تجربة شخصية: عن البنوَّة وأشباحها وإيمان مرسال
لا أعرف إن كان مصطلح «البنوة» هو المصطلح الأمثل لما أكتب عنه، ولا أعرف أصلًا لِمَ أكتب هنا عنه. هل استفزني كتاب إيمان مرسال «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، أم أنني اعتدت أن أكتب عن كل ما تقع عليه عيناي، من أول نفسي حتى الفتات الساقط من طعام المارة؟
كلما مررت بموقف أتخيل كيف سيُشكَّل على الورق، كلما خذلني شخص تخيلت كيف سيواسيني الورق حين أشكو إليه. جُل ما أعرفه أنني أريد أن أفضفض مع أحدهم حول هذه الصخور التي أحملها، صخور الذنب، رغم أنني لست أُمًا كما إيمان.
شبه كبير بين إيمان مرسال وبيني، وبين ابنها يوسف وبيني أيضًا، شبه قد يكون موجودًا بالفعل وقد أكون خلقته أنا، لأشعر بأني لست وحيدة في المأساة. غريب كيف يشعر الإنسان بالأمان حين يجد من يعيش نفس مأساته، وكأنه يطمئن أنه لن يطالب بتبرير لحزنه.
جسد غير صالح
«يبدو الذنب وكأنه الشعور الذي يوحد الأمهات على اختلافهن».
بينما لا يوجد شعور معين يوحد فكرة البنوة، غير التنافس ربما، لا تُعامل مثلما تُعامل الأمومة، فلم يذكر أحد كما من قبل كما أظن أنها غريزة أو شعور يولد به الإنسان، أو هدف الحياة السامي، حتى أنني أشعر أحيانًا أن الطفل اليتيم لا يُعامل بنفس الأسى الذي تُعامل به المرأة التي لم تنجب.
تقول مرسال في كتابها: «بمجرد التأكد من حملي الذي أردته بكامل إرادتي لم أشعر بالفرح الذى توقعته، سيطر علي طوفان من المخاوف والرعب من أن جسدي غير صالح للقيام بهذه المهمة، كنت في الثانية والثلاثين واكتشفت أنني لم أهتم بصحتي قط، كان الجسد مجرد وعاء لما أظنه نفسي، آلة لا تطالب بشيء ومع ذلك من المنتظر منها الاستمرار في الخدمة. كنت قد بدأت التدخين بشراهة قبل عشر سنوات، عشت نمط حياة شبه بوهيمي، حيث لا يحتاج الجسد إلى وجبات منتظمة ولا إلى ساعات محددة من النوم، بالإضافة إلى تاريخ من أدوية الاكتئاب والمنومات والمسكنات وغيرها مما وصلت إليه يداي».
تقريبًا أحمل نفس الجسد الذي تحمله إيمان بالضبط، غير أنني أدخن منذ سبع سنوات فقط. جسد قد لا يصلح للأمومة كما لا يصلح للبنوة أيضًا، فإن كان من المحتمل أن تنتقل الأمراض من الأم للأبناء خلال الحمل، فانتقال الأمراض من الأبناء للأم في الحياة أكيد.
العجز وأشباح البنوة
لا أعرف كيف تتحمل أمي العيش مع ابنة شابة في مقتبل حياتها، مصابة باكتئاب أكيد واضطراب ثنائي القطب مشتبه فيه. لا أعرف كيف بدأ هذا ولا متى، ولا أعرف إن كان سينتهي، لكنني أتذكر الكوابيس والصراخ وخوفي من أن ينمو شيء على الحائط ويبتلعني، أو من هذا الشخص الذي ينتظرني على كل الأبواب يريد قتلي. أتذكر الأعراض الجانبية للأدوية التي أدمنتها في ما بعد، أتذكر أمي أكثر من أي شيء آخر، أستطيع رسم بورتريه للعجز الذي كان يسكن عينيها.
ما يزيد أمري سوءًا أنني أعي تمامًا ما أسببه لأمي، أعي صراخي فيها بأنها السبب في ما أنا فيه، أعي أنني منذ ما يقرب من الثلاث سنوات وأنا أقابل أمي بيدين مرتعشتين وجسد عجوز يُفترض أنه لفتاة في العشرين، وعينين لا يمكنها أن ترى فيهما الفرح المطلوب. هذا هو الشبه بيني وبين يوسف ابن إيمان، مرض الاكتئاب الذي قرر زيارتنا مبكرًا، مرض تحمله منصافةً مع من يحبونك، و قد ترتاح أنت قليلًا مع الدواء بينما هم لا يرتاحون.
الذنب الذي يأكلنا
«الموت أرحم من المرض النفسي، أنت لا تستطيع أن تمتلك ذكرى شخص يفقد علاقته بالعالم أمامك يومًا بعد يوم».
