المقاهي وأماكن التجمعات كمنصات لمراقبة الآخرين؟
إذا كنت من هواة برامج تليفزيون الواقع أو الكاميرا الخفية فإنك تمارس عادة مراقبة الآخرين مسبقًا، فرغبتك في ملاحظة حركات وتعابير الناس في محيطها الطبيعي وفضولك في معرفة ردود فعل ضحايا الكاميرا الخفية، قد جعلتك تتسمّر أمام الشاشة، لتعرف المزيد عن الشخصيات الظاهرة بالتلفاز.
قد تُفاجَأ بأنك تمارس «استطلاع العامة» أو ما يعرف بـالـPeople Watching لا شعوريًا في بادئ الأمر، ثم لا يلبث أن يتحول الأمر إلى ممارسة ممتعة، خصوصا مع تكرار الحضور في أماكن تجمعات الناس. ويرى المستطلعون أو «المراقبون» الأمر هوايةً يحرصون على ممارستها من وقت لآخر، في حين يرى القسم الآخر من الفضوليين أن الأمر ليس إلا عادة، تُسهم في قتل الوقت الضائع، فيستغلونها في مشاهدة ثنائي يدخل في نقاش محتدم مثلًا، أو ملاحظة شخص تائه يدور في نفس الطريق منذ مدة باحثًا عن غرض معين أو شخص ثالث منشغل تمامًا في هاتفه ويبدو غير مهتم بالشخص الذي يجلس أمامه، وشخص رابع يتوقف ليلتقط «سيلفي» سيبعث به بعد لحظات لأصدقائه المقربين.
إن مطالعة العامة في العموم تتطلب التركيز على الجموع ومراقبة تصرفاتهم وتفاصيلهم عن بُعد، لغرض الفضول أو الاستطلاع، ويتعمد المبدعون والفنانون بالذات ممارستها عبر التدقيق وتسجيل تفاصيل الشخصيات العشوائية التي يصادفونها بشكل يومي، لتخزينها في الذاكرة وإعادة استخدامها في أعمالهم فيما بعد، كما يفعل الكتاب من خلال الشخصيات التي يرسمونها، وكذلك الممثلون عبر الأدوار التي يجسدون تفاصيلها للمشاهد.
طبيعة بشرية أم فضول؟
نحن، البشر، لدينا فضول عميق لكل ما يدور من حولنا، فهو الذي يدفعنا لقراءة الأخبار اليومية لمتابعة أحداث تجري في أماكن بعيدة لأشخاص على الأغلب لن نقابلهم أبدًا، والفضول هو الذي يدفعنا للسفر لاستكشاف محطات جديدة حول العالم رغم أننا قد لا نخطط لزيارة نفس المكان مجددًا.
تبدأ جذور رغبتنا المتجددة في الاستكشاف ومعرفة المزيد عن المجهول منذ سن الطفولة، عندما نتسلم ألعابنا الأولى ونرغب في تفكيكها لمعرفة محتوياتها، وعندما نبدأ إجراء تجاربنا الاستكشافية الخاصة حول المكان الذي نجول فيه، وبعد مرحلة البلوغ، نستمر في اكتساب مهارات جديدة من خلال مراقبة الأشخاص الموجودين في البيئة المحيطة للتكيف مع الظروف والمكان.
وقد يستحوذ الفضول على جزء كبير من حياة بعض هواة الاستطلاع، فيقررون التفرغ للعادة بشكل أساسي وتسجيل مشاهداتهم اليومية في الشارع أو أماكن وجود الناس، كما يفعل المصورون الفوتوغرافيون الذي يبحثون عن صور في قلب المدن وتجمعات البشر لتوثيق المناظر والمشاهد العشوائية المثيرة للاهتمام. فالكاميرا هي عين المشاهد التي ترصد وتوثق الوقائع لحظيًا لكي يعاد مشاهدتها إلى ما لا نهاية. من الطريف أن المصورين في عصرنا الحالي يشبهون بشكل كبير ما يعرف بـ«المتجولين» الذي ظهروا واختفوا كليًا في القرن العشرين بعد اختراع الكاميرا الفوتوغرافية.
«المتجولون» أشخاص متخصصون في مراقبة العامة عرفوا باسم flâneur، ظهروا في القرن التاسع عشر في بعض الدول الأوروبية، ومنها فرنسا، نتيجة استخدام بعض الكتّاب والشعراء لهم، كي يجوبوا الطرقات ويراقبوا المناظر الطبيعية نيابة عنهم، ويتفاعلوا مع المارة في محاولة لفهم العلاقة بين الفرد والجماعة وتسجيل ملاحظاتهم لخدمة من أرسلوهم، ودوّن الكثير من أولئك المتجولين ما شاهدوه وراقبوه عن بعد في أثناء عملهم اليومي. وكان أهمهم «والتر بنجامين»، الذي يعد من أشهر المتجولين الفلاسفة في القرن العشرين، وقد وظفه الشاعر الفرنسي «تشارلز بودلير» ليستطلع من أجل أشعاره وكتاباته الخاصة، ويقول بنجامين في أحد كتاباته واصفًا مدينة باريس عام 1935:
«كانت الجماهير كالحجاب الذي يغطي المدينة، وكانت أجواء المدينة خلابة جدًا وخاصة، حتى غدت كحجرة في منزل ما. والاثنان معًا (الجماهير والمدينة) أشبه ما يكونان بمتجر لوازم للمتجول ليشتري سلعة عابرة بالنظر».
