ليس على العلم أن يكون مثيرًا: هل كانت تجربة سجن ستانفورد خدعة؟
تحكي لنا تجربة «ستانفورد»، وهي واحدة من أشهر الدراسات النفسية، قصة بسيطة ومحيرة عن الطبيعة البشرية.
جمع منفذو التجربة عددًا من المشاركين مدفوعي الأجر، وقسموهم إلى فريقين في قبو جامعة ستانفورد ليحاكي شكل السجن، فريق سجناء والآخر حراس، وبعد بداية التجربة بفترة قصيرة، بدأ الحراس يعاملون السجناء بقسوة شديدة، ما استدعى أن يتدخل المنظمون ويوقفوا التجربة في منتصفها، بعد وقوع عدد من الاعتداءات الفادحة.
اقترح منفذو التجربة، في استنتاجاتهم عما حدث، أن الأبرياء الذين يجدون أنفسهم فجأةً في وضع يتمتعون فيه بسلطة على الآخرين، سيبدؤون في استغلال تلك السلطة. أما الذين يجدون أنفسهم في وضع ظلم يُرثَى له، فسيكون من السهل دفعهم إلى الخضوع التام، بل حتى الجنون.
هذه واحدة من أهم التجارب النفسية في التاريخ البشري، لكن الجديد أن نتائجها خطأ، ليس فقط بسبب التساؤلات الأخلاقية حول ما جرى فيها أو بسبب عدم وجود بيانات ملموسة. لكنها خطأ بسبب خداعها المقصود.
عدد كبير من تجارب علم النفس كانت احتيالية أو مغطاة بغبار الزمن، وقد بدأ العلماء في تقبل حقيقة أن تجاربهم القديمة تحتاج إلى إعادة نظر.
عرض موقع «Medium» تقريرًا يكشف تسجيلات صوتية ومقابلاتٍ مع المشاركين لم تُنشر من قبل، لـ«فيلب زيمباردو»، عالم نفس بجامعة ستانفورد، وأحد المنظمين الأساسيين للتجربة. يوضح التقرير أن حراس السجن المُحاكي قد جرى التأثير فيهم ليُصبحوا قساة. بل جرى تشجيعهم على ممارسة مزيد من العنف.
يُظهر التقرير أيضًا أن اللحظة الأكثر دراميةً في التجربة كلها، كانت لسجين دخل في نوبة صراخ صائحا: «إنني أحترق من الداخل»، كانت محض تمثيل. ويضيف مُشارك آخر أنه رأى التجربة «تدريبًا جيدًا على مهاراته الارتجالية»، وأيضًا «ظن أن هذه الدراماتيكية هي بالضبط ما أراده منه الباحثون».
ليست مادة علمية
كانت التجارب تخضع للتدقيق لوقت طويل، ويرى كثيرون أن تلك النتائج مجرد وصف دراماتيكي، لكنها ليست مادة علمية.
لكن هذه الاكتشافات الجديدة كان من نصيبها ردود أخرى لحظية. فقد غردت عالمة النفس «سيمين فازير»، على تويتر ردًّا على التقرير الفاضِح أنه «علينا أن نُوقف الاحتفاء بتلك التجربة. إنها ضد العلم، أخرجوها من الكتب الدراسية». واستجاب علماء نفس آخرون للاكتشافات الجديدة بمشاعر مماثلة.
ليست هذه أول مرة يحدث فيها أمر مماثل. فقد ثبت أن عددًا من التجارب الكلاسيكية في علم النفس، في الآونة الأخيرة، كانت خطأ أو احتيالية أو مغطاة بغبار الزمن.
في السنوات الأخيرة، بدأ علماء كثيرون يتقبلون حقيقة أن تجاربهم القديمة تحتاج إلى إعادة نظر، أو ما أُطلق عليه: «أزمة التكرار».
لكن هناك فجوة أخَّرت الوعي الشعبي وكيفية تدريس علم النفس بالنسبة إلى المعلمين والكتب الدراسية كذلك، ويبدو أنه قد حان الوقت لتخطي تلك الفجوة.
قد يهمك أيضًا: لماذا يذهب العلم إلى المحكمة؟
«سجن ستانفورد» ليست التجربة الكلاسيكية الوحيدة التي فُحصت مؤخرًا وأعيد تقييمها أو انكشف احتيالها بشكل صريح.
مؤخرًا، وجدت الصحفية «جينا بيري» أن تجربة «كهف روبيرز» التي أُجريت في خمسينيات القرن العشرين، والتي تتضمن أولادًا صغارًا في مخيم صيفي، يجري التلاعب بهم لينقسموا فرقًا مُتحاربة، إنما هي محاولة مكررة من نسخة سابقة فاشلة للتجربة، لكن العلماء لم يذكروا هذا في ورق الدراسة الأكاديمي. هذا إهمال لا يغتفر، فمن الخطأ أن تغفل بياناتٍ قد تؤثر في صحة فرضيتك، وتنشر فقط ما يدعمها.
