زحام التناقضات: قاهرة محمد خان وأبطالها المسكوت عنهم

أروى تاج الدين
نشر في 2018/08/13

لقطة من فيلم «بنات وسط البلد» - الصورة: أحمد حنفي

 «استطاع محمد خان أن يقدم لنا قاهرة جديدة، وكأننا لا نعرفها، مع أننا نعيش فيها يوميًّا، ونختنق في الضجيج والزحام والعفار، لكن لم نرها عن بُعد كما يقدمها لنا هذا الفيلم، وبصورة كلية أو شاملة إلى حد ما، حتى إننا ندهش كيف نستطيع أن نتحرك وسط هذه الفوضى العبثية».

هذا ما كتبه الناقد سامي السلموني عن فيلم «ضربة شمس»، أول أعمال المخرج محمد خان. هذا الفيلم الذي كان بمثابة شهادة ميلاد مخرج عاشق لمدينته وسكانها المسكوت عنهم، والذين أصبحوا أبطال أفلام أخرى من إخراجه، فخرج إلى حيث هم موجودون، يحكي قصصهم ويرصد تفاصيل حياتهم ومآسيهم وتفاعلهم داخل مدينتهم (القاهرة).

على مدار مشواره السينمائي الذي يقدر بنحو 45 عامًا، لم تكن القاهرة بالنسبة إلى خان مجرد مكان يدور فيه الحدث أو يعيش فيه الأبطال، لكن كانت بذاتها بطلًا رئيسيًّا، مرة بالأصالة عن نفسها، وأخرى بالنيابة عن مصر.

القاهرة مدينة شديدة الخصوصية لأنها أكبر مدن مصر وعاصمتها، إذ تحتشد فيها جميع الأنماط، وتتنوع الطبقات الاجتماعية وتتمايز، وتتجلى فيها بوضوح التغيرات التي تطرأ على المجتمع انعكاسًا للظروف السياسية والاقتصادية، وأثر هذه الظروف في ساكنيها. إضافة إلى خصوصيتها كمدينة، فإنها تجمع تناقضات متجاورة، فإلى جانب الأحياء الراقية المزدانة بالخضرة، والتي تنعم بالبراح والهدوء، ترقد الحارات الضيقة والأزقة بقبحها ومجاريها التي طفحت من شدة الضيق، وفوق أسطح البنايات الفارهة والعريقة، ترقد غرف الفقراء الكالحة بجوار أعشاش الدجاج واللوحات الإعلانية الضخمة التي تضيء سماءها.

الوجه الآخر للمدينة

لقطة من فيلم «ضربة شمس» - الصورة: إن بي

يستقل شمس (المصور الصحفي) دراجته النارية، يجوب بها أنحاء القاهرة مطلع الثمانينيات، في محاولة لحل لغز جريمة التقطت كاميرته خيوطها. فيتسلل من بين السيارات التي تكدست في شوارع وسط المدينة، ويطير فوق الكباري المرتفعة، ويخوض المطاردات في أطرافها المهجورة، وفي قطار حلوان.

منذ بداية السينما في مصر، وحتى عهد قريب، كان تصوير غالبية الأفلام حبيس حوائط البيوت والفيلات والمطاعم وديكورات الحارات التي بُنيت خصوصًا لذلك. وتكاد تُعَد على أصابع اليد الواحدة تلك المحاولات النادرة للخروج إلى الشوارع الطبيعية، ولثوانٍ معدودات على الشاشة.

لذلك حينما قرر محمد خان الخروج بفيلمه الأول (ضربة شمس) إلى شوارع القاهرة في 1980، كان ذلك حينها حدثًا مهمًّا: أن تشاهد القاهرة واختناقاتها من خلال الكاميرا التي تراقب تحركات شمس، سواء عن قرب أو في لقطات بعيدة على شاشة السينما. هذه التجربة التي كان تصوير ما يقرب من 90% منها، بعيدًا عن الجدران المغلقة، قد كسرت الحاجز النفسي بين السينما والمدينة، وفتحت الباب لجيل خان من مخرجي سينما الواقعية الجديدة للنزول إلى شوارع القاهرة وخوض التجربة.

هي نفسها التجربة التي كررها مرة أخرى بعد 12 عامًا في «فارس المدينة»، لكن هذه المرة من خلال عين فارس، ومن داخل سيارته وهو يجوب أنحاء القاهرة أيضًا في التسعينيات محاولًا جمع المال المطلوب منه خلال مدة قصيرة، وإن كانت مَشاهد المدينة لم تأتِ بنفس كثافة ضربة شمس، لكنه استطاع رصد كثير من ملامح الشارع القاهري في تلك الفترة، والتركيز على تفاصيل دقيقة، مثل المغازلة بأضواء السيارة واتجاه بعض الأفراد للتكسب من خلال إلقاء أنفسهم أمام السيارات الفارهة.

