«البعيد عن العين»: كيف تغيرت علاقاتنا بالأصدقاء بسبب كورونا؟
لم يكن أغلبنا مستعدًا لمواجهة وباء كورونا. لا أقصد الاستعداد الطبي، فكلنا لسنا كذلك، بل الاستعداد النفسي اللازم للحياة وحيدًا لعامين وأكثر، مرغمًا على المكوث في المنزل، على ممارسة العلاقات الحياتية فقط عبر نافذة الإنترنت.
في مقالها على موقع النيويوركر، تخوض الكاتبة «جين هو» في سيكولوجيا الصداقة وتأثرها بالوباء، الذي كان منعطفًا مهمًا في العلاقات الإنسانية في كل دول العالم.
تفتتح جين مقالها بقصة حدثت قبل أكثر من عام، حين أعلنت واحدة من الذين تتابعهم على تويتر أنها ستتوقف عن استخدام المنصة، والسبب أنها تريد أن تمارس مزيدًا من الأشياء خلال حياتها، ولذلك تريد تقليل الاتصال بالإنترنت. ورغم أنه لم تكن بينهما علاقة وطيدة، فإن الكاتبة شعرت أنها ستفتقدها. لكن بدلًا من تبادل المجاملات والتمنيات بالتوفيق كالمعتاد في مثل تلك المواقف، بادرت الفتاة إلى سؤال الكاتبة عن بريدها الإلكتروني. وفي غضون أشهر، تطورت العلاقة بينهما إلى تبادل المحادثات الهاتفية بصورة دورية، ثم الرسائل النصية يوميًا، وهو تطور حميمي لا يبدو فريدًا فقط خلال العصر الرقمي الذي نعيشه، بل خلال العام الماضي الذي شهد ذروة الإغلاق والتباعد الاجتماعي بسبب الجائحة.
تطورت العلاقة حتى صارت واضحة، لدرجة أن الكاتبة تجد حبيبها يسألها عن هوية الطرف الذي تكتب له: «هل هي مجددًا؟»، ثم يشرئب بعنقه كي يرى صورتها وهي تغمز بعينها في الجزء العلوي من التليفون، وهو مشهد تكرر طوال العام الماضي. ورغم أن حبيبها لم يتهمها بالخيانة بعد، فإنه في مرحلة ما بدأ يحدثها عن شعوره بالغيرة، ولم يكن يمزح.
شعرة معاوية: لا تقتربوا كثيرًا، لا تبتعدوا كثيرًا
تنقل «جين هو» افتتاحية الفيلسوف والشاعر الأمريكي رالف والدو إمرسون لمقاله المعنون «الصداقة» عام 1841، والذي يبدأه بحكاية تخيلية يقول فيها إن غريبًا يحل ضيفًا على منزل أحدهم، ولا يجد المضيف من ضيفه سوى كل خير. تبدو الجلسة مريحة رغم أنهما لا يعرفان بعضهما البعض، فهما ذكيان ومتحدثان لبقان، ويخوضان مناقشات ممتعة للغاية. لكن بعد أن ينهيا طعام العشاء ويعودان إلى تبادل الحديث، تتغير نبرة الغريب ويبدأ في التطفل على أمور تخص صاحب المنزل، مثل عيوبه وانحيازاته الشخصية. وهكذا، ينتهي مشروع الصداقة الواعدة فجأة كما بدأ.
يخبرنا إمرسون أن أفضل الأصدقاء الذين يمكن أن تحظى بهم، هم هؤلاء الذين يحافظون بشكل ما على مساحة بعيدًا عنك. وتنقل جين تعمُّقه خلال مقاله في الحدود الفاصلة بين الغرباء الجذابين والأصدقاء القريبين أكثر من اللازم، بين الغموض المحبب للنفس لدى من لا نعرفهم، والحميمية المزعجة التي تسمح لصديق أن يعرِّج على منزلك دون اتفاق فيأتي على محتويات ثلاجتك.
تنضح الصداقات المتينة بهذا التناقض بين الغياب الواضح والحضور القوي، بين «انقباض القلب وانبساطه» على حد تعبير والدو، أو «مد الحب وجَزْره». تشير جين إلى أنها حين قرأت كتابات والدو لأول مرة كانت في الكلية، وانجذبت على الفور إلى الرؤية اليوتوبية التي تعدنا بها فلسفاته المتعالية.