كشفت بيري أيضًا وجود تناقضات في عمل مهم آخر في علم النفس: هو «اختبار ميلغرام» الشهير للصعق الكهربي، والذي يجري فيه إخبار المشاركين بتوصيل جرعات مختلفة من الكهرباء، قد يؤدي بعضها إلى الموت، لأشخاصٍ في غرفٍ منفصلة عن المشاركين. وتُظهر تحقيقاتها وجود أدلةٍ على خروج الباحثين عن سيناريو الدراسة، وربما حتى إكراه بعض المشاركين على تحقيق النتائج المرجوة.
كانت التجارب العلمية تضم نحو 50 طالبًا في المرحلة الجامعية. أما اليوم، فيدرك العلماء أن هذه هي الوصفة المثالية للحصول على نتائج إيجابية كاذبة.
المثير للسخرية أن الاكتشافات الجديدة حول تجربة سجن ستانفورد تُظهر قوة السلطة. وفي هذه الحالة، فإن زيمباردو نفسه ومعاونيه كان لهم دور في التلاعب بالآخرين، ليصقلوا ما بداخلهم من قسوة أو ليشجعوهم على إبرازها أكثر.
هناك أيضًا «اختبار مارشميللو»، وهو عدة تجارب أجريت من عام 1960 إلى 1970. تشير نتائجه إلى أن القدرة على التأخير الذاتي للاستمتاع في سن مبكرة، يرتبط بشكلٍ إيجابي بالنجاح لاحقًا في الحياة. يزعم البحث الجديد أن التجربة الأصلية لتجربة المارشميللو، كانت ستختلف حتمًا في نتائجها لو كان قد جرى توفير عينات وضوابط أكبر للباحثين.
دُحض عدد من النظريات النفسية حينما جرى تكرارها. يدرك علماء النفس الآن أن النتائج الإيجابية الكاذبة مرجَّحة للنشر وتلقي الاهتمام أكثر من النتائج غير الحاسمة، وأن وسائل الأعلام والصحافة العلمية ترحب دائمًا بهذا النوع من التجارب، لأنها تضمن قراءات أكثر، واهتمامًا أكبر من العالَم. وأدرك العلماء المعاصرون أن الطرق التجريبية التي استُخدمت عادةً قبل بضع سنوات ليست صارمة بشكلٍ كافٍ.
على سبيل المثال، كان من المعتاد أن ينشر العلماء التجارب التي كانت عيناتها تضم نحو 50 طالبًا فقط في المرحلة الجامعية. أما اليوم، فيدرك العلماء أن هذه هي الوصفة المثالية للحصول على نتائج إيجابية كاذبة، وأنه من أجل الاطمئنان إلى نتائج تجربة ما، علينا أن نجري هذا البحث على عدد أكبر.
رصد العلماء الأخطاء وصححوها، وما زالوا يعملون على فهم قلب الإنسانية. فمثلًا، ما زالت التجارب مستمرة في أحد أقدم محاولات علم النفس، وهو التقليل من الإنسان والقدرة على رؤية شخص آخر كما لو كان أقل من أن يكون إنسانًا. هذا من شأنه أن يساعدنا في فهم سوء معاملة المسلمين والمهاجرين في أمريكا.
زوايا أخرى لم تُنشر
في بعض الحالات، أظهر الوقت أن بعض التجارب الأصلية التي وُجد فيها أخطاء ستكون جديرة بالتكرار. فمثلًا تجربة ميلغرام الأصلية كانت معيبة، لكن تصميمها الذي يجعل المشاركين يتحكمون في جرعات مختلفة من الصدمات الكهربية (التي لا تُنفَّذ في الواقع) لمعاقبة الآخرين على فشلهم في اختبار الذاكرة، تقبل التكرار اليوم مع بعض التعديلات الأخلاقية.
يبدو أن استنتاجات تجربة ميلغرام قد تصمد خلال التكرار: ففي دراسة حديثة، وجد عدد من الأشخاص أن طلب شخصيةٍ ذات سلطة أكبر تعد سببًا مقنعًا وكافيًا لإعطاء شخص آخر صدمات كهربية. مع ذلك، من الممكن، بسبب ما يُعرف باسم «تأثير درجِ الملفات»، أن هناك نسخًا فاشلة من تجربة ميلغرام لم تُنشر قط. من ناحية أخرى، كانت محاولات تكرار تجربة سجن ستانفورد تنتهي دائمًا إلى حالة من الفوضى.
تميل نتائج ما بعد التجربة الأصلية إلى أن تكون أقل دراماتيكية من النتائج الأصلية، لكنها أكثر فائدة في المساعدة على اكتشاف الحقائق.
يمكن للعلم أن يكون عملية محبطة ومتكررة. لكن علينا أن نتجاوز فكرة أن دراسة واحدة رائعة يجب أن تصمد عبر الزمن، فقط لأنها رائعة، أو أن نتائجها مثيرة.
يدرك العلماء ذلك أيضًا، لكن مؤسساتهم غالبًا ما تُثبطهم عن تكرار التجارب القديمة، ويحثونهم على السعي وراء تجارب جديدة ومثيرة قد تستحوذ على الاهتمام. ويعد الصحفيون جزءًا من المشكلة أيضًا لأنهم يعطون دراسات صغيرة، أهمية أكبر مما تستحق.
