نصف انتباه: كيف تشغلنا التكنولوجيا عن أبسط تواصل مع أطفالنا؟
يبدي كثير من الآباء انزعاجهم من فرط استخدام أطفالهم وسائل تكنولوجيا الاتصالات الحديثة. فبين ساعات ذكية وهواتف وحواسب لوحية، وحتى حواسب شخصية، نجد أن غالبية أطفال أيامنا هذه يمضون معظم أوقاتهم أمام الشاشات بمختلف أنواعها وأحجامها. الخطير أن ذلك يحدث في سنوات العمر الأولى من حياة الأطفال، ولا نبالغ إن قلنا إنه، في بعض الأحيان، خلال الشهور الأولى من أعمارهم.
ما لا يتوقعه الآباء أن إفراطهم هم أنفسهم في استخدام التكنولوجيا أخطر على أطفالهم من إفراط الأطفال في استخدامها، إذ إن الضرر الواقع على الطفل من إدمان والديه للتلك الأجهزة، يتجاوز بكثير الضرر الواقع عليه عند الاستخدام المباشر لها، بحسب ما عرضه مقال للكاتبة وخبيرة تربية الأطفال الأمريكية «إيريكا كريستاكيس»، نشرته مجلة «ذي أتلانتك» الأمريكية.
اللوم يقع عليكم أولًا
ترى كريستاكيس أنه، رغم إلقاء اللوم على إفراط استخدام التكنولوجيا في كثير من مشكلات الحياة، مثل حوادث السير واضطرابات النوم وتوتر العلاقات، فإنه في وسط الانتقادات اللاذعة لاستخدام وسائل التكنولوجيا، يجري إغفال مشكلة أكثر خطورة، وهي الضرر الواقع على الأطفال من انشغال آبائهم عنهم، نتيجة إدمان استخدام وسائل الاتصال والأجهزة الحديثة.
صحيح أن السنوات الأخيرة شهدت زيادة في الوقت الذي يقضيه الآباء والأمهات مع أطفالهم، مقارنة بفترة ستينيات القرن العشرين مثلًا. لكن في الوقت ذاته، انخفض تفاعل الوالدَيْن مع أبنائهما خلال فترة وجودهما معهم بشكل غير مسبوق، ليصبح حضورهما بذلك مجرد حضور بالبدن في ظل غياب العواطف والمشاعر الحقيقية التي يحتاج إليها الطفل، وبخاصة في مراحل حياته المبكرة.
لا تعني خطورة انشغال الآباء عن أطفالهم باستخدام التكنولوجيا، التقليل من شأن المخاطر الناتجة عن كثرة استخدام الطفل لها، فقد ثبت أن ذلك يتسبب في عدد من المشكلات التي تتعرض لها عقول الأطفال، ويزيد الأمر سوءًا مع ارتفاع متوسط عدد الساعات التي يقضيها الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة، أمام الشاشات، إلى أربع ساعات يوميًّا، حسبما تشير كريستاكيس.
لكن مع توجيه معظم الاهتمام إلى المخاطر الصحية والنفسية التي يتعرض لها الطفل المسرف في استخدام التكنولوجيا، يجب زيادة الوعي بالخطورة الواقعة على الأبناء عندما يسلك الآباء السلوك ذاته، إذ ينتج عن ذلك حالة عرَّفتها خبيرة التكنولوجيا «ليندا ستون»، منذ عشرين عامًا، باسم «الانتباه الجزئي المتواصل»، وهي حالة لا تضر البالغين والآباء فقط، بل تضر بأبنائهم أيضًا.
أسلوب التواصل المتقطع الذي يمارسه الوالدان مع الأطفال، بفعل انشغالهما باستخدام الهواتف الذكية، وغيرها، يؤدي إلى اضطراب في النظام العاطفي للطفل الذي يعد الأساس الذي يبني عليه مهارات تواصله فيما بعد، ويعد حجر الزاوية في استجابة الطفل للتعلم.
قد يهمك أيضًا: الهواتف الذكية تؤذي الأطفال
طفلك فاشل؟ اترك هاتفك..
أثبتت الدراسات، أن الحوار التفاعلي بين الوالدين والرُّضَّع، حتى وإن لم يفهم الرضيع محتواه، يعزز من فرصه فى تعلم الكلام، إذ ينجح الرُّضَّع، بين 11 و14 شهرًا، في تعلم عدد كلمات يبلغ ضعف ما يمكن أن يتعلمه من لا يحظون بهذا الحديث مع آبائهم، حتى بعد بلوغهم العامين.
يشار هنا إلى أهمية الحوار الدائر بين الطفل وإنسان حقيقي، وليس مع مقطع صوتي أو فيديو. فقد أجريت تجربة على مجموعة من الرضع، في عمر تسعة أشهر، استمعوا إلى تعليمات من شخص حقيقي أمامهم، استطاعوا بعدها أن يتعلموا عددًا من الحركات الصوتية، في حين أن مجموعة أخرى من الرضع، في نفس العمر، عندما استمعوا لنفس التعليمات من خلال فيديو، فشلوا في تعلم تلك الحركات الصوتية. فالتواصل المادي هنا يلعب دورًا مهمًّا في تطوير وظائف اللغة في أدمغة الأطفال.