من زحام الطرق واختناقات الشوارع إلى الأحياء الشعبية العتيقة وحصارها بالأبراج العالية في فيلم «خرج ولم يعد» (1984) الذي يعد مرثية خان للمدينة التي أصابها القبح وأغرقها في تلوث سمعي وبصري.

يؤكد لنا خان الدور الحيوي الذي تلعبه القاهرة في الفيلم، يفتتحه بعبارة: «ربما كانت الشخصيات من الخيال، لكن ثق أن الأماكن من الواقع»، ثم يتبعها بلقطات متتابعة لحفار يفزع عطية من النوم، ثم معاناته مع انقطاع المياه، أو نزولها من الصنبور ملوثة بالصدأ، ثم لقطة لبيته المتقزم أمام الأبراج الضخمة، ثم الحي المختفي خلف الكتل الإسمنتية العملاقة التي حجبت عنه الهواء وضوء الشمس، فلم يجد عطية لنفسه سبيلًا سوى ترك المدينة واللجوء إلى براح الريف.

أبطال المدينة المسكوت عنهم

لقطة من فيلم «الحريف» - الصورة: داليا فيلم

يتوغل خان في عالم الخادمات في «أحلام هند وكاميليا»، ويعقد مقارنة بصرية بين الأحياء التي يعملن بها، والحارات التي يعشن فيها.

هذا الوجه الآخر للقاهرة ليس مكانًا أصم، لكنه جزء من أشخاص آخرين هم جزء منه، وجوده مرتبط بوجودهم، هؤلاء البشر الذين قهرتهم القاهرة، فإما استمرت رحى حياتهم تدور بها، أو هربوا منها إلى الريف مثلما فعل عطية. هؤلاء الناس الذين لم يتجل حضورهم على شاشة السينما إلا بأدوار هامشية ثانوية أو بحضور نمطي. لكن لم يتوغل صانع أفلام في دقائق حياتهم ويكشف معاناتهم وآمالهم وانهزامهم في السينما المصرية، مثل محمد خان.

يتبع خان بطله فارس في فيلم «الحريف»، ذلك العامل الموهوب في كرة القدم، ويلعب في مباريات الشوارع مقابل أجر زهيد، وينتمي بجذوره إلى إحدى الحارات الشعبية، بينما يسكن غرفة على سطح إحدى العمارات الكبيرة المطلة على قلب القاهرة. وحينما تُقتَل إحدى ساكنات العمارة يكون على قمة قائمة المشتبَه بهم. يمثل فارس الحرِّيف الطبقة العاملة التي ضاقت بهم سبل الرزق في قاهرة الثمانينيات وعصر الانفتاح، فيتجه إلى التهريب.

يتوغل خان في عالم الخادمات اللاتي يسكنَّ في الحارات الفقيرة التي تقبع خلف الأحياء الراقية أو بالقرب منها، في «أحلام هند وكاميليا»، ويعقد مقارنة بصرية بين الأحياء الهادئة والشقق التي يعملن بها من ناحية، والحارات الرثة والبيوت المتهالكة التي يعشن فيها من ناحية أخرى. يجعلنا خان نتماهى مع أحلامهن البسيطة بمكان نظيف يسكنَّ فيه بعيدًا عن من يبتزهن من الرجال، والتوقف عن الخدمة في البيوت، والذهاب إلى الملاهي أو الأسكندرية لرؤية البحر.

في «مستر كاراتيه» يروي لنا حكاية صلاح الذي ترك قريته (ومثله كثيرون) للبحث عن الرزق في القاهرة، فيعمل في جراج إحدى العمارات السكنية الكبيرة، ويحتك بساكنيها من المترفين، ويدهسه أحد أبنائهم تحت عجلات سيارته، فيتسبب له في عاهة مستديمة. يعمل صلاح سائسًا للسيارات تحت أحد الكباري في قلب العاصمة، فيكتشف فيها عالمًا جديدًا، ويحتك بمدمني المخدرات ومروجيها، وعالم البلطجة، ويُسجَن صديقه ظلمًا في قضية قتل، فتهزمه القاهرة ليعود أدراجه إلى قريته ليفلح أرضه.