كانت في الثامنة عشرة وقتها، وكانت تميل أيضًا إلى التعالي. لكن إعادة قراءة كتاباته الآن تصيبها بالدهشة، لافتقارها إلى العاطفة رغم نثريتها المنمقة. يكتب والدو أننا «نبالغ في تقدير ضمائر أصدقائنا»، وأن المجتمع المحيط بنا عبارة عن خيبات أمل مستمرة. لكنه يكتب هذا خلال أزمة الديمقراطية الليبرالية، حين بدأ الفتور يغزو الحماس لإلغاء الرق، واختُصرت سياسات الاحتجاج في أفعال رمزية وأجندات لمصالح بعينها، ولهذا ربما يكون كلامه نابعًا بصورة جزئية من تشككه في طريقة التفكير الجماعي آنذاك.
تعتقد الكاتبة أنه لو عاش بيننا الآن، كان رالف والدو إمرسون «ليحب التواصل عن طريق الرسائل النصية، فهي توفر الطابع الحميمي لكتابة الرسائل، وفي الوقت ذاته لا تتطلب ذاك القدر المبالغ فيه من الحميمية. التليفون الذي تحمله في يدك يحبس أصدقاءك داخل إطار معين، بحيث لا يصل إليك منهم سوى القدر الأدنى من الإزعاج المصاحب لعلاقات الصداقة».
«دز لي.. لا تدق علي»
تذكر الكاتبة أن آخر مرة خرجت فيها قبل الإغلاق بسبب أزمة كورونا كانت مع امرأتين لم تعد تجمعها بهما الآن أي معرفة. انتهت الصداقة بينهم عبر الرسائل النصية، لم «يتكلموا» معًا، لم يلتقوا للحديث عن هذا وجهًا لوجه: «كانت صداقتنا تحتضر بالفعل، لكن الوباء عجَّل بموتها، وجزء من هذا يعود إلى يقيننا بأننا لن نرى بعضنا البعض قريبًا بسبب الإغلاق». وبعد شهور من الصمت، أخذت الكاتبة زمام المبادرة بإعلان موت الصداقة عن طريق إلغاء متابعتهما على منصات التواصل الاجتماعي.
وبينما ساعدت الجائحة في إنهاء بعض الصداقات، تلاشى بعضها الآخر في صمت مؤلم. فحين لا يبقى من الصداقة سوى بعض الرسائل والمكالمات وقليل من المقابلات على زووم، يفهم المرء تدريجيًا الفارق بين العلاقات المبنية على الحب والتعلق فعلًا، وتلك التي لن تحتمل أوقاتًا صعبة كتلك، حسبما تقول جين.
القدرة على تبادل الحديث تعد مهارة ضرورية لاستمرار أي صداقة. لكن مع اضطرارنا إلى تقليل اللقاءات إلى الحد الأدنى بسبب الوباء، تقل الموضوعات التي يمكن تبادل الأحاديث حولها مع الوقت.
غياب المساحات الاجتماعية المشتركة مثل المكاتب والمقاهي والحفلات والجيم، كشف لنا أن بعض الصداقات أكثر راحة من بعضها الآخر. غيَّر الوباء طبائعنا الجسدية والنفسية في ما يتعلق بالتواصل الاجتماعي، وبالتالي صارت بعض علاقات الصداقة لا تتوافق مع الطبائع الجديدة. انتهى عصر تبادل النميمة في استراحة الغداء، والدردشة خلال التمشية من العمل إلى المنزل، واللقاءات في الجيم، وهي الأوقات التي كنا نسترق فيها مساحات من الحياة لتبادل آخر أخبارنا الشخصية على عجل. حين تعود جين بذاكرتها إلى الماضي تجد نفسها تتساءل: هل كانت تذهب إلى الجيم لرؤية صديقتها، أم أنها كانت تراها فقط بسبب ذهابها إلى الجيم؟
تشير الكاتبة إلى أن كل هذه الأفكار تعود لغزو رأسها مع بدء انحسار الوباء، وحصول كثيرين على اللقاحات التي تؤهلهم للعودة إلى تلك المساحات الاجتماعية المشتركة: «عاجلًا أم آجلًا، سألتقي صدفة ببعض من قطعتُ علاقتي بهم، وأعتقد أن تلك اللقاءات ستتسم بالبرود وبعض الحرج». تتساءل ما إذا كانت استراحات الغداء والخروجات مع زملاء العمل ستعود كما كانت، وما إذا كانت يومًا ما ستقابل صديقتها الجديدة وجهًا لوجه. «الاجتماعيات مثلها مثل الشِّعر، تتضمن قدرًا كبيرًا من الكلام الذي ننثره لملء الفراغات، المجاملات التي نجدنا مضطرين إلى قولها لبعض الأشخاص فقط لأننا نتشارك معهم شيئًا أساسيًا كالمكتب أو المواصلات».
