تغيير أسلوب التفكير قد يعالج الاكتئاب
كلنا نجترُّ أفكارنا ومشاعرنا، ونقع أحيانًا في دوامة لا تنتهي داخل أنفسنا، لكن اجترار الأفكار يصبح عَرَضًا مَرَضيًّا عند المصابين بالاكتئاب، فتلك الحلقة المفرغة من «الشعور بالضيق» تصيب صاحبها بالشلل.
لكن منهجًا علاجيًّا جديدًا يسمى العلاج عن طريق الإدراك فوق المعرفي، أو التحكم في عمليات التفكير (metacognitive therapy)، يستهدف تلك العملية ببراعة عن طريق استغلال «التأمل». وأظهرت نتائج هذا المنهج نجاحًا كبيرًا في تخفيض معدلات الاكتئاب، وينجح الأسلوب نفسه مع من يعاني تسلسل أفكار سلبية لا يستطيع السيطرة عليها.
ويستكشف مقال منشور على موقع «Thrive Global» استخدام هذا النمط العلاجي ونتائجه.
الاكتئاب مرض مرشح للتفاقم
الاكتئاب حالة من الحزن المستمر وفقدان الاهتمام بالأنشطة التي نستمتع بها عادةً، يصحبه عجز عن ممارسة الحياة اليومية بشكل طبيعي لمدة لا تقل عن أسبوعين.
قادت منظمة الصحة العالمية في عام 2017 حملة للتوعية بمرض الاكتئاب، ووضحت أن غياب الدعم النفسي أدى إلى انتشار المرض، وحذرت من مخاطر الاكتئاب الذي يفتح الباب أمام مشكلات أخرى، مثل الإدمان والانتحار وأمراض القلب.
يعاني أكثر من 4% من سكان العالم من الاكتئاب، وتتصدر الدول العربية قوائم المصابين بالاكتئاب في العالم.
يُعتقَد أن الاكتئاب سيكون ثاني أكبر سبب للوفاة في العالم بحلول عام 2030، بعد الإيدز. ورغم أن التوقعات تشير إلى أن السوق العالمية للأدوية المضادة للاكتئاب سيصل حجمها إلى 16 مليار دولار بحلول 2020، فليس واضحًا إلى أي مدى ستكون تلك العقاقير فعالة علاجيًّا.
أسلوبان مختلفان في علاج الاكتئاب
جوهر العلاج عن طريق الإدراك فوق المعرفي هو أن لا تفعل شيئًا إزاء أفكارك، فبدلًا من أن تقرر ما إن كانت أفكارك صائبة أم خاطئة، ليس عليك إلا أن تلاحظها وهي تأتي إليك، وتتركها تنساب.
هذه الطريقة في العلاج تساعدك على أن تدرك أنك فقط «تفكر في الفكرة».
في الوقت الحالي، العلاج المتّبَع في حالات اجترار الأفكار اللانهائي هو العلاج المعرفي السلوكي، الذي يركز على تدريب المرضى على التحقيق في صحة أفكارهم ومشاعرهم، وفق كاتب المقال. فمثلًا، يُطلب من المريض أن يسأل نفسه: «هل يكرهني رئيسي في العمل فعلًا لأنه لم يُلقِ عليّ السلام في الصباح؟». لكن تظل الأدبيات العلمية التي تتناول فعالية العلاج المعرفي السلوكي متناقضة، إذ يشير أحد التحليلات الشاملة إلى أن الحكم على نجاح هذا الأسلوب قد تحكمه انحيازات في نشر نتائج الأبحاث.
يساعد العلاج بهذه الطريقة على «السيطرة على عملية التفكير ذاتها».
يتميز منهج العلاج عن طريق الإدراك فوق المعرفي بكونه مسالمًا للغاية مقارنةً بالعلاج المعرفي السلوكي، فبدلًا من سعيه إلى حجب أفكار معينة أو تحليلها، يسمح لتلك الأفكار بـ«البروز إلى السطح والانسياب، أو الفرقعة والانتهاء دون تدخل».
تكمن الفكرة في مساعدة المرضى على التعرف إلى أفكارهم، وإعادة ترتيب أنماط تفكيرهم أو إصلاحها، حتى يصلوا إلى محطة من «الوعي المتجرد/المنسلخ»، ومن هنا تأتي تسميتها بالعلاج عن طريق الإدراك فوق المعرفي، أو التحكم في عمليات التفكير.
هذا الأسلوب، على غرابته، ينجح فعلًا.
منهج علاجي مبشِّر
هناك أدلة على نجاح هذا المنهج العلاجي، إذ أجرى فريق من الباحثين الأوروبيين تجربة على مجموعة من 39 مريضًا بالاكتئاب، قسموهم إلى قسمين: تلقّت المجموعة الأولى العلاج بالإدراك فوق المعرفي في 10 جلسات، فيما لم تتلقّ المجموعة الثانية علاجًا.
