوا أبعد من ذلك قليلًا في محاولة تفسير ما حدث، واختلفوا على ذلك التفسير.
ففي حين اهتم علم الاجتماع وعلماؤه بتصرفات الجموع ككتلة واحدة، وتحدثوا عن «السلوك الجمعي»، وقسموا الجماهير إلى أنواع مختلفة، آملين أن يساعدهم هذا في التنبؤ بتصرفات الجموع. كان اهتمام علماء علم النفس الاجتماعي بك أنت، أنت بالذات، يعرفون أنك متحفظ بطبعك، لا تميل إلى العنف والانفعال والتعبير عن عواطفك بشكل صارخ أمام أغراب، فلماذا إذًا فعلت ما فعلت؟ ما حدث لك كان...
نزع الفردية (Deindividuation)
لا توجد ترجمة عربية ملائمة حتى الآن لمصطلح «Deindividuation»، لذا نحاول تقريب المعنى بترجمتها إلى «نزع الفردية» أو «الاندماج في القطيع».
في حالة نزع الفردية، تتوقف عن كونك أنت، عن التفكير في نفسك كشخص متفرد يمكن الإشارة إليه واعتباره مسؤولًا عن فعل ما.
أول من درس ظاهرة الجموع كان الفرنسي «غوستاف لو بون» في كتابه الأشهر «سيكولوجية الجماهير»، وفيه اقترح أنه «أيًّا تكن نوعية الأفراد التي تشكل الجمهور، وأيًّا يكن نمط حياتهم متشابهًا أو مختلفًا، فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية. هذه الروح تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تمامًا عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان معزولًا».
لكن لو بون لم يركز في كتابه طويلًا على الأفراد المعزولين، واستمر متحدثًا عن العقل الجماعي. لن يحدث هذا قبل خمسينيات القرن العشرين، عندما يتناول الموضوع «ليون فيستنجر» وزملاؤه، الذين عرفناهم قبل ذلك في حديثنا عن التنافر المعرفي، ليخرجوا بمفهوم «نزع الفردية»، أي فقدان المرء للوعي بذاته، ومن ثَمَّ للمسؤولية الفردية، عندما يكون جزءًا من مجموعة.
سنتحدث لاحقًا عن كيف أن هذا التعريف ربما ليس صحيحًا كليًّا، لكن دعونا لا نستبق حديثًا قبل أوانه.
ما تقترحه نظرية «الاندماج في القطيع» أنك في حالة الانخراط في مجموعة ما، تصبح مجرد وجه في الزحام، وتفقد إحساسك بهويتك الفردية. ليس الأمر كأنك تتوقف عن كونك أنت، لكنك تتوقف عن التفكير في نفسك كشخص متفرد يمكن الإشارة إليه واعتباره مسؤولًا عن فعل ما.
تجارب الاندماج في القطيع
لبحث هذه الظاهرة، أجرى «فيليب زيمباردو» في عام 1969 تجربة شبيهة بتجربة «ميلغرام» عن طاعة السلطات، وفيها قيل للمشاركين، الذين كانوا طلبة جامعيين، إن عليهم أن يصعقوا أحد المشاركين باستخدام جهاز ينتج صعقات كهربية متدرجة القوى، وبالطبع لم يتضمن الأمر أي كهرباء حقيقية، وكان الشخص المفترض أن ينال الصعقات ممثلًا يشارك في التجربة.
ما ميَّز هذه التجربة أن نصف المشاركين كانوا يرتدون معاطف بيضاء وأقنعة مثل تلك التي يرتديها أفراد جماعة «كو كلوس كلان» تداري هوياتهم بالكامل، والنصف الآخر كانوا يرتدون ملابس عادية وشارات تعريف تحمل أسماءهم.
كانت النتيجة أن أولئك الذين نُزعت فرديتهم (مَن ارتدوا ملابس تداري هوياتهم) استمروا في إطلاق الصعقات الكهربية المفترضة على الممثل لوقت أطول، وبضعفي الشدة التي أطلقها مَن أُكِّدت فرديتهم بالملابس العادية وشارات الهوية.
هذه التجربة ألهمت زيمباردو بتجربته التالية، تجربة سجن ستانفورد. أنت في الغالب تعرف تلك التجربة، فهي أشهر تجارب علم النفس وعلم النفس الاجتماعي على الإطلاق، لكن نظرًا للجدل العلمي والأخلاقي الكبير حولها، لن نتحدث عنها هنا، وربما يكون لها مقال منفصل ذات يوم، وسنكتفي بعرض خلاصة أبحاث زيمباردو عن نزع الفردية.
