بوب مارلي: غيمة مرَّت، روت، ثم ولَّت
«وُلدت لأب أبيض وأم سوداء، واعتاد الناس أن ينادونني بالفتى المختلط، لذا لا أميل إلى الرجل الأسود ولا إلى الرجل الأبيض، بل إلى الله الذي خلقني من الأبيض والأسود». بوب مارلي.
بدأ الأمر بطفولة تعيسة.
في قرية سانت آن في جامايكا ولد بوب مارلي في السادس من فبراير عام 1945 تحت اسم «روبرت نيستا مارلي»، الاسم الذي سيغيره لاحقًا في بداية مسيرته الفنية إلى بوب مارلي.
أمه كانت امرأة سوداء تُدعى «سيديلا مارلي بوكر»، وأبوه إنجليزي كان يعمل في الجيش البريطاني يُدعى كابتن «نورفال مارلي»، تزوج والدة بوب عندما كان في الستين من عمره وكانت هي في التاسعة عشرة، وأنجب منها طفلًا وحيدًا، وهجرهما بعدها بسبب ضغوط من عائلته الإنجليزية التي عارضت الزواج بشدة، ولم يره بوب ووالدته سوى مرات قليلة على فترات متباعدة حتى وفاته عام 1957.
في الوقت الذي كان يعاني فيه أقرانه من الاضطهاد والظلم والعنصرية من ضباط الشرطة والحكام، عانى مارلي من عنصرية مزدوجة، إذ رفضه قومه لنَسَبه المختلط ولقبوه بـ«الفتى الأبيض»، وعاملوه بقسوة على أنه دخيل وليس واحدًا منهم، لكن تلك الحياة لم تصبه بالعزلة أو تحوله إلى إنسان قاسٍ، بل أثارت داخله وعيًا تجاه حاجة العالم إلى الاتحاد بكل طوائفه وجنسياته، وإلغاء مثل هذه التصنيفات.
أنكرته عائلة والده الإنجليزية ورفضت الاتصال به، فكتب أغنية «Cornerstone»، التي يشبِّه نفسه فيها بقطعة حجر، ووالده وعائلته الإنجليزية بـ«عامل البناء» الذي يرفض التقاط هذا الحجر ليُكمل به عمله. أغنية بسيطة حقًّا، لكن لها مدلولًا عميقًا:
«الحجر الذي رفضه البنَّاء
سيظل دائمًا حجر الأساس
أنت بنَّاء وأنا حجر
لا ترفضني
لأن الأشياء التي يرفضها الناس
هي الأشياء ذاتها التي يتوجب عليهم استخدامها»
كُتبت الأغنية عام 1970، وتنبأ بها مارلي باسمه الذي سيخلده التاريخ. تصف أخته غير الشقيقة «كونستانس مارلي» الأغنية بأنها حقيقية إلى درجة كبيرة، فبوب بالفعل هو من خلد اسم عائلة «مارلي» الإنجليزية، فملأ العالم بسلالته وموسيقاه، وأصبح اسم مارلي مقترنًا به هو وليس بأيٍّ ممن سبقوه في العائلة. مُحي أثرهم وأصبحوا في خلفية المشهد، بينما ظل هو في المقدمة، دائمًا.
The Wailers: «البكاؤون» الذين لا يحملوا من اسمهم شيئًا
اعتنق مارلي «الريستفارية» مع كثير من الجامايكيين، الذين رأوا في تلك الديانة تحريرًا لهم من العبودية.
وجد مارلي في الموسيقى ملاذًا من الفقر والعنصرية عندما التقى «باني وايلر» في المدرسة، فعلمه وايلر العزف على الغيتار، ليسجل أولى أغنياته عام 1962 وهو في السادسة عشرة بعنوان «Judge not»، التي لم تنجح لكنها جذبت اهتمام الموسيقي الشهير «جيمي كليف»، لجمال وعمق وثورية كلماته.
قرر أن يُنشئ فرقة عوضًا عن الغناء وحده حين انتبه إلى نجاح فرق مثل «The Temptations» و«Frankie Lymon and the teenagers» و«The Drifters» و«The Platters»، لذا أسس فرقة «The Wailers» (البكاؤون) مع صديقيه «باني وايلر» و«بيتر توش».