أظهرت النتائج تحسن أعراض الاكتئاب لدى 80% من المرضى الذين عولجوا بالمنهج فوق المعرفي، وانخفضت تلك النسبة إلى 69% بعد ستة أشهر. أما المجموعة التي لم تتلقّ علاجًا، فتحسنت أعراض الاكتئاب لدى أفرادها من تلقاء أنفسهم في 5% فقط من الحالات.
من أمثلة العلاج أن يتخيل المريض أفكاره كما لو كانت قطارًا أو مجموعة من السحب، والهدف توضيح أنه ليس عليه أن يُرغم القطار أو السحب على المرور، فكلاهما يتحرك دون تدخل.
ليس من السهل القول بأنه يمكن الشفاء من الاكتئاب بشكل نهائي، فالأمراض النفسية من أصعب الأمراض التي تصيب الإنسان، وتستغرق وقتًا أكثر من غيرها في تحقيق الشفاء، وفق كاتب المقال.
لكن «روجر هاغن»، عالم النفس النرويجي، يؤكد أن المرضى الذين يعالَجون بأسلوب الإدراك فوق المعرفي كثيرًا ما يذكرون أنهم يرون أفكارهم باعتبارها «أفكارًا فقط»، فلم تعد تلتصق برؤسهم أو تُشعرهم بالقلق. ويساعد العلاج بهذه الطريقة، وفق هاغن، على «السيطرة على عملية التفكير ذاتها»، والتي يرى معظم المصابين بالاكتئاب أنها خارجة عن السيطرة.
هذه نتائج مبشرة، لأن علاجات الاكتئاب الفعالة ما زالت قيد البحث والتجريب.
علاج اكتئاب يشبه البوذية
يرى هاغن أن العلاج عن طريق الإدراك فوق المعرفي يتشابه مع ممارسة الوعي التام في البوذية (mindfulness meditation)، الذي يسعى إلى تركيز الوعي على ما يحدث لحظةً بلحظة، ويُعلِّم الناس أن ينشغلوا بالحاضر، مهما يكن حاله، غير أنه لا يتطلب منهم أن يجلسوا.
في جلسات العلاج، يتحدى المعالِج معتقدات المرضى بشأن مسائل تتعلق بالإدراك، مثل ما إذا كان القلق أمرًا لا يمكن السيطرة عليه، أو إذا كان القلق يحمي فعلًا من المخاطر. وعن طريق تلك المبارزة الفكرية، يساعد الطبيب في تطوير وعي المريض بتلك الأفكار التي تتسبب في عملية اجترار متكررة.
يسعى العلاج فوق المعرفي، مثل العلاج المعرفي السلوكي، إلى جعل المريض «ينحرف عن المركز»، فيفصل بين نفسه وأفكاره، ولا يراهما نفس الشيء، ويستطيع بالتالي تجريد الحقيقة من أفكاره الشخصية ليرى نفسه بصورة موضوعية أكبر، عن طريق الابتعاد خطوةً عن أفكاره.
فمثلًا، بدلًا من التفكير بطريقة «لا أستطيع أن أفعل هذا الشيء»، نتحول إلى التفكير في أن فكرة «لا أستطيع أن أفعل هذا الشيء» قد راودتنا، وهذا يعني أننا نستطيع التعامل مع أفكارنا باعتبارها أفكارًا لا حقائق.
الأفكار مثل الضيوف، يمكنك أن تفسح لها المجال، لكن لا تدعها تتولى زمام الأمور.
في ورقة بحثية، يعطي «أدريان ويلز»، أحد كبار المهتمين بالعلاج فوق المعرفي، أمثلة على طرق العلاج المستخدمة، فمثلًا يطلب من المريض أن يتخيل أفكاره كما لو كانت قطارًا سائرًا، أو مجموعة من السحب المارة، والهدف من هذه الأمثلة توضيح أنه ليس على المريض أن يُرغم القطار أو السحب على المرور، فكلاهما يتحرك دون تدخل.
يتشابه هذا التكنيك العلاجي مع البوذية نوعًا.
يقول «إيفان ثومبسون»، أستاذ الفلسفة في جامعة بريتيش كولومبيا الأمريكية، إن التأمل واليوغا يذهبان إلى أن الناس يعذبون أنفسهم عندما يصدقون روايتهم بصورة اعتيادية بشكل أكثر من اللازم. أما «توماس كاسوليس»، البروفيسور في جامعة أوهايو، فيقول في كتابه «Zen Action Zen Person» إن التأمل طريقة «لبسط كف الأفكار»، وهذا ما يتدرب عليه المرضى من خلال العلاج عن طريق الإدراك فوق المعرفي.
لا يمكن اعتبار دراسة تناولت 39 شخصًا فقط الحل النهائي للاكتئاب، لكنها تظل تجربة واعدة تعطي بصيصًا من الأمل. وسواء كنت تعاني من الاكتئاب أم لا، تذكّر أن الشاعر جلال الدين الرومي أكد أن الأفكار مثل الضيوف، يمكنك أن تفسح لها المجال، لكن لا تدعها تتولى زمام الأمور.
دينا ظافر