محاولات الانفصال عن المجتمع: لماذا تنشأ الكوميونات وتندثر؟
في أحد أيام العام 1963، اشترى «بيل ويلر»، بما تحصَّل عليه من إرث والده، أرضًا مساحتها 1.2 كيلومتر مربع في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وبنى عليها بيتًا من الخشب والزجاج الملون ليعيش فيه مع زوجته وابنه. بعد ذلك بفترة قصيرة، أزالت السلطات المحلية البيت لعدم موافقته قواعد البناء في المنطقة.
لكن ويلر لم يترك الأرض، بل عاش في خيمة مع أسرته، وتحولت أنقاض بيته إلى مرسمه الخاص وورشة لصنع الأثاث الطبيعي، ثم سرعان ما بدأت تأتيه زيارات الناس، قبل أن يستقر كثير منهم معه في خيامهم وعرباتهم وبيوت الأشجار التي صنعوها بجوار المنازل الخشبية في الغابة المحيطة بالأرض، التي تحولت إلى «كوميونة ويلر».
وُزعت مهام العيش في الكوميونة على الرجال والنساء بين الزراعة والصيد وتدخين القنب، بينما يقضون أوقات الفراغ في عزف الموسيقى والتجول عراةً في الغابات.
الكوميونة في العصور الأولى
بالتأكيد لم تكن كوميونة ويلر أول تجمع من هذا النوع، فالكميونة كانت بمثابة الشكل الأول للمدينة، تجمع بشري يتشارك فيه الأفراد تنظيم شؤون حياتهم بشكل جماعي. ساعد سقوط الإمبراطورية الرومانية وامتداد الرقعة الزراعية عبر أوروبا في ظهورها، وفي بعض الحالات كانت الكميونة تطلَق على القرى التي يمنح فيها مُلَّاك الأراضي الزراعية شطرًا كبيرًا من الحريات للفلاحين في إدارة الأراضي وتوزيع الإنتاج.
قبل استقرار المدن في أوروبا في القرن الثاني عشر، كانت الكوميونة بمثابة المدينة والدولة في آنٍ واحد، يتعاهد فيها الأفراد على الدفاع عنها والانتماء إليها، وقد انتشرت الكميونات بشكل أكبر في إيطاليا وفرنسا وألمانيا.
الانتعاش الحديث للكوميونة
أنشأ الهولنديون أول كوميونة في أمريكا عام 1663، وتلتها كوميونات أخرى.
تعددت محاولات البشر للبحث عن شكل مثالي للعيش، وكانت الكوميونات من المحاولات الجماعية الأولى لتشكيل المدن وبناء هيكل إداري يعتمد على التشاركية البحتة في توزيع المهام.
ومع تعاقب الحقب الزمنية وتسارع وتيرة الحياة في المدينة بشكل يضغط على القدرات النفسية للناس، بدأت تظهر صيحات تمجد العودة إلى الأنماط القديمة وتدعم خلع رداء العصرية المفرطة، الأمر الذي وصل ذروته في ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة.
انتعش الاهتمام بفكرة الكوميونات في أمريكا خلال القرن العشرين بإيعاز من الكتابات المختلفة وقتها وطوابع «LSD» وعوامل أخرى، كان من بينها رفض نمط الحياة الاستهلاكي الذي فرضته آلة الدعاية الأمريكية آنذاك، فضلًا عن حركة رفض الحرب الفيتنامية التي أُرغم عدد لا بأس به من الشباب الأمريكي على المشاركة فيها، وتبع كل ذلك اهتمام شديد بالديانات الشرقية في قارة آسيا.
لكن حتى الكوميونات في الولايات المتحدة كان لها تاريخ يعود إلى ما قبل الستينيات ويضرب في عمق الشخصية الأمريكية، إذ شكلت أمريكا في بداياتها عالمًا جديدًا للباحثين عن اليوتوبيا التي شاع الحديث عنها في الكتب، وإن كان التطبيق قد أخذ منحًى آخر مع تحول هذه المستوطنات نحو ممارسات عنصرية ضد السكان الأصليين للبلاد.
الأصل أن الولايات المتحدة تكونت على شكل مستوطنات منفصلة عن الجزيرة الأم في بريطانيا وأوروبا، وأنشأ الهولنديون أول كوميونة هناك عام 1663، وتلتها كوميونات أخرى.
كوميونات أمريكا وأوروبا: المشاعة في وجه الحداثة
في الستينيات، ظهرت صيحة رفض أنماط العيش الحداثية في أمريكا وأوروبا، والحصول على نمط حياة أكثر تحررًا من التقاليد الاجتماعية السائدة وقتها، وانطلاقًا من هذا التوجه، تمكن عديد من الشباب من استئجار مزارع وأراضٍ وبناء مجتمعات صغيرة تعتمد على المشاركة في كل شيء وتوزيع المهام بما يتناسب مع مهارات كل شخص، على غرار المستوطنات الأمريكية الأولى.
