واتغيرت شوية شوية: كيف تتبدل شخصياتنا بمرور العمر؟
هل مزقت يومًا صورًا قديمة لك لأن مظهرك فيها لم يعد يعجبك؟ هل كنت تحب أكلة بعينها ثم ما عدت تطيق حتى رائحتها؟ هل تبدَّل حبك للون الأبيض والألوان إلى عشق لكل ما هو أسود؟ هل صرت تفضِّل الاستيقاظ مبكرًا بينما بالأمس كنت تطيل السهر؟ ربما زال عنك العجب لو عرفت أن هناك دراسة حديثة تشير إلى أن الإنسان قد تتبدل شخصيته تمامًا بمرور السنين.
تناولت دراسة طويلة نُشِرت في دورية «Psychology and Aging» موضوع «الشخصية»، وتخبرنا هذه الدراسة أن سمات شخصية الإنسان تتغير خلال حياتنا بالضبط كما تتغير ملامحنا الجُسمانية، حتى نتحول إلى أشخاص مختلفين تمامًا، حسب مقال نُشره موقع «Quartz».
أطول دراسة نفسية
تشير كاتبة المقال إلى أن هذه الدراسة اعتمدت على بيانات جُمعت من مسح شمل أكثر من ألف طالب عمرهم 14 عامًا في أسكتلندا عام 1950، وفيها قيَّم المدرسون طلابهم على أساس ستِّ خصال للشخصية، هي الثقة في النفس والمثابرة والثبات الانفعالي ويقظة الضمير والابتكار والرغبة في التعلم.
تقول الكاتبة إن الباحثين نجحوا بعد 63 عامًا في إجراء الاختبار على 174 فردًا من نفس العينة مرة ثانية، وهذه المرة كانوا قد بلغوا السابعة والسبعين من العمر، وقيَّموا أنفسهم استنادًا إلى نفس الخصال الست، كما رشحوا شخصًا مقربًا لتقييمهم بنفس الطريقة.
بعد انتهاء الاختبار، لم يجد الباحثون كثيرًا من التطابق بين النتائج الجديدة وتلك التي رُصدت في التقييم الأول، فلم يثبُت استقرار أيٌّ من الخصال الست.
كانت دراسات سابقة للشخصية قد أظهرت تجانسًا بين النتائج الأولى والأخيرة، غير أن تلك الدراسات تناولت فترات زمنية أقصر، فكانت تقيِّم سمات الشخصية في الطفولة وتعيد اختبارها في مرحلة وسط العمر على سبيل المثال.
تناولت الدراسة الأخيرة مرحلتين يفصلهما أكثر من 60 عامًا وأظهرت تباينًا في النتائج، فاستنتج الباحثون أنه كلما اتسع الفارق بين كل اختبارين للشخصية ضعُفت العلاقة بين نتائجهما. بل إن الاختبار يُظهر أنه عندما يتسع الفارق إلى 63 عامًا، تكاد لا تكون هناك علاقة على الإطلاق بين النتيجتين، وكأننا أمام شخصين مختلفين.
كيف يغيِّر الوقت شخصياتنا؟
الشخصية هي الفروق الفردية التي تميز صاحبها في التفكير والشعور والسلوك، حسبما تعرِّفها الجمعية النفسية الأمريكية.
يشير علم النفس عموما إلى تغيُّر سمات الشخصية مع مرور الوقت نتيجةً للتعرض لصدمات نفسية شديدة، أو بسبب تراكم الخبرات الحياتية العادية وأداء أدوار اجتماعية يفرضها واقع جديد، كالأمومة مثلًا، أو تولِّي عمل جديد، وهو ما قد يدفع إلى المزيد من الاجتهاد ويقظة الضمير، كما أن الارتباط العاطفي والزواج ربما يغذيان فكرة الاهتمام بالآخرين ورعاية شؤونهم.
اقرأ أيضًا: 5 أسئلة ستجعلك تدور حول ذاتك.. لحظة، ما هي ذاتك؟
عدة عوامل تغير الأشخاص، مثل الزواج ومستوى الدخل.
