السيلياك: حين يصبح الخبز في اليمن خطرًا فتاكًا
«كانت ابنتي في التاسعة عشرة من عمرها عندما بدأت تعاني من آلام متكررة في بطنها، مع نقصان وزن وغثيان متواصل وفتور وإرهاق»، هذا ما قاله الرجل الخمسيني صالح علي لـ«منشور» عن قصة ابنته مع مرض السيلياك.
واصل حديثة قائلًا: «عرضناها على أكثر من طبيب في مستشفيات كبيرة في صنعاء، وكل طبيب كان يُدخلنا في دوامة لا نهاية لها. طبيب يقول عندها القولون، وطبيب آخر أجرى لها منظار وقال إنها مصابة بجرثومة في المعدة، وثالث قال إن السبب يكمن في الإثني عشر، ورابع أكد أنها مصابة بسل معوي وأعطاها جرعة سل لمدة 6 أشهر».
يضيف صالح: «لم أكن أصدق أن تنجو ابنتي بعد الجرعة الخاصة بالسل بسبب مضاعفاتها وقوة تأثيرها. أكملتْ الجرعة لكن دون جدوى، فقد استمرت الآلام تعتصر بطنها. بعدها أخذناها إلى طبيب خامس، أخبرنا أن المرض ليس كل ما قاله الأطباء السابقين: قال إنها مصابة بغدد لمفاوية في الأمعاء، ويجب أخذ عينه لفحصها».
تابع الأب قائلًا: «أجرت عملية جراحية لانتزاع عينة من غدد الأمعاء لفحصها، وكالعادة لم يتحدث التقرير عن نتيجة واضحة، بل أُعطيت أدوية عديدة لم تفدها في شيء. وهكذا كان كل طبيب يحولنا إلى طبيب آخر، ثم قال لنا أحد الاطباء إن لديها مرض خبيث وهو ما زاد من حالتها سوءًا، وبعض الأطباء اتهمها بالوهم».
ظلت معاناة الفتاة مستمرة مع آلام ومضاعفات لم تجد لها تفسيرًا ولا علاجًا، وكانت تبكي وتتوجع وسط عجز أهلها. يقول والدها: «اضطررنا بعد هذا كله لنقلها إلى مستشفى الثورة في صنعاء، ولم نخرج بتشخيص واضح. أنفقنا كل ما لدينا من أجل أن نراها بصحة جيدة وأن يُشخص مرضها، لكن كل مرة ندخل في متاهة وإجابات متناقضة».
كانت حالتها تزداد غموضًا، وكان والدها يغرق في الحيرة. ولأنهم قرروا عدم ترك أي فرصة من شأنها وضع حد لألم الفتاة، فقد لجأوا حتى للأساليب الشعبية في العلاج، مثل الكي والأعشاب وما شابه.
يقول والدها: «بعدها بعت أرضي وسافرت بها إلى القاهرة، فاكتشف أحد الأطباء المرض وأكده لنا قائلًا: ابنتك عندها مرض السيلياك، أي حساسية القمح، لكن المرض صامت لا يظهر بالعينات».
حين يتحول الخبز إلى مادة قاتلة
مجرد تشخيص يعتبر إنجازًا بالنسبة لهذه البنت ووالدها: «بدأت ابنتي في تطبيق برنامج الحمية الخاصة بالسيلياك حسب تعليمات الطبيب. وقد واجهنا صعوبات كثيرة على الرغم من أن الآلام اختفت نتيجة الحمية». فالالتزام بالحمية مهمة صعبة في مجتمع تعتمد فيه الأسرة في غذائها على القمح، وتحتوي كل وجباتها تقريبًا على الغلوتين.
لا يستطيع المصاب بحساسية القمح ومشتقاته أن يأكل من الوجبات التي تجتمع عليها العائلة. فالحمية تقتضي أن يقتصر الطعام على خبز الأرز والبيض والبطاطس. وبحكم الأوضاع الراهنة في اليمن من الحرب وانقطاع في الرواتب، من الصعب توفير اللحوم، وصار سعر البيضة الواحدة 70 ريالًا يمنيًا (8 سنتات)، والفواكه مكلفة جدًا ولا يمكن توفيرها بشكل دائم.