اتسمت الكوميونات بتنظيم شؤونها الاقتصادية على أُسُس اشتراكية تشبه المشاعة البدائية، التي تعتمد على تشارك الجميع في الإنتاج والربح.
بنى هؤلاء منازل خشبية ووفروا وسائل التدفئة والمحاصيل الزراعية، وشارك في بناء هذه المجتمعات البديلة عدد من الفنانين والمهندسين وخريجي الجامعات، تاركين حياة حافلة ومزدحمة في مدنهم من أجل نمط حياة أكثر بدائية، وتعددت الكوميونات في الولايات المتحدة بين جماعات دينية وسياسية راديكالية وروحانية وجنسانية.
كانت تلك المجتمعات تواجه تعنتًا من جانب البلديات والسلطات، التي كانت ترفض البناء المخالف حتى لو كانت الأراضي تعود ملكيتها إلى أفراد قرروا فتح المكان لإنشاء مجتمعات جديدة، بل وواجه هؤلاء المستوطنون الجدد رفضًا من جانب السكان المحليين، الذين اعتبروهم دخلاء غريبي الأطوار.
اتسمت هذه الكوميونات بتنظيم شؤونها الاقتصادية على أُسُس اشتراكية، أو ما يقرب من المشاعة البدائية، التي تعتمد على تشارك الجميع في الإنتاج والربح. على سبيل المثال، عاش سكان كوميونة «Twin Oaks» على الزراعة وصناعة الأراجيح القماشية وبيعها خارج الكوميونة، التي أقاموها على أرض واسعة بولاية فيرجينيا عام 1967، وحتى اليوم لا يمتلك أحد أي شيء هناك، ويتشارك الجميع في ملكية السيارات والدراجات ووسائل المعيشة الأخرى.
وفي أوروبا عام 1971، استقر عدد من الدنماركيين في منطقة عسكرية مهجورة في كوبنهاجن، أنشؤوا عليها مجتمعًا مستقلًّا يدعى «كريستانيا»، استمر قرابة 40 عامًا، وأعلنوه قرية مستقلة.
سكان «كريستانيا» لا يدفعون الضرائب، ويبيعون الماريجوانا علانيةً حتى يومنا هذا، لكن العائد المادي يخصص للصالح العام للمجتمع، إذ تحظر القوانين التي تنظم العيش في الكوميونة الملكية الشخصية لأي شيء. وفي 2012، عرضت عليهم الحكومة الدنماركية شراء الأرض التي يعيشون عليها كنوع من تقنيين الأوضاع، وقبل السكان الصفقة.
استمر عديد من هذه الكوميونات حتى يومنا هذا، بينما اندثرت أخرى في غضون سنوات قليلة بعد إنشائها، من بينها كوميونة «كريستا» في الولايات المتحدة، التي مارس فيها أعضاؤها حرية جنسية، وعملوا حتى بداية التسعينيات في تجارة أجهزة الكمبيوتر، التي راجت بشكل كبير خلال تلك الفترة، لتوفير وسائل المعيشة اللازمة لاستمرار الكوميونة.
كوميونات الشرق الأوسط
ربما لم تتشكل الكوميونات في المنطقة العربية بنفس وتيرة ما حدث في بقية العالم، وإن لم تعدمها كليةً، بل وُجدت بشكل يتوافق مع الظروف المجتمعية والسياسية التي مر بها المجتمع العربي حينها، والذي كان حراكه الشبابي ذا اتجاه ديني يميني، بينما كانت أغلب الحركات الشبابية في العالم أقرب إلى اليسار، فتحقق ظاهرة الكوميونات لكن بشكل مختلف تمامًا.
رغم حساسية المثال، فإنه يتوافق مع طرح الموضوع في شأن المجتمعات البديلة حتى لو اختلف معه كثيرون، فقد كانت أبرز محاولات خلق كوميونة في مصر في السبعينيات عن طريق شكري مصطفى، مؤسس جماعة «المسلمين» التي عُرفت لاحقًا بجماعة «التكفير والهجرة». دعا مصطفى أتباعه، من أجل خلق مجتمع شبيه بذلك الذي خلقه النبي محمد في السنوات الأولى للإسلام، إلى بيع ممتلكاتهم وشراء ما يحتاجونه ثم الالتجاء إلى الصحراء، في ما أسماه بـ«الهجرة» لحين قيام «الحرب الكبرى ضد الكفار».