اعتاد مارلي اصطحاب صديقيه إلى المقابر في الثانية بعد منتصف الليل ليتمرنوا على موسيقاهم هناك، إذ حاول تجنب الإخفاق الذي قد ينتج عن توتر أحدهم على المسرح أمام الجمهور بأن يضعهم في أسوأ موقف ممكن، وهو الغناء في المقابر، ليتغلبوا على رهبة المسرح، الأمر الذي نجح بالفعل.
أولى أغنيات مارلي التي اشتهرت كانت «Simmer down» عام 1964، وحققت نجاحًا باهرًا في جامايكا. عمل بعدها الفريق مع اثنين من المنتجين ذوي النفوذ القوي في جامايكا، «ليزلي كونغ» و«كوكسون دود»، ولكن لقلة العائد المادي الذي جناه منهما، كما جرت العادة في ذلك الوقت في جامايكا، هاجر مارلي مع زوجته «ريتا مارلي» واثنين من أعضاء الفريق إلى الولايات المتحدة عام 1970، ليقيم هناك مع والدته، التي انتقلت إلى أمريكا بعد زواجها للمرة الثانية.
هناك عاش مارلي حياة قاسية دون خلفية موسيقية، فعمل في مسح الأرضيات في فندق «دوبونت» صباحًا، وفي مصنع سيارات «كرايسلر» مساء، ووثق هذه التجربة القاسية في أغنية «It’s alright»:
«لا بأس
إن لم تبتسم لي الشمس في الصباح
والقمر في المساء
إن لم يكن كل ما أفعله صحيحًا
لن أخسر هذه الجولة
فأنا الأكثر حظًّا»
عاين مارلي العنصرية والظلم والاضطهاد الذين عانى منهم السود في أمريكا، فقرر العودة إلى جامايكا ومباشرة مسيرة النضال والموسيقى مع فريقه.
أنت ما تأكل، أنت مشوار حياتك، بما في ذلك إيمانك وضفائرك
اعتنق مارلي ديانة «الريستفارية» عام 1966 بعد زيارة إمبراطور إثيوبيا «هيلا سيلاسي» لجامايكا، حيث اعتبره الناس إلهًا ونادوه بـ«جاه» (Jah). تعرف مارلي إلى هذه الديانة عن قرب من قائد الحركة الريستفارية «مورتيمر بلانو»، الذي تأثر به مارلي وكثير من الناس في جامايكا، ورأوا في ديانته تحريرًا لهم من العبودية والقهر. وكانت لديهم تفسيراتهم الخاصة للإنجيل، فآمنوا بأن الجنة في إفريقيا، وعاملوا الإنسان ذا السمات الإفريقية الواضحة على أنه إله، وكانوا يدخنون الماريجوانا بشراهة لأنها تجعلهم في حالة من السعادة والاسترخاء تسمح لهم بالتأمل والإبداع.
من ضمن تعاليم هذه الديانة تجديل الشعر، ذلك النوع الشهير من الضفائر المعروف باسم «دريدلوكس»، وعدم تمشيطة أو فك هذه الضفائر لفترة زمنية محددة، وكان هذا الأمر يؤخذ بجدية، وحين سُأل مارلي عن سر تمسكه بالضفائر قال: «إنها هويتي».
لم تكن هذه الديانة قد انتشرت على نطاق واسع في ذلك الوقت، وكان كل من يعتنقها ينبذه الناس، لذا فعند عودة مارلي وفرقته من أمريكا رفض عديد من المنتجين التعاون معهم، مما اضطرهم إلى إنتاج أعمالهم والترويج لها بأنفسهم، وربما استعمال القوة أحيانًا لإذاعتها على محطات الراديو.
تعاون الفريق لاحقًا مع المنتج «لي كراتش بيري»، الذي كان علامة في تاريخهم، إذ أتاح مناخًا إبداعيًّا للثلاثي، وكان له تأثير كبير في مسيرة مارلي الفنية.
الريغي: موسيقى نشأت بالصدفة
نقطة التحول في مسيرة مارلي عندما قابل المنتج الجامايكي «كريس بلاكويل" لينتج له ألبوم "Catch a fire" الذي حقق نجاحًا ساحقًا.
قبل بوب مارلي لم تكن موسيقى «الريغي» مشهورة عالميًّا، ويُقال إن إيقاعها الشهير الذي نسمعه بشكل واضح في أغنيات بوب نشأ بمحض الصدفة. فإيقاع العزف على الغيتار في موسيقى الريغي تحول من «تشا تشا تشا» إلى «تشا/كا تشا/كا تشا/كا».
