الرضاعة الطبيعية: الخوف والقلق ينتقلان إلينا من أمهاتنا
وُثقت الفوائد الطبية للرضاعة الطبيعية، وأصبحت أمرًا مسلمًا به. لكنها لم تعد تشغل الباحثين الآن، وإنما أصبح تأثير الرضاعة في قدرات الطفل المعرفية محلًّا للجدل، لما يقرب من مئة سنة، ولم يصل فيه العلماء إلى نتائج قاطعة حتى الآن.
ما هو مدى تدخُّل العناصر الغذائية لحليب الأم في التطور العصبي والبصري للطفل الوليد؟ كيف تتحكم بعض الأحماض الدهنية غير المشبعة، التي تُنقَل إلى الطفل من خلال الرضاعة، في إدراك الطفل وقدرته على التصرف وحل المشكلات؟ هل يمكن للرضاعة الطبيعية حماية الطفل من الأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية؟
تأثير الرضاعة في السلوك والإدراك
ستعرف ببحث بسيط على غوغل دور الرضاعة في تحصين صحة الأم والرضيع. فهي تفرز هرمون «الأوكسايتوسين» الذي يُساعد الرحم في العودة إلى حجمه الطبيعي، ويقلل نزيف الولادة، ويحد من خطر الإصابة بسرطان الرحم والمبايض، ويوفر للطفل كل ما يحتاجه من بروتينات وفيتامينات ودهون والأجسام المضادة للفيروسات والبكتريا، ويقلل خطر إصابته بالحساسية والربو. لكن هذه الفوائد آخر ما يهم الباحثون الآن.
أظهرت أبحاث كثيرة تأثير الرضاعة في تطور قدرات الوليد اللغوية والمفردات التي يستخدمها. واختبرت 19 دراسة هذه العلاقة التي تربط بين الرضاعة واللغة، سواء اللغة التعبيرية، قدرة الطفل على استخدام الكلمات للتعبير عن نفسه، بما يتفق مع قواعد اللغة الصحيحة، أو اللغة الاستقبالية التي تُمكِّنه من فهم ما يقال له، أو كليهما.
لم يغفل الباحثون العلاقة بين الرضاعة والذاكرة. ففي فئران التجارب، على سبيل المثال، يؤدي نقص الأحماض الدهنية في الرضاعة إلى إصابة الجرذ بضعف في الذاكرة، وبخاصة في أثناء عملية التعلم، بينما تُظهر زيادة الأحماض الدهنية نتائج عكسية تمامًا.
يجذب تأثير الرضاعة في الجانب المعرفي للطفل انتباه معظم العلماء. لذلك لم يحظ التأثير السلوكي بفرصة الخضوع للدراسة المكثفة. توصلت الأبحاث القليلة التي أجريت في هذا الصدد، إلى أن التلامس الواقع بين الأم ووليدها في أثناء الرضاعة، يحد من الانحرافات السلوكية التي قد تواجه الطفل. تشمل هذه الانحرافات شكلين: أولهما الانحرافات السلوكية الداخلية: لا تؤذى الآخرين، بل تضر الفرد نفسه، مثل الخوف والانعزال. وانحرفات سلوكية خارجية: لا تقف عند أذى الفرد نفسه، بل تمتد لتشمل الآخرين، مثل التنمر والتخريب والحرق.
الوقاية من الاضطراب ثنائي القطب
تصيب الانحرافات السلوكية الداخلية، كالاكتئاب والقلق، نحو 20% من الأطفال والمراهقين، وتزيد من نسبة الأمراض النفسية في مرحلة البلوغ. أُجريت دراسة على 1276 طفلًا صينيًّا لمعرفة ما إذا كانت الرضاعة والتواصل اللغوي بين الأم ورضيعها في أثناء الرضاعة، مثل أن تغني لطفلها، أو تهدهده في أثناء الرضاعة، تؤثر في نشأة هذه الانحرافات أم لا.
تقلل الرضاعة حتى عمر ستة أشهر، من الأمراض النفسية التي تصيب الأطفال.