كيف نراقب؟
ترصد بعض الكتب مثل «إتقان لغة الجسد: كيفية قراءة عقل الشعب عبر التواصل غير اللفظي» (Mastering the Body Language: How to Read People's Mind with Nonverbal Communication) أساليب مختصّة بمراقبة أدق تفاصيل لغة الجسد التي تصدر عن الآخرين، مثل حركات الساقين والقدمين في طريقة الجلوس أو المشي وتحريك اليدين من عدمه، وتعابير الوجه، والكلمات المستخدمة، ونبرة الصوت، وإيقاع الحوار وطريقة الحديث، حتى ملاحظة تكرار أي حركة معينة أكثر من مرة، فالنمط المشاهد يُحدد نوع الشخصية، إن كانت صبورًا أو متسرعة. وكلما مارسنا قراءة لغة الجسد أكثر، أصبح الأمر أسهل وأسرع في المرة المقبلة التي نحاول بها مراقبة الوضع القائم أمامنا.
على سبيل المثال، مؤشرات جسدية تُلاحظ في أثناء الجلوس، كنقر القدم على الأرض أو تحريك الساقين بطريقة متكررة، تُظهر افتقاد الشخص للصبر أو رغبته في الخروج من المكان، في حين أن وضع ساق على الأخرى يعبر عن التحفظ أو القلق، بعكس الجلوس مع ثبات القدمين على الأرض الذي يدل على استقلال الشخصية والانفتاح على الآخر.
إنها أشبه بلعبة بصرية حينما تتنبأ بالحدث التالي أو تختلق حياة كاملة للشخص الذي تراقبه، وتبدأ تركيب قطع الأحجية الظاهرة أمامك مع قطع من وحي خيالك، لتحصل على الصورة العامة عن سمات هذا الشخص وعيوبه.
وقد تناول الثنائي الكوميدي الأمريكي «تينا فاي» و«ستيف كاريل» هذا الموضوع من خلال مشهد تمثيلي، تؤدّيه شخصياتهم في الفيلم الكوميدي Date Night، عندما يتعاقبون في تخّيل حيوات كاملة للأشخاص العشوائيين الذين يلاحظونهم بدقة متناهية خلال موعد عشاء.
المقاهي.. الأماكن المفضلة لاستطلاع الناس
المقاهي من أكثر الأماكن التي يمارس فيها محبو استطلاع العامة هوايتهم، وتصمم غالبًا بحيث تسمح للزبون بالتطفل على الآخرين بحرية من خلال توفير المقاعد على الناصية، أو إحاطة المكان بنوافذ زجاجية شفافة إذا كان مغلقًا. يمكن مراقبة الأشخاص عشوائيًا في المطاعم أيضًا أو المطارات أو غرف الانتظار، وفي كل مكان توجد فيه جموع كبيرة من الناس، تتوافر اختيارات عديدة ومتنوعة من الأطياف البشرية تتيح للمراقب التنقل من شخص لآخر ومن قصة لأخرى.
بخصوص هذه الظاهرة، تقول الدكتورة «ليندساي ماكن»، الأستاذة المساعدة في قسم علم النفس بجامعة جورج واشنطن: «عندما تجلس في المقهى فترة كافية، فإنك تكتسب صورة وافية عن المجتمع الذي توجد فيه، ففي المقهى تجد الناس على طبيعتهم، يتحدثون بحرية، يجلسون كما يحبون، ويضحكون بطلاقة. المقاهي أماكن لترى الآخرين وتُرى، وقد لعبت دورًا حيويًا في الحقبة التنويرية في أوروبا بالقرن السابع عشر كبيئات متاحة للمفكرين المؤثرين ليجتمعوا ويتناقشوا ويتعلموا من الآخرين».
وفي دراسة أخرى، أجرتها الدكتورة «واكسمان» عام 2006 عن المقاهي وتأثيرها في المجتمع، توصلت إلى أنها من أكثر الأماكن التي يتعلق بها الأفراد، مما يعكس بشكل مباشر تعلقهم بمجتمعاتهم. وذلك يفسر مقاهينا المفضلة وسبب ترددنا عليها أكثر من أماكن أخرى، مهما اختلفت عناصرها الجمالية واتسعت مساحتها المكانية.
وبعيدًا عن المقاهي، تمتلك بعض الدول مناطق تعرف بمناطق استطلاع العامة أو "People Watching Spots" وتُدرجها كجزء من دليلها السياحي، كما توفر تطبيقات سفر شهيرة مثل Foursquare حسب الدولة أو المدينة التي يرغب السائح في استكشافها على طريقة الـ«متجولين».
من راقب الناس مات همًا
لا يخفى على القارئ حقيقة أن الجزء الأكبر من موروثاتنا المجتمعية ينبذ التدقيق في تصرفات الآخرين، ويشدّد على اتباع المقولة الشهيرة «من راقب الناس مات همًا» من باب ترك المرء ما لا يعنيه والتركيز على شؤونه الخاصة بدلًا من اتخاذ مشاهدة الآخرين عادة يواظب عليها باستمرار، مع إغفال الفائدة الحقيقية للتأمل بالذات البشرية وتفاعلاتها المختلفة مع المحيط، باختلاف الأماكن والمؤثرات.
[ctt tweet=«إن سعي المراقب لمعرفة المزيد عن الآخر والمكان هو في حد ذاته غاية تجمع بين المتعة والتفكر» username="manshoor"]، فهموم الحياة ومشاغلنا اليومية لا تترك لنا المجال للاستغراق في تحليل الطبيعة الإنسانية ومراقبة الأنماط البشرية المختلفة، فلم لا نسترق اللحظات الصغيرة من حياتنا السريعة ونتأمل القيمة الإنسانية بمحيطنا الصغير؟
سحر الهاشمي