بدأ الأمر عندما اشترى المنتج كوكسون دود جهاز تسجيل من أمريكا واحتفظ به فترة طويلة دون استعمال، حتى تلك اللحظة التي اكتشف فيها أنه عند تسجيله لإحدى النغمات عليه، ترتد مرة أخرى بشكل عكسي. وعندما استمعت الاستوديوهات الأخرى لهذه النغمة الجديدة ظنوا أنها إحدى تنويعات الغيتار، واعتبروها مألوفة للغاية على الأذن، ومن ثَمَّ اعتمدوها، بل وطالبوا بالمزيد منها. من هنا نشأت موسيقى الريغي، ربما من مجرد وهم.
الثلاثي الشهير «The I-Three»
كانت نقطة التحول في مسيرة مارلي عندما قابل المنتج الجامايكي من أصل بريطاني وصاحب شركة «Island Records»، «كريس بلاكويل»، لينتج له ألبوم «Catch a fire» الذي حقق نجاحًا ساحقًا.
بعدها نظم الفريق جولة في لندن ثم الولايات المتحدة، لكن باني وايلر وبيتر توش لم يتحملا الحياة الجديدة التي فُرِضت عليهما، ولا تحكمات كريس بلاكويل ومعاملته إياهما كالهواة، فانسحبا من الفريق.
تغير هيكل الفريق، فظل مارلي المغني الرئيسي، وانضمت زوجته ريتا إلى الفريق ضمن الثلاثي الشهير «The I-Three»، الذي كان يتكون من «مارسيا غريفيثس» و«جودي موات»، إضافة إلى ريتا. وأصدر الفريق بعدها اثنين من أشهر ألبوماته: «Exodus» و«Kaya».
بوب مارلي: من الناس ومعهم، إلى الأبد
لم تنجح محاولة اغتيال مارلي في منعه من إحياء حفل «ابتسامة جامايكا»، الذي حضره أكثر من 50 ألفًا.
كانت الموضوعات التي يتناولها مارلي عادةً في أغنياته تدور حول الثورة والسلام والحب، وبالطبع الدعوة إلى عدد من أفكار الديانة الريفستارية، لكنها لم تكن مجرد شعارات رنانة، ولم يكن فيها أي قدر من الادعاء أو الزيف.
في عام 1976 كان الوضع في غاية السوء في جامايكا، إذ نشبت حرب أهلية بين مؤيدي الحزب الوطني الذي يتولى رئاسة الحكومة، ومؤيدي حزب العمال المعارض، وحينها خاطبت الحكومة مارلي كي يحيي حفلًا يحث فيه على السلام. وافق بوب، الذي لم يكن معروفًا عنه انحيازٌ سياسي معين، بل كان له أصدقاء من الطرفين، لذلك لم يفهم الجامايكيون إلى أي طرف ينحاز.
جرت محاولة اغتياله مارلي قبل الحفل، أصيب فيها هو وزوجته ريتا ونجيا من الموت بأعجوبة، واستقرت رصاصة في ذراع بوب فقط. قرر ألا يجري جراحة لإزالة الرصاصة، وبقيت مستقرة هناك في ذراعه حتى توفي، لمجرد أنه سمع من الجرَّاح أن إزالتها قد تؤثر على عزفه للجيتار.
لم تنجح محاولة الاغتيال في منع مارلي من إحياء الحفل، الذي كان بعنوان «ابتسامة جامايكا»، وحضره أكثر من 50 ألفًا، واستغرق 90 دقيقة فقط، غادر بعدها بوب سريعًا، وسافر مع وأسرته وفرقته الموسيقية إلى لندن ليقضي هناك 18 شهرًا، قبل أن تلجأ إليه الحكومة مجددًا بعد ازدياد الوضع السياسي والحرب الأهلية سوءًا.
عاد مارلي وأحيا الحفل، وطلب من رئيس الوزراء «مايكل مانلي» وزعيم المعارضة «إدوارد سيغا» أن يتصافحا، ليُنهي حالة الاحتقان والصراع بين الحزبين أخيرًا.
إفريقيا: الوطن والغاية
لم يكتفِ مارلي أبدًا بالنجاح الذي حققه في العالم، بل لازمه شعور بأن موسيقاه لم تصل إلى كثير من الشعوب الإفريقية، وحفلاته تحضرها قلة من السود ويهيمن عليها البيض، لذا جاب عديدًا من دول القارة السوداء وأحيا حفلات هناك، أشهرها حفل زيمبابوي بعد استقلالها عام 1980، حين تحمل تكلفة الحفل وحده، وشحن المعدات من لندن إلى زيمبابوي، لأن تلك الدولة المستقلة حديثًا لم تكن قادرة على تحمل نفقات الحفل.