توصلت الدراسة إلى قلة إصابة الأطفال الذين رضعوا طبيعيًّا، لكن دون تواصل لغوي، بالانحرافات السلوكية النفسية والآلام الجسدية. وكذلك بالنسبة إلى الأطفال الذين تواصلت معهم أمهاتهم لغويًّا في أثناء الرضاعة، فإضافة إلى ما سبق، حظوا بفرص أقل للتعرض إلى الاكتئاب والقلق واللجوء إلى ردود الأفعال العاطفية، أي التصرف بعاطفية دون استخدام التفكير العقلاني.
هذه الشريحة هي الأقل عرضة للانحرافات السلوكية الداخلية، تليها الفئة التي تضم الأطفال الذين تمتعوا بالتواصل اللغوي مع أمهاتهم، رغم حرمانهم من الرضاعة الطبيعية. على الناحية الأخرى، لاحظ الباحثون زيادة نسبة الانحرافات السلوكية عند الأطفال الذين حرموا من الرضاعة الطبيعية والتواصل اللغوي على حد سواء.
تمنح الرضاعة الطبيعية، بحسب الدراسة، فوائد بيولوجية كثيرة للأطفال، بسبب ما تحتويه من أحماض «الأوميغا 3» الدهنية التي تقلل من احتمالية الإصابة ببعض الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب الحاد و«الاضطراب ثنائي القطب»، وبخاصة عند الأناث. يؤدي حمض «الدوكوساهكساينويك» (DHA)، أحد أحماض «الأوميغا 3»، دورًا محوريًّا في تطور الخلايا العصبية. وبذلك، فهو وثيق الصلة باضطرابات النمو، كنقص الانتباه وفرط الحركة .
أوضحت دراسة حديثة، لأطفال في سن الرابعة عشر، أن الرضاعة حتى عمر ستة أشهر، قللت من الأمراض النفسية التي تصيب الأطفال. لكن العلماء ما زالوا في حاجة لمزيد من البيانات التي توضح العلاقة بين الرضاعة الطبيعية والأمراض العقلية.
«تسقيه حليب الغنم ولا تسقيه حليب النكد»
بدأت رحلة الباحثين، طبقًا لموقع «Nautilus»، في دراسة الصلة بين هرمون التوتر «الكورتيزول»، والإدراك المعرفي للطفل، منذ ثمانينيات القرن العشرين. وكعادة الأبحاث العلمية، أُجريت الدراسة أولًا على الجرذان، ولوحظ أن حليب الأم الذي يحتوي على نسبة معتدلة من هرمون التوتر، أسرع من خطى الفئران الصغيرة في التعلم، وقلل التوتر، وزاد حبهم للاستكشاف، وقدرتهم على التأقلم، إضافة إلى تحسن واضح في الذاكرة.
حانت اللحظة لاتخاذ الخطوة الثانية، وهي إجراء الأبحاث على القردة، للتأكد من أن هرمون التوتر «الكورتيزول» الموجود في لبن الأم، ينتقل إلى الطفل الرضيع، ويؤثر في سلوكه حتى بعد الفطام.
أجرى «المعهد القومي الأمريكي لصحة الطفل والتنمية البشرية» (NICHD) بحثًا عن تأثير مستويات «الكورتيزول» في 26 قردة رضيعة، وتوصل الباحثون إلى أن حليب الأم الذي يحتوي على كمية كبيرة من «الكورتيزول»، يجعل الطفل أقل اندفاعًا عند وصوله إلى سن ستة أشهر.
«بوجه عام، أشارت النتائج إلى دور هرمونات لبن الأم، منذ لحظة الولادة، في التطور العصبي والسلوكي للطفل في ما بعد. ستعتمد الدراسات المستقبلية على هذه النتائج لتحديد آليات هذا النوع من الترابط»، حسبما يرى الباحثون، وأنه يمكن اكتشاف الآليات البيولوجية المبكرة التي تؤثر في تطور الدماغ عبر مزيد من البحث في حليب الأم.
تتباين نسبة هرمون التوتر في حليب الأم من سيدة إلى أخرى، فهي نسبة غير مستقرة، قد تزيد بسبب ظروف حياتية مضطربة ومشكلات تمر بها المرأة، ويختلف تأثير هرمون التوتر في الذكور والإناث. يمنح هرمون التوتر المُركَّز للوليد الذكر، في شهره الثالث، الثقة، فيصبح نشيطًا وجريئًا وفضوليًّا ومحبًّا للعب، بينما يترك أثرًا سلبيًّا في الأنثى، إذ تميل للخوف والحزن، وتشعر بالغضب والتوتر وعدم الراحة، بحسب دراسة منشورة في موقع «المركز الوطني لمعلومات التقنية الحيوية» (NCBI) .