يذكر صالح أن ابنته تحتاج إلى ميزانية كبيرة لتوفير طعامها، بالاضافة الى الفيتامينات باهظة الثمن الخالية من الغلوتين التي وصفها لها الطبيب.
ينهي صالح حديثه بالقول إن ابنته أمام خيارين: إما أن تموت جوعًا باتباع الحمية، أو تموت مرضًا إذا أكلت مع العائلة ما يأكلون، إضافة إلى أن متابعة حالتها الصحية وإجراء فحص الغلوتين بين فترة وأخرى يحتاج إلى مبالغ خيالية في ظل الأوضاع الصعبة للبلاد: «الطبيب المختص الذي يتابع الحالة يحتاج إلى خمسة آلاف ريال يمني (9 دولارات) فقط لتسجيل الدخول إلى العيادة، وخمسة آلاف أخرى تكلفة الكشف، أما فحص الغلوتين فيكلف أكثر من 30 ألف ريال يمني (45 دولارًا)».
غلوتين اليمن: لا وعي في هذه المدينة
قلة قليلة في اليمن يعرفون شيئًا عن مرض السيلياك أو الحساسية من مادة الغلوتين التي يحتوي عليها القمح ومشتقاته.
إنه مرض باطني مناعي وراثي مزمن، ينتج عن عدم تحمل الأمعاء لأي أكل يحتوي على بروتين القمح (الغلوتين)، أو بروتين الشعير الذي يسبب ضمورًا وتحطيمًا للأغشية المخاطية في الأمعاء الدقيقة، ويؤدي كذلك إلى سوء امتصاص المواد الغذائية والأملاح والمعادن الضرورية للجسم.
الملفت في هذا المرض أنه يمكن الإصابة به لسنوات طويلة دون العلم بوجوده.
عُرف السيلياك في القرن الأول الميلادي، لكن توصيفه الطبي كان في عام 1954 على يد العالم «ديك وكروكر». يتجرع المصاب بهذا المرض معاناة شاقة وآلامًا مضنية، خصوصًا حين يكون المريض في بلد يعيش ظروف حرب وانهيارًا شاملًا، ويفتقر لأي سياسات صحية دقيقة ومنشآت حديثة متخصصة وهيئات للرصد وبرامج حكومية تهتم بتوفير الأدوية والمتطلبات الغذائية الضرورية. هذا المرض المجهول شعبيًا في اليمن، خصصت له الأمم المتحدة 19 مايو من كل عام يومًا عالميًا.
يصيب السيلياك من يحملون التشكيلة الجينية «HLA-DQ2 and DQ8». وتوجد هذه التركيبة في 40% من الناس، لكن المرض يظهر في 1% منهم فقط.
الملفت في هذا المرض أنه يمكن الإصابة به لسنوات طويلة دون العلم بوجوده، لكن تكمن المشكلة في أنه يُلحق ضررًا كبيرًا بشعيرات المعي، ويسبب التهابًا وتلفًا في البطانة المعوية، بحيث لا تعود شعيرات المعي قادرة على امتصاص المكونات الغذائية الأساسية للجسم، كالفيتامينات والمعادن والبروتينات والسكريات.
هناك قصص كثيرة لأشخاص مصابون بحساسية الغلوتين الموجودة في القمح والشعير والشوفان، وأيضًا في المنتجات الغذائية المعلبة والمواد الحافظة، وهي مكونات يكثر استعمالها لإعداد أطباق الطعام. فالأسرة اليمنية تعتمد في غذائها على القمح بصورة رئيسية، مثل السمبوسة والطعمية والمعجنات والمكرونة والخبز وبنت الصحن والشفوت والسوسي، وغيرها من الأطباق التي تحتوي على القمح.
