«تشينوا آتشيبي»: من يسرد القصة، يملك السيطرة
بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية التي جثت على صدر إفريقيا لعقود في شكل حكم أجنبي وفرض السيادة السياسية، قدم «ألبرت تشينوا آتشيبي» صوتًا للمواطنين الأفارقة الذين لطالما جرى تصويرهم في الأعمال الأدبية طبقًا لتصورات الكُتاب الأوروبيين، بصفات محددة سلفًا، وطرق تعزز أنماطًا تنحو إلى العنصرية في كثير من الأحيان. كان آتشيبي صوتًا مختلفًا، واحدًا من أبرز كُتاب القارة الإفريقية، وأحد أهم الروائيين الذين عبروا عن أنفسهم وبيئاتهم.
ولد آلبرت تشينوا آتشيبي في نوفمبر 1930، في منطقة أوجيدي شمالي نيجيريا، منحدرًا من قبيلة «إينو» الإثنية، منتميًا لوالدين مسيحيين. وكان ضمن أول مجموعة من الطلاب تلتحق بجامعة كلية إبادان في نيجيريا.
تخرَّج في قسم دراسات اللغة الإنجليزية والتاريخ والدين، ودرَّس لفترة في الجامعة، ثم بدأ العمل في الإذاعة في مدينة لاغوس منذ 1954. كتب القصص القصيرة في تلك الفترة من حياته، متأثرًا بالحالة الأدبية التي كان مطلعًا عليها بحكم عمله. لكن التغيير الأكبر في حياته كان سفره إلى إنجلترا.
آتشيبي: الخطوة الأولى
سافر آتشيبي للمرة الأولى في حياته عام 1956، في زيارة إلى إنجلترا لحضور دورة تدريبية في مجال إنتاج الراديو في مدرسة «BBC» للتدريب، وكانت هذه الرحلة نقطة تحول لا تُنسى في حياته.
أخذ معه في رحلته مسوَّدة أولية مكتوبة يدويًّا من روايته الأولى، وعرضها على المذيع والروائي والناقد البريطاني «غيلبرت فيليبس»، الذي كان مدربًا في الدورة.
يستدعي فيليبس هذه اللحظة الفاصلة كثيرًا، ويقول إنه كان يعمل مع طاقم التدريب حين كان آتشيبي هناك، وإنه ذُهل بمستوى الكتابة حين قرأ المسودة الأولى للرواية، ونصحه على الفور بتقسيمها إلى عدة روايات، ثم قدمه إلى دار نشر بريطانية.
المحررون التنفيذيون في دار نشر «هانيمان» كانوا قلقين في البداية، لأنهم لم ينشروا لكاتب إفريقي من قبل. لكن «دونالد مكراي»، أستاذ علم الاجتماع في كلية لندن ومستشار الدار التعليمي، قرأ رواية آتشيبي بعد أن عاد لتوه من غرب إفريقيا، وقال إنها أفضل ما قرأه بعد الحرب.
بعدها أطلق «آلان هيل»، أحد مديري دار «هانيمان»، سلسلة «الكُتاب الأفارقة» عام 1962، ومن وقتها تنشر أعمالًا أدبية لكُتاب في الأدب الإفريقي الحديث، وتتيح نسخًا بأسعار معقولة لطلبة المدارس والجامعات.
استلهم تشينوا آتشيبي عنوان الرواية من قصيدة «العودة الثانية» للشاعر «ويليام بتلر بيتس»، التي يقول فيها:
الصقر يحوقل، يحوقل في الدائرة الواسعة
ولا يصغي لسيده
الأشياء تتداعى، المركز لا يصمد
لا شيء عدا الفوضى تروم العالم
وهيبة البراءة غريقة في كل مكان
وهو استلهام يُظهر من ناحية سعة اطلاعه، ومن ناحية أخرى معارضته لشاعر أوروبي أبيض مشهور، وهو موقف من الممكن أن يحمل معنى في ذاته.
اقرأ أيضًا: بعد إعلان موت المؤلف والأدب والناقد: البقاء للقارئ
وماذا عن الرواية؟
«أوكنكو» بطل الرواية، مصارع ذائع الصيت في القرى التسعة، ورجل مجتهد في عمله، يرفض التكيف مع وضعه الشخصي. تسلط الرواية الضوء في حياته على الآثار المدمرة للاستعمار الأوروبي في قارة إفريقيا.
تربى أوكنكو في كنف والد كسول ومبذر ومثقل بالديون، غير عابئ بأولاده ولا بمستقبله، وملاذه الوحيد عند توفر المال هو النبيذ والموسيقى. لكن أوكنكو على عكسه، كبر وصار مزارعًا غنيًّا كريمًا.