لكن لحسن الحظ، هناك باحثون يفكرون بجدية كبيرة في كيفية جعل علم النفس أكثر قابلية لتكرار تجاربه. بل إن هناك منظمة تختص بكيفية تطوير علم النفس، وتتناول تلك المشكلات.
تميل نتائج ما بعد التجربة الأصلية إلى أن تكون أقل دراماتيكية من النتائج الأصلية، لكنها أكثر فائدة في المساعدة على اكتشاف الحقائق. ليس الأمر كما لو أنه لا مكان لتجربة ستانفورد في الكتب الدراسية. إنها ممتعة كقصة تاريخية. لقد تأثر زيمباردو وميلغرام بالحرب العالمية الثانية. وكانت تجاربهم، جزئيًّا، محاولة لفهم لماذا يُحب أشخاص عاديون النازية. يعد هذا سؤالًا مهمًّا، وما زالت الأبحاث التي تحاول الإجابة عنه مستمرة حتى الآن.
اقرأ أيضًا: تجربة سجن ستانفورد: هل الشر جزء من تكويننا؟
تغير علم النفس بشكل هائل خلال السنوات القليلة الماضية. وفُحِص عدد من الدراسات المُستخدَمة لتعليم الجيل الجديد من علماء النفس، وتبين أنها خطأ. لكن المثير للقلق، أن المناهج الدراسية لم تتعرض للتحديث وفقًا لذلك.
ما يلي هو استنتاج دراسة أجريت عام 2016 حول علم النفس الحالي:
«تواجه الكتب المدرسية صعوبة في تناول الموضوعات المثيرة للجدل بشكل دقيق. وفي بعض الأحوال، فإنها لا تتناولها على الإطلاق. ربما يُكوِّن قرَّاء الكتب المدرسية معلوماتٍ خطأ، دون قصد، عن هذه الموضوعات بسبب تلك المشكلة».
جمع مؤلفي الدراسة، من جامعتي Texas A&M وStetson، مجموعة مكونة من 24 كتابًا تمهيديًّا وشعبيًّا عن علم النفس في المناهج الدراسية، وبدأوا رحلة بحث عن 12 من أكثر الأفكار والأساطير المتنازَع عليها في علم النفس.
لم تُدحض أفكار مثل تهديد الصور النمطية وتأثير «موتسارت»، وما إذا كان «وباء النرجسية» ينتشر بين جيل الألفية. مع ذلك، هناك دراسات موثوقة تشكك فيها. تضمنت قائمة الأفكار أيضًا بعض الأساطير الشعبية، مثل تلك التي تزعم أننا نستخدم 10% من قدرة أدمغتنا، وكذلك القصة السخيفة حول رفض المارة مساعدة امرأة تُدعى «كيتي جينوفيز» حينما كانت تتعرض للقتل.
ثم صنَّف الباحثون تلك الأفكار بالنسبة إلى طريقة تناولها والتعامل معها. ووجدت النتائج قدرًا مقلقًا من التغطية «المنحازة» لموضوعات مختلفة.
لكن لماذا لا تتضمن الكتب المدرسية مزيدًا من الشك؟ فتكرار التجارب حجر أساس أي علم.
فهم السلوك البشري مشكلةً صعبة. لكن لا ينبغي أن يكون إيجاد الإجابات أمرًا سهلًا.
مؤخرًا، سأل كاتب المقال على تويتر: كيف يتعامل أساتذة علم النفس مع التناقضات الموجودة في المناهج الدراسية التي يُدرِّسونها؟ وكانت إجاباتهم بسيطة للغاية. أجاب بعضهم بأنهم قرروا التخلص من الكتب الدراسية (الأمر الذي يوفر كثيرًا من المال للطلاب) والتركيز على تدريس مقالات فردية. بينما كان لدى أساتذة آخرون حل آخر: «عليك فقط أن توضح الجزئيات الخطأ القديمة، والتجارب التي لا يصلح تكرارها»، كما يقول «دانييل لاكنز»، الأستاذ بجامعة إيندهوفن للتكنولوجيا في هولندا. إذ قدَّم مثالًا مفيدًا لإحدى الشرائح التي يستخدمها مع طلابه.
بينما يتبع «جو هيلغارد»، أستاذ علم النفس بجامعة إلينوي، نهجًا مختلفًا في التدريس. إذ يظن أن طلابه يقدِّرون شعور التفوق، وأنهم يعرفون شيئًا لم يُذكر في الكتاب.
فهم السلوك البشري مشكلةً صعبة. لكن لا ينبغي أن يكون إيجاد الإجابات أمرًا سهلًا. إذا كان لذلك أي تأثير، فإنه سيعطي الطلاب مزيدًا من التحفيز ليُصبحوا جيلًا من العلماء الذين يفهمون الأمور بشكل صحيح. علينا أن نترك للدارسين مجالًا لتحطيم الأساطير، وهذا بالضبط ما ينبغي للجيل الجديد من العلماء تعلمه: كيفية طرد الأساطير، والبحث عن الحقيقة.
ندى رضا