كيف نندمج في القطيع؟
اقترح زيمباردو، حسبما يقول الدكتور «ماثيو ليبرمان» في محاضراته بجامعة UCLA، أنه كي يدخل الفرد في حالة الاندماج في القطيع، هناك عدة طرق متنوعة لذلك:
- إخفاء الهوية (Anonymity): مثل ما حدث في التجربة بشكل مباشر عندما غطى المشاركون وجوههم، ومثل ما يكون الحال في التجمعات الكبرى، لا أحد يعرف من أنت، مجرد وجه دون اسم ولا هوية، لا أحد يعرفك ولا أحد يهتم بأن يفعل.
- انعدام المسؤولية (Lack of Accountability): أنت غير مسؤول بشكل مباشر عن أي فعل يصدر منك في مثل هذه التجمعات الكبرى، ومسؤولية الأفعال في النهاية تتوزع على الجميع، فلا يحملها أحد بعينه.
- الإثارة (Arousal): هذا المصطلح يرتبط في الأذهان عمومًا بالإثارة الجنسية، لكنها ليست الحالة المقصودة هنا، وإن كانت تندرج تحت نفس البند. المقصود بالإثارة هنا حالة الانتباه واليقظة، جسديًّا وعقليًّا، وتكون نتيجةً لمؤثر شعوري أو جسدي. ومع ازدياد هذه الحالة، تتوقف الأجزاء المسؤولة عن التفكير المنطقي العقلاني في مخك، وتزداد مناطق المشاعر والرغبات اللحظية نشاطًا، ممَّا يزيد من احتمالات دخولك حالة نزع الفردية.
- التجمعات الكبرى (Large Groups): النقطة الرئيسية التي بدأ منها البحث في حالة الاندماج في القطيع. فكلما زاد عدد المحيطين بك يزداد كونك مجهولًا، وتتوزع المسؤولية أكثر على الجميع فلا ينالك منها الكثير. وتبعًا للنشاط الذي تمارسه المجموعة حولك تتحدد نسبة الإثارة، فلو كنت في حفل للموسيقى مثلًا والجميع يرقص ويغني، فالإثارة سترتفع إلى ما لا نهاية.
- الحسيَّة المفرطة (Sensory Overload): ما يحدث عندما تتعرض واحدة أو أكثر من حواسك لمؤثر خارجي أقوى وأكبر ممَّا تستطيع احتماله في العادة، مثل أصوات مرتفعة للغاية، أضواء باهرة جدًّا، رائحة (سيئة أو حسنة) كثيفة. يؤدي هذا عادةً إلى حالة من فقدان السيطرة على الذات والحكم العقلي المنطقي على الأشياء، ويجعل الانزلاق إلى حالة نزع الفردية أكثر سهولة.
- حالة الوعي المتغير (Altered State of Consciousness): أنت الآن (غالبًا، أتمنى ذلك) في حالة «وعي عادي»، ترى العالم مثل ما يراه الآخرون في نفس الحالة. تفقد هذا الوعي في حالة النوم مثلًا أو دخول غيبوبة. قد يحدث تغير مؤقت في حالتك العقلية دون أن تعتبر فاقدًا للوعي، فترى، نتيجةً لمؤثر ما، العالم بعيون مختلفة، يصير لكل شيء معنًى وشكل وملمس يختلف عن المعتاد. هذا المؤثر قد يكون مخدرات أو كحول، أو بسبب التأمل مثل جلسات اليوجا، أو لظروف مرضية، أو حتى نتيجة مرور أيام دون أن تنال قسطًا مناسبًا من النوم.
ليست هذه شروطًا لدخول حالة الاندماج في القطيع، وإنما عوامل تساعد في الوصول إليها، وتحقُّق أحدها أو بعضها قد يكفي لتُنزع فردية المرء، وربما لا يحدث هذا حتى وإن تحققت كلها.
يتحدث زيمباردو عمَّا يعتقد أن حالة نزع الفردية تسببه في عقولنا: «تتسبب في، مثل ما ذكرنا من قبل، خفض الوعي بالذات إلى أقل درجة، ممَّا يؤدي إلى عدم اهتمامنا بتقييم الآخرين لنا ولأفعالنا، وعدم اهتمامنا حتى بتقييم أنفسنا كما نفعل كل يوم وكل لحظة بصفة مستمرة.
تؤدي حالة الاندماج في القطيع أيضًا إلى تشوش في الإحساس بالوقت، إذ تصبح منغمسًا بكل كيانك في الشعور بـ«الآن»، وغير مهتم أو مدرك لمفاهيم مثل «الماضي» أو «المستقبل».
بعد خروجك من حالة نزع الفردية، تكون ذاكرتك عن كل ما حدث ضعيفة جدًّا، صور باهتة وأصوات غير واضحة.