اقرأ أيضًا: الحمل كسؤال فلسفي: من يملك الأرحام وما فيها؟
الرضاعة الطبيعية أم الصناعية، أيهما أفضل؟
تظل الرضاعة الصناعية مغرية لأنها تُريح الأم، وتزيح عنها هَمَّ السيطرة على تقلبات وليدها، وتجعل الطفل أكثر هدوءًا.
يتمتع المواليد الذي يعتمدون على الرضاعة الطبيعية بمزاج حاد، مقارنةً بالرضاعة الصناعية. يبكون كثيرًا ويضحكون أقل من غيرهم خلال هذه الفترة من حياتهم، ما يُقلق بعض المرضعات، فيفضِّلن اللجوء إلى الرضاعة الصناعية.
أوصت إحدى الدراسات بتجنب هذه المخاوف. فالكفة تميل، أولًا وأخيرًا، إلى الرضاعة الطبيعية لما لها من فوائد متعددة على كل المستويات: النفسية والعقلية والصحية، وينبغي أن تتأقلم الأمهات مع أمزجة أطفالهم الصعبة، لأنه سلوك طبيعي يخلق نوعًا من التواصل المَرِن بين الأم ورضيعها. فلا عيب في بكاء الرضيع وحدة مزاجه، لأنها إشارات تواصل تفيد بحاجة الوليد للغذاء في أثناء فترة الطفولة المبكرة.
قسمت الدراسة 316 طفلًا، عُمر كل واحد ثلاثة أشهر، إلى ثلاث فئات: الأولى ضمت الرضاعة الطبيعية، والثانية الرضاعة الصناعية، والثالثة الدمج بين الرضاعة الصناعية والطبيعية. فوجدت أن الفئتين الأولى والثالثة اللتين تضمنتا الرضاعة الطبيعية، تُنشئ أطفالًا ذوي أمزجة حادة يصعب التعامل معها.
تظل الرضاعة الصناعية مغرية لأنها تريح الأم، وتزيح عنها هَمَّ السيطرة على تقلبات وليدها، وتجعل الطفل أكثر هدوءًا. ورغم ذلك، فالرضاعة الصناعية تتسبب في زيادة وزن الطفل بسرعة شديدة كنتيجة للإفراط في التغذية.
يرى الدكتور كن أونغ، أستاذ في «وحدة علم الأوبئة» بمجلس البحوث الطبية في جامعة كامبريدج، أنه بدلًا من اللجوء إلى الحل السهل، والاستغناء عن الرضاعة الطبيعية، ينبغي على الوالدَيْن التحكم في توقعاتهما لتكن أكثر واقعية لما يخص سلوك الرضيع الطبيعي، من وجهة نظرهما، ما يؤهلهما لفهم سلوكيات الرضيع الحادة على نحو صحيح والتعامل معها بطريقة مناسبة حال ظهورها. وأشار أونغ إلى زيادة نسبة النساء، في الوقت الحالي، اللاتي يفضلن الرضاعة الطبيعية، لكن سرعان ما يتخلون عنها بعد أسابيع قليلة.
يؤمن الباحثون بأن هذه الدراسات، رغم قلة عددها، نواة لطفرة مستقبلية وشيكة. تخيل أن المجتمع العلمي أصبح على دراية وافية بتأثير كل هرمون يُنقَل إلى الرضيع عبر حليب الأم، في سماته الشخصية والسلوكية وقدراته المعرفية، تخيل أن النسب الدقيقة لهرمون «الكورتيزول» وأحماض «الأوميغا 3» المناسبة، تحدد تشكيل إنسان سَوي غير مصاب بأي شكل من الانحرافات السلوكية والنفسية والعقلية، وأن يستطيع العلماء، كذلك، تحديد مقدار التواصل الحسي واللغوي المطلوب بين الأم في أثناء فترة الرضاعة، سواء كانت الطبيعية أو الصناعية أو المزج بينهما، للإسراع في عملية تكوين الإنسان المثالي. هل يمكننا بذلك صنع يوتوبيا؟
ندى حنان