تتابع الرواية خلال سيرة حياته، العادات المعقدة لشعب قبيلة «الإيبو»، ذات اللغة والثقافة المميزة. وانزعاج القبيلة من التبشير المسيحي الذي جاء مع الاستعمار ووجهة نظر المستعمر المتعالية في القبائل الإفريقية، والتي ظهرت بوضوح في نص جاء في خاتمة الرواية على لسان أحد الاستعماريين، إذ دعا القبائل الإفريقية بـ«القبائل البدائية في النيغر السفلي».
تحكي الرواية كذلك بأسلوب آتشيبي المنساب، عادات القبيلة الدينية الغريبة، ونظامهم القانوني في العقاب والترقية، وطقوس الزواج والانفصال، لا بطريقة المستعمر الذي يتعامل مع هذه الأمور باعتبارها أقل درجة منه، ويضع نفسه في درجة أعلى، لكن بطريقة ابن البلد الذي يتحدث عن قومه وعاداتهم وحياتهم.
كانت الرواية جزءًا من ثلاثية أدبية لآتشيبي، إذ تلاها الجزء الثاني بعنوان «لم يعد هناك إحساس بالراحة»، والجزء الثالث بعنوان «سهم الله»، والتي لا تزال جزءًا من المناهج الدراسية.
الكتابة باللغة الإنجليزية
لطالما كان قرار آتشيبي الكتابة باللغة الإنجليزية محل جدل طويل منذ بداية تاريخ كتابته، بل ومحل انتقاد في بعض الأحيان.
الكاتب الكيني «نيغوغي وا ثيونغ» رأى كتابة آتشيبي باللغة الإنجليزية انسحاقًا أمام المستعمر ولغته. لكن آتشيبي لم يبد اهتمامًا كبيرًا بهذه الانتقادات، واستمرت رواياته في الصدور بهذه اللغة.
في عام 1956، كتب آتشيبي في أحد مقالاته، أنه يشعر بأن اللغة الإنجليزية هي التي تستطيع حمل ثقل تجربته الإفريقية، لكنه أشار إلى أنه يرغب في تحويل هذه اللغة إلى إنجليزية أخرى. إنجليزية جديدة، لا تقطع صلتها بجذورها اللغوية، لكنها تتحور لتناسب المحيط الإفريقي الذي يكتب عنه.
«إنه وضعٌ وجدت نفسي عالقًا فيه». بينما كانت أفضل أشعاره، في وجهة نظره، مكتوبة في البداية بلغته الأصلية: «الإيغبو»، قبل أن يترجمها بنفسه إلى الإنجليزية.
«الأشياء تتداعى» أول إبداعات تشينوا لمناهضة الاستعمار، واستخدامه الأدب سلاحًا ضد التحيز الغربي.
يبدو اختيار آشييي اللغة الإنجليزية متوافقًا مع الهدف الأساسي الذي كتب الرواية من أجله. علاقة المستعمَر ببلده الأصلي كانت واضحة في ذهنه منذ اللحظات الأولى، وفي الوقت الذي كتب ليغير الصورة النمطية عن تاريخ قومه وحكاياتهم، اقتضى المنطق أن يكتب بأكثر اللغات انتشارًا في العالم.
قد يهمك أيضًا: ما الذي يجعل جملة ما تحفة فنية؟
الأدب وسيلة للتغيير
لم تكن رواية آتشيبي الرواية الإفريقية الأولى، لكنها كانت الأكثر تأثيرًا وانتشارًا، كانت هذه الرواية فريدة من نوعها، إذ صدرت في وقت مهم في التاريخ الإفريقي، بعد عام واحد من استقلال دولة غانا وانسحاب بريطانيا وفرنسا وبلجيكا من عدد من البلدان الإفريقية في نفس الفترة، وبيع منها أكثر من 10 ملايين نسخة، وتُرجِمت إلى أكثر من 50 لغة، بما في ذلك التشيكية والفرنسية والألمانية والعبرية والهنغارية والإيطالية والروسية والسلوفينية والإسبانية.
كان تشينوا يشعر بحاجة ماسَّة لكسر التصورات النمطية عن إفريقيا والأفارقة، بشكل أكثر عمقًا من أعمال سابقة تناولت القارة الإفريقية. إذ كان رأيه أنها سطحية إلى حد كبير، ولا تروي القصة من وجهة نظر السكان الحقيقيين للقارة.