«كاثي هيرش بازيك»، أستاذة الطب النفسي بجامعة تمبل، والحاصلة على زمالة معهد بروكينغز، تقول إن تعلم اللغة بالنسبة إلى الطفل، يعد أقوى مؤشر على مدى تفوقه الدراسي. وإن أحد أقوى الطرق التي تعزز مهارات تعلم اللغة لدى الطفل، هي الحديث المباشر مع البالغين.
تظهر المشكلة عندما ينقطع الحديث بين الطفل وأحد والديه، بسبب رنين الهاتف، أو التنبيهات الصادرة عن إشعارات التطبيقات المختلفة التي لا تهدأ، والتي يتحتم معها تحويل انتباه الأب أو الأم عن طفلها لمطالعة الرسائل الواردة لها، ما يكون له بالغ الأثر السيئ على القدرات الإدراكية والتعلمية للطفل.
المشكلة لا تكمن في أن الآباء والأمهات يضطرون، في بعض الأحيان، إلى إخراج أطفالهم من مركز اهتمامهم، فمن السذاجة انتظار أن يكون الطفل على الدوام محور انتباه والديه، وبخاصة في ظل أنهما مطالبان بتحمل مسؤوليات أخرى. لكن المشكلة تكمن في إدمان الانشغال عن الطفل، أو تشتت الانتباه الخارج عن السيطرة، وهو ما يحدث بسبب استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة.
يزداد الأمر سوءًا عندما يدمن الأب أو الأم التكنولوجيا، ويقطع الطفل تركيزهما عند استخدام الأجهزة المختلفة، فيشعر حينها الوالدان بالغضب المتزايد تجاه الطفل، ويريان أنه يحاول التلاعب بهما، والسيطرة عليهما، في حين أن كل ما يحاوله الطفل وقتها لفت انتباههما للشعور بأنه مركز الاهتمام الذي يفتقده.
قد يعجبك أيضًا: كيف تُضعِف وسائل التواصل ذاكرتك؟
نحن آباء، ولسنا خارقين
قد يكون الانفصال الجسدي بين الطفل ووالديه أمرًا مؤذيًا نفسيًّا، وصحيًّا لجميع الأطراف في الوقت نفسه. لكن يتضاعف حجم الأذى عندما يكون الوالدان حاضرين بجسديهما، وفي نفس الوقت يتعاملان مع إشعار تنبيه الإيميل أو الواتساب أو الإنستغرام، وكأنه أكبر قيمة من التواصل مع أطفالهما، ساعتها يتساوى الحضور البدني بالغياب لأن الغياب العاطفي يصبح مسيطرًا على المشهد.
حل المشكلة لن يكون سهلًا، ولن يخلو من تضحيات، وخصوصًا أن مشكلة انشغال الآباء عن أطفالهم، باستخدام التكنولوجيا، أصبحت أسلوب حياة أكثر من كونها ظاهرة غير صحية. حتى في المدارس، فإن نظام التعليم القائم على اقتصار دور الطفل على تلقي الحديث من معلمه، دون مشاركة فعالة، يحرم التلاميذ في هذه السن الصغيرة من اكتساب مهارات المحادثات العفوية ليكون ذلك امتدادًا لحرمانهم منها في المنزل.
أحد الأركان الأساسية للمشكلة تكمن في معتقدات الآباء والأمهات. فربما تكون طبيعة الحياة العصرية اضطرتهم إلى الاعتقاد بأن في إمكانهم أن يفعلوا كل شيء على الدوام. فهم يظنون خطأً أنهم يستطيعون رعاية شؤون عملهم في جميع الأوقات، وتحمل مسؤولية منازلهم على الدوام، ومتابعة آخر الآخبار بصفة مستمرة، وفوق كل ذلك رعاية الطفل ومنحه الاهتمام المطلوب وقتما يحتاج إليه، والنتيجة تأتي عكسية. يشعر الطفل بأن هناك ما يشغل والديه عنه عندما يريد الحديث معهما.
يمكننا بمزيد من التخطيط والوعي، إدراك حقيقة أننا كبشر نملك جهدًا ووقتًا محدودين. فعندما تشعر بحاجة إلى الاستمتاع بوقتك على صفحات التواصل الاجتماعي، أو متابعة مسؤوليات منزلك، أو واجبات عملك، فافعل ذلك. لكن كرِّس لكل دور من هذه الأدوار وقته المحدد الذي يكون فيه طفلك بعيدًا عنك، منشغلًا بألعابه أو دراسته. وحينما يكون طفلك أمامك، فإن الاستماع والتحدث إليه ومعه، يجب أن يكون له الأولوية، وليست إشعارات الرسائل الإلكترونية.
أيمن محمود