ربما يشعر يوسف أيضًا بالذنب تجاه والدته كما أشعر أنا، ربما بعد الصراخ ونوبات الهلع يبكي بمفرده على ما سببه لها من مشاكل وحزن.
أحيانًا أفكر: كيف كانت ستكون حياة أمي لو لم تنجبني؟ ربما ستكون أكثر سعادة من الآن، ربما ستعيش حياة هادئة لا تجلب لعينيها كل هذا الحزن. لكن مع هذا لا يمكنني الاختفاء من الحياة بعد أن اعتادت وجودي، فأظل أفتح عيني كل صباح فقط من أجل أمي، استيقظ كل يوم: آكل وأدرس وأغني رغم أنني لا أرغب في هذا، فقط كي لا تحزن هي. الحياة ليست سيئة إلى هذا الحد، ولكن ربما نحن، المصابون بالاكتئاب، لا نستطيع التعامل معها.
لم يبدأ شعوري بالذنب مع مرضي، بل بدأ منذ زمنٍ طويل جدًا، بل أعتقد ربما أنني ولدت به. أشعر بالذنب مثلًا على تلك المرة التي أصَبت فيها عيناي حين كانت أمي تجهز عشاءً مختلفًا لي لتغيير الجو وقضاء أمسية لطيفة، كنت ألعب بشريط صور غير محمض، أشاهد الصور مرارًا وتكرارًا، وحين مللت لففته حول عيني فأصبتهما بغير قصد.
لا أتذكر بعدها سوى صينية العشاء مرمية بعيدًا وأمي تبكي بجانبي تحاول معالجتي بالقطرات، كنت في الرابعة والآن في الواحدة والعشرين، وما زلت أشعر بالذنب كلما تذكرت هذه الليلة وأبكي، أبكي على مرة من المرات التى كانت تحاول فيها أمي إدخال السعادة إلى قلبها وضيعتها أنا، لا تتذكر أمي هذه الحادثة وتعتقد أنها ربما أوهام طفولة، وأعلم أنا أنها حقيقة مخزية أحملها معي أينما ذهبت.
الحبل السري الذي لم ينقطع
تبدو أمي مختلفة تماما في صورها، تبدو أكثر إشراقًا وسعادة ومختلفة تمامًا عما هي في الواقع. لم تخفِ أمي نفسها في الصور أبدًا، لكنها أخفت نفسها في الحياة، اختفت داخلي أنا وأخي، داخلي بشكل أكبر ربما لأنني البكرية التى ظلت وحيدة تأخذ الحب والاهتمام لخمس سنوات.
لا أعرف كيف كنت سأشعر لو كانت أمي تصرفت بشكل آخر، هل كنت سألومها؟ هل كنت سأتهمها بالتقصير؟ لا أعرف، أعرف فقط أنني أردت دائمًا أن أراها سعيدة.
تتحدث إيمان مرسال في كتابها عن الكاتبة «أدريان ريتش»، وتقول: «أظن أنها تمنت أحيانًا من طفلها الذي هو جزء منها أن ينفصل عنها بعض الوقت، أن يصدق أن من حقها أن تذهب وحيدة لمقابلة نفسها».
أما أنا فحصل معي العكس: كنت أريد من أمي أن تذهب لمقابلة نفسها، ولم تقتنع يومًا أن هذا من حقها. علمتُ في ما بعد أن أمي تخاف هذا الانفصال.
متعلقة بي لدرجة أنها ترى أي شيء أفعله سبب فخر لها عليها أن تقصه على الناس، من أول التفوق الدراسي الذي لم يعد موجودًا، إلى المقالات التي أكتبها، وحتى الإبر، فأمي تردد دائمًا أنها لا تذهب لأي صيدلية: «بنتي حنين بتعرف تِدي حقن، هي اللي بتديني الحقن على طول»، ولا أعرف كيف يمكن أن يكون إعطائي للحقن سبب فخر؟
يحاول بعض الأبناء لفت انتباه آبائهم بطرق غريبة أحيانًا، بينما أنا أعاني من فرط هذا الاهتمام، أو بالأحرى الاحتياج المستمر إلي وكأنني أمها وليس العكس.
لا ألومها، أو ربما أفعل أحيانًا للأمانة، وهذا اللوم داخلي يزيد شعوري بالذنب، إذ لا أستطيع أن أحمل امتنانًا خالصًا لها، ومع ذلك أحاول دائمًا ألا أخذلها لو قليلًا. وأن أتخلص من هذا الذنب الذي نما داخلي، الذي بتُّ أشعر به تجاه كل شيء، حتى تجاه الغرباء وحيوانات الشوارع وتلوث الجو، وكأنني المسؤولة عن كل الدمار في العالم.
حنين طارق