عدم اهتمامك برأي الآخرين فيك وفي أفعالك، ونسيانك ما تعنيه مفاهيم الماضي والمستقبل، يجعلك أكثر تهورًا في أفعالك، وفريسة سهلة لأي غريزة أو رغبة لحظية مندفعة لتسيطر بسهولة على أفعالك، مهما كانت هذه الرغبة غريبة أو خطيرة أو مؤذية، لك شخصيًّا وللآخرين.
يقترح زيمباردو كذلك أن أفعال المحيطين بك تصبح مُعدية، سترغب في تقليدها والمشاركة فيها وأن تصير جزءًا منها، حتى لو تنافت مع قناعاتك الشخصية في الأحوال العادية. ستكون سعيدًا في هذه الحالة بمشاركة حشد غاضب إشعال النيران في سيارات الشارع على سبيل المثال، طالما أن الآخرين في نفس المجموعة معك يفعلون ذلك. يسهل فهم هذه الفكرة لو كنت قد قرأت مقالنا السابق عن الدليل الاجتماعي.
آخر ما سنذكره هنا من أبحاث زيبماردو عن الاندماج في القطيع أنك بعد أن تخرج من تلك الحالة، ستجد ذاكرتك عن كل ما حدث وأنت تحت تأثيرها ضعيفة جدًّا، ليست أكثر من صور باهتة وأصوات غير واضحة، وتختلف حدة التأثير بالطبع تبعًا لدرجة انغماسك في الحالة.
باختصار، يرى زيمباردو أن حالة نزع الفردية شيء سلبي، حالة من الانحطاط تدفع المرء إلى ارتكاب أسوأ الأفعال التي ترفضها أخلاقيات الشخص العادي في أغلب الأحوال، ويجب علينا تجنبها بقدر الإمكان.
هل نزع الفردية بهذا السوء فعلًا؟
بالنظر إلى الطرق المختلف التي تقود إلى تلك الحالة كما وصفها زيمباردو، فإنها تبدو كخطة لقضاء ليلة ممتعة بصحبة أصدقائك، بل وربما إن عدت لتذكُّر أسعد لحظات حياتك الشخصية ستجد أنها تضمنت على الأقل نقطتين من أصل النقاط الستة أعلاه.
نزع الفردية حالة تؤدي إلى استجابة الفرد لأعراف المجموعة، وبالتالي تكون تصرفاته محكومة بالأفعال المتعارف عليها بين هؤلاء.
لا يرغمنا أحد على دخول حالة الاندماج في القطيع. عفوًا، قد يكون هناك من يرغمنا عليها أحيانًا عن طريق حلق رؤوسنا وإلباسنا زيًّا موحدًا لمدة معينة، لكن باستثناء هؤلاء، يسعى أغلبنا بنفسه إلى الانخراط في نشاطات ومجموعات تؤدي بنا إلى تلك الحالة، لأسباب إيجابية غالبًّا. ربما قد يفاجئ هذا زيمباردو، لكن زفاف ابن عمتك كان حدثًا سعيدًا مرَّ بغير إصابات، بغير إصابات قاتلة على الأقل.
رغم دقة أبحاث زيمباردو ونتائجه، فإنه يميل إلى المبالغة الراديكالية الدرامية في نتائج أبحاثه، لتصير أكثر ملاءمةً للظهور الإعلامي. الحقيقة أن حالة نزع الفردية، برغم أنها يمكن أن تقود إلى أفعال سلبية مؤذية للفرد وللآخرين، فإنها لا تؤدي إلى ذلك بالضرورة أبدًا.
أبحاث حديثة بهذا الشأن استنتجت أن نزع الفردية تؤدي إلى استجابة الفرد إلى أعراف المجموعة التي صار جزءًا منها في هذه اللحظة، وبالتالي تكون تصرفاته محكومة بالأفعال المتعارف عليها بين هؤلاء. إذًا، ليس الاندماج في القطيع حالة حسنة مستحبة، ولا هي حالة منحرفة سيئة، إنما سياق الموقف هو المتحكم.
لن يمكنك أبدًا أن تتحكم في أفعالك بشكل كلي ما أن تنزع فرديتك وتصير جزءًا من الزحام، لكن ما يمكنك فعله، وعليك فعله، أن تتحرى المواقف والمجموعات التي تنوي الاشتراك فيها.
هناك دومًا فرصة أخيرة للتفكير الواعي قبل أن تنسى نفسك (بوصولك إلى هذه النقطة في القراءة، أظن أنك فهمت أن «تنسى نفسك» تعبير حرفي هنا)، لتفيق بعد عدة ساعات وتجد أنك تحمل جهاز لاب توب مسروقًا، بعد أن اقتحمت مع غوغاء مجنونة متجر «راديو شاك» القريب وسرقتم ما استطعتم قبل أن تحرقوه، أو على الأقل تأكد من تذكر مواصفات اللاب توب الذي ترغب في اقتنائه، قبل أن تسرق واحدًا لا يلائمك.
محمد جمال