هذه المجاملات الرسمية تعد سببًا آخر يدفع الكاتبة إلى إعادة قراءة كتابات رالف والدو إمرسون. يؤمن والدو بأن الصداقات ليست مسألة شخصية، بل بنيوية: «يجب أن أكون كفؤًا لكل صديق (...) لن يفيدني عدد أصدقائي أو ما نتحدث فيه معًا لو أني لست مكافئًا لواحد منهم فقط». يؤمن كذلك بأن كونك لائقًا لأحد أصدقائك يحتِّم أن تكون لائقًا لهم جميعًا. وربما يبدو هذا بديهيًا الآن، لكن المنطق القابع وراءه لم يظهر لنا سوى مؤخرًا خلال الإغلاق، مع اهتزاز بعض العلاقات بسبب توقعاتنا منها أو فهمنا الخاطئ لها. نعم، جلسات النميمة تعزز الروابط بين الأصدقاء، لكن بشرط أن تكون معهم، لا عنهم. يعد تنظير والدو عن الشكل المثالي للصداقات دعوة إلى التباعد الاجتماعي، وهو ما حدث خلال الجائحة، حين تسببت زيادة الخلافات مع أصدقائنا في كشف عدم التكافؤ الذي يحيط بتلك العلاقات.
«البعيد عن العين»
يذكرنا إمرسون بأن القدرة على تبادل الحديث تعد مهارة ضرورية لاستمرار أي صداقة. لكن مع اضطرارنا إلى تقليل اللقاءات إلى الحد الأدنى بسبب الوباء، تقل الموضوعات التي يمكن تبادل الأحاديث حولها مع الوقت. تحكي الكاتبة أنها كانت مرتبطة بشاب اضطرته الجامعة إلى السفر، ولم يكن لديهما من سبل التواصل سوى التليفون. ومع استمرار الوضع وطول فترة البعد، تحولت المكالمات إلى عمل روتيني شيئًا فشيئًا، حتى توقفا عن الحديث تمامًا.
لو وضعنا تناقص الخبرات المشتركة جانبًا، سنجد أن الأزمات المرتبطة بالجائحة وحدها أدت إلى تفاقم حالة الظلم الاجتماعي التي كانت موجودة بالفعل. وبالنظر إلى المسؤوليات والعواقب الاجتماعية، نجد أن الأمور التي يمكن أن نتحدث فيها صارت أقل وأقل. التعليقات المعتادة والمملة التي كنا نتبادلها حول العمل والأطفال وما إلى ذلك، كشفت حدود الامتيازات النسبية التي لدى بعض الأفراد وليست لدى بعضهم الآخر، بدءًا بمن لديهم مساحة للعمل من المنزل، مرورًا بمن يقدرون على العمل من المنزل، وصولًا إلى من لا يزال لديهم عمل أصلًا. صارت الطبقة الاجتماعية والعِرق والجنس عوامل متحكمة في إمكانية بدء صداقة بين فردين أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي تغيرت مجالات المحادثات الودية وفقًا لذلك التغيير.
كاتبة المقال كانت من الذين استمروا في المتابعة، ومن متابعتها تخبرنا أن كثيرًا من المنشورات سواء كانت مكتوبة بلهجة الشكوى أو المواساة أو الفخر أو التواضع، تحمل دلالات ومعاني خفية: «لم أجد شيئًا مكتوبًا على الإنترنت لا تفوح منه رائحة الإسقاط، لم أجد شيئًا مكتوبًا عفو الخاطر. كل تعبير عن المعاناة أو الفرح يمكن ربطه بالآخرين بشكل ما. كل قصة يحكيها أحدهم على الإنترنت تصير وقودًا لنقاش يدور في مكان آخر، وأعترف أن هذا مما أسهم في تعزيز علاقتي بصديقتي الجديدة خلال الوباء في العام الماضي».
يقول رالف والدو إمرسون في نهاية مقاله: «بدا لي مؤخرًا أنه من الممكن استمرار الصداقة بالجهد الذي يبذله أحد طرفيها فقط، دون عناء يذكر من الطرف الآخر». أما «جين هو» فتقول إن فكرة الصداقة تُبنى بشكل أساسي على عقد اجتماعي مفاده الالتزام بأن نقدم للآخرين الحد الأدنى من المجاملات الرسمية التي نرغب فيها لأنفسنا، سواء كان هؤلاء الآخرين غرباء أو أصدقاء. وهكذا تشير إلى أن فترات المد والجزر التي مرت بها علاقات الصداقة خلال العام الماضي تبدو الآن تافهة وسخيفة إلى حد محرج، ولا تقوم على سبب مقنع في الغالب، وليست غلطة أحد الطرفين. وبالتالي، فكما يغفر الأصدقاء الزلات دون لوم بعضهم بعضًا، نحتاج إلى السلوك نفسه لإعادة ترميم الصداقات التي انهارت خلال الجائحة.
أحمد محمد