تنقسم أعراض مرض حساسية القمح إلى:
- أعراض لها علاقة مباشرة بالجهاز الهضمي: انتفاخ، وألم في البطن، وإسهال مستمر، وفقدان في الوزن، وتأخر في النمو، وقيء مستمر، وإمساك، وفقر دم (أنيميا)، وألم في العظام والمفاصل والعضلات، وقصر القامة، وطفح جلدي، وتغير في لون الأسنان، وتأخر في البلوغ، وتقرحات داخل الفم، وهشاشة في العظام
- أعراض ليس لها علاقة بالجهاز الهضمي: الخمول، والاكتئاب، والتغير في السلوك
تحكي أم عمار فؤاد معاناة ابنها البالغ من العمر سبع سنوات، الذي اكتُشف مرضه قبل سنتين، فتقول لـ«منشور» إنها تواجه متاعب كثيرة مع ابنها من أجل اتباع الحمية، فهو طفل يحب أكل السمبوسة والبسكويت مثل غيره من الأطفال: «أحاول جاهدة إقناعه بعدم أكلها حتى لا يمرض، فيسألني متى سيتصل الدكتور الخاص به لكي يسمح له بالأكل مثل بقية الأطفال. أتمنى أن يكبر ابني ويتفهم خصوصية المرض».
معضلة التشخيص في اليمن
يوضح الدكتور أحمد محمد قارش، وهو أخصائي أمراض باطنية في اليمن، أن هناك مشكلة في تشخيص بعض الأمراض هناك، تتمثل في الاعتماد على المنطقة الجغرافية التي يأتي منها المريض. فمثلًا، لو جاء مريض يسكن في أوروبا ويعاني من إسهال مزمن، فالأسباب ستختلف عن مريض آخر جاء من العالم الثالث.
الثقافة الصحية للمريض غير موجودة في اليمن، بحسب الطبيب، الذي يضيف أن صعوبة التشخيص تكمن كذلك في عدم وجود إمكانيات مثل المختبرات والمناظير الحديثة: «بالنسبة للشريحة التي نأخذها على سبيل العينة، فأحيانًا نضطر إلى إرسالها خارج البلاد لتحليلها، بالإضافة إلى عدم وجود إحصائيات دقيقة لعدد مرضى السيلياك في اليمن».
يوصي قارش بوجوب التزام المريض بالحمية ومتابعة الوزن ومضاعفات المرض بشكل دوري في العيادة، معربًا عن أسفه لعدم وجود جمعيات لهذا المرض مثل باقي الدول: «المريض يعتمد على الطبيب المعالج وحده»، متمنيًا من وزارة الصحة أن تلتفت لمثل هذه الامراض المناعية وتعطيها أكبر اهتمام .
تعرض أم إيما من اليمن تفاصيل مشابهة عن تجربة ابنتها، البالغة من العمر سبع سنوات.
«كانت ابنتي تشتكي من مغص مستمر وفقدان للشهية وتقرحات في اللثة، ودائمًا في عصبية وفقدان للوزن. كل الأطباء كانوا يقولوا إن السبب التهابات في الأمعاء. في الأخير استطاع أحدهم تشخيص المرض وبدأت تنفذ الحمية، وهي عملية صعبة لأن الغلوتين موجود في أشياء أساسية كثيرة».
يمكن للمنظمات الدولية المشتغلة بقضايا الصحة أن توجه بعض برامجها لسد احتياجات المصابين بحساسية القمح.
أما أمل من اليمن، التي تبلغ 40 عامًا ومصابة بحساسية القمح، فتتمنى «تكوين جمعية تساعد وتخفف عن مرضى السيلياك، وتوفير طاحون خاص بطحن الذرة. ويهمني أن نوصل صوتنا للجميع، ونوَعِّي بالسيلياك حتى يسهم الجميع في مساعدة المريض باتباع الحمية، من خلال توفير المنتجات الخالية من الغلوتين بأسعار مناسبة».
رغم كل شيء، فهذه القصص والإفادات وحدها لا تعكس بشكل كامل الواقع المأساوي للمصابين بهذا المرض. الحقيقة أقسى بكثير، وقد آن الأوان لفعل ما يمكنه التهوين من متاعب وآلام مرضى السيلياك، وتوفير ما يلزم لتطبيع حياتهم في بلد منكوب بالحرب وويلاتها. يمكن للمنظمات الدولية المشتغلة بقضايا الصحة، وكذلك الجهات الخيرة في العالم، أن تولي هذا الموضوع اهتمامها، وتوجه بعض برامجها لسد احتياجات المصابين بحساسية القمح، وتقديم المساعدة سواء على مستوى التشخيص أو الرعاية العلاجية والبدائل الغذائية الخاصة بالحمية.
سارة الخباط