في «بنات وسط البلد» (2003) ينجذب خان أيضًا إلى أحلام الفتيات البسيطات اللاتي يحلمن بالحب والزوج والأسرة رغم ظروفهن القاسية. فيجعلنا نتماهى مع ياسمين، عاملة الكوافير، وجمانة البائعة في أحد المحلات التجارية، ونجاريهما في مرحهما ولهوهما في شوارع القاهرة ومترو الأنفاق، أحد أبطال القاهرة المتوَّجين أيضًا. يعيد خان التجربة مع هيام، فتاة المصنع التي تسكن أحد الأحياء الفقير، وتحلم بالحب والفارس الذي سيأخذها على حصانه الأبيض.

القاهرة كمدينة كبيرة تتجلى فيها التغيرات الاجتماعية

لقطة من فيلم «خرج ولم يعد» - الصورة: ماجد فيلم

ساعدت مركزية القاهرة وتنوعها الاجتماعي خان، في رصد التناقضات التي تعكس كل ما يحدث في مصر، وتَقصِّي التغيرات الاجتماعية الناتجة عن السياسات الاقتصادية وتأثيرها في ساكنيها بمختلف شرائحهم. وتميزت فترة أواخر السبعينيات ومطلع التسعينيات، وهي الفترة التي شهدت أعظم إنتاجات خان السينمائية، بتقلبات عدة نتيجة للسياسات الاقتصادية التي انتهجتها حكومات هذه الفترة، والتي استعراضها خان في أفلامه.

لم يتخل خان عن إصراره على تصوير القاهرة حتى في أفلامه الحديثة. لذلك يمكننا رصد تطورات المدينة منذ الثمانينيات حتى عام 2013.

في «خرج ولم يعد» يتطرق خان إلى أزمة الإسكان التي اجتاحت القاهرة تحديدًا في الثمانينيات رغم انتشار بناء الأبراج العالية في ذلك الوقت. فيعاني عطية من الأبنية العالية الجديدة التي أغرقت المدينة، وحجبت حواريها عن الأنظار، وفي نفس الوقت استمرت خطبته سبع سنوات لعدم استطاعته الحصول على شقة مع كثرة هذه المباني.

يعود خان إلى هذه الأزمة في فيلم «عودة مواطن»، لكن هذه المرة من زاوية انتشار احتيال أصحاب هذه الأبراج على المواطنين في هذه الفترة، وبيع الشقق لأكثر من مشترٍ، وضياع أموال هؤلاء الناس. يعد هذا الفيلم أيضًا رصدًا لحالة التشظي التي أصابت المجتمع المصري، وجعلت كل فصيل يسير في اتجاه منفصل عن الآخرين، بينما تقوم فكرة فيلم «فارس المدينة» على ظاهرة شركات توظيف الأموال التي انتشرت في مصر مطلع الثمانينيات، وابتلعت مدخرات الطبقة الوسطى، وتورط في أعمالها المشبوهة مسؤولون كبار.

اقرأ أيضًا: الحوائط والفراغات العامة: في العلاقة بين المدينة والبشر

الطابع التسجيلي للقاهرة في سينما محمد خان

لقطة من فيلم «ضربة شمس» - الصورة: إن بي

لم يتخل خان، طوال مشواره السينمائي، عن إصراره على تصوير القاهرة والخروج إلى زحامها وحاراتها وأحيائها الشعبية، حتى في أفلامه الحديثة. لذلك يمكننا، من خلال هذه الأفلام، وبمنتهى البساطة، رصد التطورات والتغيرات التي طرأت على شوارع القاهرة منذ الثمانينيات مرورًا بالتسعينيات حتى عام 2013، وهو عام إنتاج فيلم «فتاة المصنع»، آخر أفلام خان في المدينة.

وبمثال بسيط يمكنك تأمل تغير شكل وسط القاهرة وميدان التحرير من فيلم «ضربة شمس» في الثمانينيات، إلى «فارس المدينة» و«مستر كارتيه» في التسعينيات، وصولًا إلى «بنات وسط البلد» في 2005. وأيضًا التطور الذي أصاب حي حلوان كمنطقة نائية في «ضربة شمس»، ثم كحي هادئ تسكنه الطبقة الوسطى في «عودة مواطن»، ثم إلى منطقة متشعبة مأهولة بالسكان في «بنات وسط البلد».

كانت القاهرة ركنًا أصيلًا في سينما محمد خان. من خلال عدسته التي تتوغل في زخمها ودروبها، وتسرد تفاصيلها المتناقضة، استطاع أن يكشف لنا روحها التي تملَّكته مثلما تملَّكت أبطاله، وصارت جزءًا أصيلًا من تكوين وعيه وفكره السينمائيين، فأصبح لا يُذكر محمد خان إلا والقاهرة معه.

أروى تاج الدين