أراد تشينوا أن يرصد المشهد من الداخل، فاستمدت روايته قوتها. إنها تتوغل في ثقافة الإيبو النيجيريين وتتواصل معها، وتؤرخ المأساة الاستعمارية التاريخية في لغة سهلة الفهم، لكنها تخلو من السطحية في آن. «الأشياء تتداعى» أول إبداعات تشينوا لمناهضة الاستعمار، واستخدامه الأدب سلاحًا ضد التحيز الغربي. قال في وقت لاحق إن أصحاب السلطة الذين يحتفظون بها لأنفسهم، يملكون امتياز ترتيب القصص عن الآخرين كما يروق لهم. لذلك سعى في كتاباته إلى استعادة القارة الإفريقية منهم ومن أدبهم لأنهم صوروها على أنها أرض بربرية خالية من أي فن أو ثقافة.
في مقابلة له مع وكالة «أسوشيتيد برس»، عام 2008، كما يورد مقال لـ«The New York Times»، يقول آتشيبي: «كان في القرية أو حتى في الكنيسة متحدثون مفوهون، كان هناك أناس يسردون حكاياتهم، ويتفاعلون مع واقعهم بطرق مختلفة».
يضيف آتشيبي أنه لم ير انعكاس هذه الثقافة في الكتب الغربية عن إفريقيا. لذلك فَهِم أن التحدي هو أن يصحح هذه الصورة. أن يحكي قصص الناس الذين نشأ بينهم، كما هي وعلى ألسنتهم.
لم يقتصر نقد آتشيبي على الاستعمار فقط، لكنه تطور من إلقاء اللوم على الاستعمار في المشكلات التي تواجهها قارة إفريقيا، إلى نقد الحكام الأفارقة الظالمين والشعوب التي تحملت فسادهم وعنفهم، إلى أن قادته الدكتاتورية العسكرية في نيجيريا في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته إلى الخروج من البلاد.
من الناحية الأدبية، لا يمكن إنكار تأثير رواية «الأشياء تتداعى» في الكتاب الأفارقة وحتى الغربيين. كتب الفيلسوف «كوامي أنتوني أبيا» ذات مرة، أن السؤال عن أثرها يشبه السؤال عن كيف أثر شكسبير في الكُتاب الأجانب. ويرى أنها تجسيد لإحساس التهديد والخسارة الذي كان يواجهه الأفارقة حين عطَّل الغزو حياتهم.
الإبداع يسجن صاحبه
حطمت الحرب الأهلية النيجيرية، المعروفة باسم «حرب البيافرا»، آمال تشينوا في دولة متقدمة بعد الاستعمار، وأثرت في إنتاجه الأدبي. توالت الانقلابات، ثم انفصلت قبيلة «إيبو» عن نيجيريا، وأُعلنت جمهورية بيافرا المستقلة، واشتعلت حرب أهلية حقيقية أخمدتها القوات الحكومية عام 1970، وأنهت الحركة الانفصالية تمامًا.
في هذه الأثناء، كان تشينوا طبع روايته الرابعة «رجل الشعب»، التي توقَّع فيها بعض أحداث الانقلابات، ما جعل حكومة بلاده تقرر إنه لا بد من أن يكون واحدًا من المتآمرين، ذلك الاتهام الذي نفاه تشينوا، لكنه اضطر للهرب مع زوجته وأسرته إلى بريطانيا.
كانت الحرب الأهلية موضوع كتبه الشعرية والقصصية، لكنه لأكثر من 20 عامًا عجز عن كتابة رواية جديدة، ثم في عام 1988، نشر روايته الخامسة باسم «حشائش السافانا»، وهي قصة لثلاثة زملاء مدرسة في دولة خيالية، يكبر واحد منهم ليصير ديكتاتور عسكريًّا، والثاني وزيرًا للإعلام، والثالث صحفيًّا في جريدة كبيرة، وتنتهي القصص الثلاثة بنهايات مأساوية.
تعرض تشينوا لحادثة طريق عام 1990، صار على إثرها مُقعدًا، وانتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حصل على وظيفة تدريس، ونال جائزة «بوكر» عن مجمل أعماله عام 2007.
بعد عودة الحكم المدني إلى نيجيريا عام 1999، عاد تشينوا لزيارة وطنه بعد غياب نحو 10 سنوات، وقابل رئيس الدولة المنتخب «أولوسيجون أوباسانجو»، وزار قريته الأصلية.
عاد تشينوا بعدها إلى الولايات المتحدة. لكن كان يقول دومًا إنه ترك قلبه في وطنه، وظل اسمه باقيًا تمامًا كبطل روايته الشهيرة «أوكونكو»، روائيًّا وكاتبًا فخورًا ببلده الأم. وحين سئل: لِمَ لا يكتب عن أمريكا بما أنه عاش فيها لسنوات؟ أجاب بأن أمريكا لديها ما يكفي من الكُتاب ليحكوا عنها، أما نيجيريا، فحظها أقل.
سلسبيل صلاح