تقول دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا، شملت أكثر من 130 ألف شخص تتراوح أعمارهم بين 21 و60 سنة، أن «الطِّيبة»، وهو مصطلح يعبِّر عن الدفء والكرم والرغبة في مساعدة الآخرين، تزداد مع تقدم السن وتكون في أعلى مستوياتها في الثلاثينيات من العمر، ربما لأن هذه الفترة مرتبطة بتكوين أسرة.
أما الأشخاص الأكبر سنًّا فيكونون أقل رغبة في «الانفتاح» وخوض تجارب جديدة، ربما لأنهم يفضِّلون التمسُّك بدوائر معارفهم الصغيرة على تكوين صداقات جديدة. كما تزداد «يقظة الضمير» مع التقدم في العُمر، غير أنها تكون أكثر وضوحًا لدى الشباب في العشرين، ربما لأن هذا هو السن الذي يتطلب الاجتهاد في العمل والتطلُّع إلى المستقبل.
كل هذه في مجملها نتائج تشير إلى عدم ثبات سمات الشخصية على وتيرة واحدة مدى الحياة، وتغيرها مع نضوج الأشخاص وتعاظم مسؤولياتهم وتنوُّع تجاربهم وأدوارهم.
هذا ما تؤكده دراسة أجريت في أستراليا، راقبت تغيُّر سمات الشخصية مع تغيُّر عوامل أخرى كالزواج ومستوى الدخل وطبيعة العمل، وأفادت نتائجها أن الأشخاص يتغيرون بالفعل مع تغيُّر تلك العوامل.
لماذا قد يصبح الأصدقاء فُرَقاء؟
يصبح الإنسان في السبعين من العمر يكاد لا يشبه ذلك الطفل الذي يراه في صورته.
بقدر ما تُعتبر فكرة تبدُّل الشخصية مع التقدم في العمر مدهشة، فهي قد تساعدنا في تفسير بعض الأمور التي نتعجَّب لها، مثل عندما يقرر زوجان امتد العمر بهما معًا لسنوات طويلة أن ينفصلا فجأة رغم أن قصة حبهما كانت مضربًا للأمثال، أو عندما يقرر طبيب ناجح أن يترك مجال عمله الذي أفنى سنوات عمره فيه ليشتغل طاهيًا في مطعم صغير، أو يفترق صديقان كان الظن أن ما بينهما أقوى من الأيام، يصبح تفسير كل هذه الحالات بسيطًا ومُريحًا: لقد صاروا أشخاصًا آخرين.
قد تعطي هذه النتائج البحثية الجديدة الأمل للكثيرين بأن تغيير الشخصية ممكن، وأنه في الإمكان التغلب على عيوبها إذا كانت تقف عائقًا أمام الوصول إلى أهدافنا، أو حتى أمام الممارسات اليومية العادية.
بإمكانك أن تدرِّب ضميرك على اليقظة، كما بإمكانك أن تتعلم كيف تكبح جماح انفعالاتك وتغذي رغبتك في التعلم، وربما فتحت نتائج هذه الدراسة المجال أمام التشكُّك في مقولة «وليام جيمس»، أحد رواد علم النفس الحديث، الذي رأى أن الشخصية لا تتغير بعد سن الثلاثين، بل تصبح صلبة «كالجبس».
قد يهمك أيضًا: هل تصنع الجينات شخصياتنا أم نشكلها بأنفسنا؟
إن شخصية الإنسان تكاد تكون في عملية تشكُّل مستمرة، فالأشخاص كالصلصال، تترك كل تجربة أثرها عليهم وربما تعيد تشكيلهم مجددًا، بحيث يصبح الإنسان في السبعين من العمر يكاد لا يشبه ذلك الطفل الذي يراه في الصورة.
ما تمُرُّ به من تجارب ولحظات نجاح وإخفاق، وما تتحمَّله من مسؤوليات وما تلعبه من أدوار، كل ذلك يصنع منك إنسانًا مختلفًا، فقد تولد شخصًا وتموت وأنت شخص آخر.
دينا ظافر