ضُمِّنت أغنية «Zimbabwe»، التي كتبها مارلي خصيصًا لشعب زيمباوي، في ألبوم «Survival» عام 1979، وموضوعه الأساسي الدعوة إلى الوحدة الإفريقية.
لم يقتصر دور مارلي فقط على العمل السياسي والدعوة إلى الثورة من أجل الوحدة والسلام، بل ساعد أكثر من 4 آلاف مواطن جامايكي بمبالغ مالية كبيرة.
حين سُئل عما إذا كان غنيًّا أم لا، التفت إلى المحاور وسأله: «ما تعريف الغِنى من وجهة نظرك؟ النقود؟ وكم من النقود يلزم ليكون المرء غنيًّا؟ الغِنى بالنسبة إليَّ لا يتعلق بالنقود، بل بالحياة، دائمًا».
خلاص: العابرون سريعًا.. هم الأجمل
«القراصنة القُدامى اختطفوني
باعوني للسفن التجارية
بعد أخذي بدقائق من الحفرة العميقة
لكن يدي خُلِقت قوية
بيدِ الله القادر
إننا نتقدم في هذا الجيل
نحو النصر
ألن تساعدني في ترديد
هذه الأغاني عن الحرية؟
لأني لم أملك يومًا سوى
أغاني للخلاص.. أغاني للخلاص»
كتب مارلي هذه الأغنية عام 1980 بعد اكتشافه إصابته بالسرطان.
بدأ الأمر عندما أصيب بجرح في إصبع قدمه الكبير خلال لعب كرة القدم عام 1977، لكنه أهمل الجرح لفترة طويلة. ازداد الجرح سوءًا ونصحه الأطباء بقطع الإصبع، إلا أنه رفض، لأن ديانته تنهاه عن أغلب أساليب الطب الحديث، وتتعامل بقلق شديد مع فكرة بقاء الجسد على ما هو عليه. قرر مارلي تجاهل الأمر، ليتحول الجرح لاحقًا إلى ورم سرطاني كان بإمكانه علاجه والشفاء منه لو لم يتجاهل نصائح الأطباء.
آخر حفل قدمه بوب كان في مدينة بيتسبرغ الأمريكية، وبعدها حُجز في مستشفى في نيويورك لتلقي العلاج الكيماوي، ثم غادر المستشفى لأن حالته كانت ميئوسًا منها.
اتجه مارلي إلى ألمانيا تحت إشراف الطبيب «جوزيف إيسيل» عام 1980، لكن إيسيل أوقف العلاج أيضًا، وعاد بوب إلى مدينة ميامي في الثامن من مايو عام 1981، ليموت في الحادي عشر من مايو وهو في السادسة والثلاثين من عمره.
لا يا مارلي، لن نبكي
منذ سنوات شاهدت على التلفزيون فيلمًا يُدعى «Eavesdrop»، أتذكر منه بعض المشاهد القليلة، أبرزها لرجلين يلعبان الشطرنج، أحدهما يتحدث كثيرًا والآخر يستمع في ملل. يسأله الأول طوال الفيلم: «من أعظم من كتب أغنيات على الإطلاق؟». في البداية يبدو الصديق متحمسًا للإجابة على السؤال، فيركز قدر استطاعته: «جون لينون؟ بوب ديلان؟ البيتلز؟». يهز الآخر رأسه نفيًا في إصرار. وقبل نهاية الفيلم نجد الصديق وقد يئس من المحاولة.
أتذكر كيف تأملت «طابور المرفوضين» الذي ضم كثيرًا من الموسيقيين المفضلين بالنسبة إليَّ، لدرجة جعلتني أتحمس بشدة لذلك الفائز المجهول الذي سيُعلِن عنه الصديق الأول أخيرًا. وفي المشهد الأخير من الفيلم ينظر إلى صديقه الذي غلبه النعاس ثم يقول فجأة: «بوب مارلي».
يفيق الآخر من غفوته القصيرة ويقول باستنكار: «بوب مارلي؟»، فيجيبه: «نعم. إنه من كتب أجمل مقطع في تاريخ الأغاني على الإطلاق في أغنيته Waiting in vain، يقول فيه: «لقد واجهت كثيرًا من المصاعب كي أدرك أن الحزن وفير، لكن حبك هو راحتي».
ياسمين أكرم