بنى شكري مصطفى مع أتباعه مجتمعات دينية صغيرة في أطراف المدن المصرية، مثل المنيا وبنها وعزبة النخل، يتولى فيها الأفراد شؤون حياتهم، ويتعايش الرجال والنساء والأطفال بمبادئ موحدة مستقاة من فهم شكري الخاص للشريعة الإسلامية، ويقضي هو، كونه أمير الجماعة، في النزاعات وغيرها من الأمور التي يختلف فيها أفراد الجماعة، دون الالتجاء إلى مؤسسات الدولة باعتبارها «كافرة».
كوباني: الكوميونة الحديثة من قلب الحرب
ليس بعيدًا عنا، وإن كان بعيدًا تمامًا عن كوميونة شكري مصطفى وأتباعه، وفي مدينتي كوباني وعفرين شمالي سوريا، اللتين تقعان تحت سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، أُعلن الحكم الذاتي في 2012، وبدأ شكل من الديموقراطية الكونفدرالية، تتولى فيه وحدات مستقلة تدعى «كومون» إدارة كل حي في مدينة القامشلي على سبيل المثال، ويمثل كل حي شخصٌ في مجلس المدينة، يتولى تقديم الشكاوى والمقترحات عن الحي المنوط به متابعته، ثم يبحث مجلس أكبر هذه التقارير ويبت فيها.
تشكلت عديد من المجتمعات الزراعية في وقت قليل خلال الأعوام التالية في كردستان السورية، وارتفع عدد المشاركين في هذه المجتمعات، وزاد الإنتاج ليشمل مجالات الإنتاج الزراعي كلها، من خضراوات وفاكهة ومنتجات المواشي، بحيث يحصل المزارعون على 8% من الربح، ويخصَّص الباقي لتطوير المشروعات الزراعية الجديدة.
الكوميونات في المجتمعات الاشتراكية المعاصرة
تتفق الكوميونات في أنها مجتمعات مستقلة بأقل تدخل من الدولة، أو في غيابها التام، وإن كان النمط المشترك في كوميونات الغرب هو التحرر من الرأسمالية والتقاليد المجتمعية، وممارسة حريات شخصية من الصعب ممارستها في المدن الكبرى، فالوضع في كوميونات الدول الشرقية اعتمد على توزيع الثروة بما بتناسب مع سياسات الأنظمة الحاكمة فيها، وهو ما دفع إلى غياب عديد من الحريات في هذه الكوميونات، والاكتفاء بالشكل العام للمجتمع التشاركي.
أُنشئت بعض الكوميونات في محاولة من الدول الاشتراكية لتحقيق أقصى إنتاجية من الفلاحين.
خلال الأعوام القليلة الماضية، خلق أكثر من نصف مليار مزارع كوميونات الشعب بتوجيه من الحزب الشيوعي الحاكم في بكين، بهدف نقل المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية. وتتولى كل كوميونة في الصين الآن شؤون آلاف الأسر، وتنظم عملية الإنتاج والإدارة المباشرة، ويعمل الرجال والنساء في الزراعة، وقد ينتقلون منها إلى التنجيم عن الفحم.
وفي فنزويلا، أطلقت الدولة عام 2010 مشروعًا يقضي ببناء ما يقرب من 200 كوميونة مستقلة عن الحكومة، تتمتع بميزانيتها الخاصة وبحرية الحصول على مصادر التمويل المناسبة لإدارة المزارع وتسويق إنتاجها، وتعمل في مجالات يتعلق أغلبها بالزراعة.
لا تبدو أسباب نشوء الكوميونات متشابهة دائمًا، فبعضها أُنشئ في محاولات أولية لتنظيم المجتمع، وبعضها كان محاولة لتحقيق يوتوبيا زراعية هادئة في مواجهة الحداثة السريعة كنوع من أنواع التمرد، وأخيرًا، أنشأت الدول الاشتراكية كثيرًا من الكوميونات في محاولة لتحقيق أقصى إنتاج من الفلاحين.
لكن حتى الكوميونات التي أقيمت من أجل التشاركية وممارسة الحريات الشخصية بالتشارك مع أقرباء في الفكر، مثل كوميونة وييلر، أصابها العطب والتبدل، والآن يلتزم ساكنوها بقواعدها العامة كالتشارك في ملكية وسائل المعيشة، لكن كل عائلة صارت تعيش بمعزل عن الأخرى، فتحولت الكوميونة إلى ما يشبه المجتمع المغلق، وحتى رحلات الصيد في الغابات والتنزه أصبح السكان يمارسونها فرادى، كأن الفكرة الأصلية لنشأة المكان لم تصمد أمام تغيرات العالم.
كريم كيلاني