تجربة شخصية: عن العمى والشفقة والتكنولوجيا
الناس متساوون في كل شيء، وعليه: لا فرق بين أعمى ومبصر، وهذا ما استشففته من التكنولوجيا، والتطور المذهل الذي أحرزته في الآونة الأخيرة. لكن أين الخلل؟
لم يكن العمى مشكلة أو عائقًا يومًا ما، لكن المشكلة تكمن في بعض العميان، وبعض المجتمعات. ربما هذه العبارة تعتبر مزعجة للبعض، وخاصة أولئك الذين اعتادوا أن يروا الأعمى.. أعمى.
بداية، وليكون كل شيء واضحًا، فإنه عليك كـ«أعمى»، قبل أن تثبت أنك شخص عادي «يصيب ويخطئ، يستطيع وله عوائق، يتعايش ويعيش»، أن تثبت أنك إنسان.. إنسان فقط.
ورغم المحاولات البائسة التي يحاول بها بعض العميان إثبات أنهم بشر عاديون، سيخرج من أقصى المدينة أعمى آخر يطالب بالشفقة خلف قناع الرأفة، والتمييز خلف قناع العدالة، والراحة خلف قناع الوعي.
الرحمة الكاذبة
دائمًا ما أقول: مشكلة العميان تبدأ منهم.
لا أنسى مقالًا درسته عندما كنت في المرحلة الثانوية، كان بعنوان «الرحمة الكاذبة»، قرأته عندما كنت في الصف العاشر، إذ أنه كان مقررًا علينا ضمن منهج وزارة التربية، بكتاب اللغة العربية طبعة 2015-2016.
كان الكاتب يتكلم عن الأعذار التي يقدمها البعض للتهرب من مسؤولياتهم تحت مسمى الرحمة، والتي سيكون فيها ظلم للبقية دون شك. فالإنسان الذي يتغيب عن عمله دون عذر ينادي باسم «الرحمة»، والذي يشجع أبناءه على العنف ينادي باسم «الحب»، والذي يعلن كرهه للآخر ينادي باسم «الحرية»، بيد أن الرحمة والحب والحرية مفاهيم لو كانت تتكلم، لنبذت كل ما أُلحِق بها من مغالطات.
علاوة على ذلك، لم يكن «بعض» العميان في معزل عن هذا كله، بل أنني دائمًا ما أقول: مشكلة العميان تبدأ منهم.
إن كنت أكرر كلمة «أعمى» كثيرًا، فلا بأس، ولا تجعلوا الرحمة الكاذبة تغلب على الحقيقة في أن مصطلح أعمى أو كفيف ما هو إلا كلمة، لا تغير شيئًا، ولن تعيد لفاقد البصر بصره، وأن الله ذكرها في القرآن صراحة في سورة عبس حين قال: «عبس وتولى، أن جاءه الأعمى».
المكفوفون والتكنولوجيا
لم يكن التطور التقني بمثابة حياة جديدة للعالم والمبصرين فحسب، بل أثبت جدارته حتى في ما يتعلق بحياة الكفيف وواقعه، الذي تغير بالكامل.
كانت الحياة بشكل عام صعبة للكفيف بشكل كبير، أعني حياة ما قبل 2011 تحديدًا، إذ كان الأعمى دائمًا وفي كل شيء مضطرًا للاحتياج إلى المبصر.
على صعيد الدراسة، إن لم تكن الكتب متوفرة بطريقة برايل (أحرف بارزة تساعد الكفيف على الكتابة والقراءة من خلال اللمس) فإن الحل الوحيد أمام الكفيف أن يطلب من مبصر مساعدته، وذلك بتسجيل الكتاب بصوته، ليكون كتابًا صوتيًا يستمع إليه الكفيف، مما يؤكد فكرة اعتماد الكفيف بشكل شبه كلي على المبصر، الذي سيقضي الساعات أمام جهاز التسجيل قارئًا للكتاب، الذي يعتبر وسيلة مهمة لدراسة الكفيف بعد الانتهاء من التسجيل.
أما بالنسبة للأخبار والمجلات فقد كان الكفيف بطبيعة الحال لا يعرف آخر الأخبار والمستجدات إلا من خلال حاسة السمع، إما عن طريق مبصر يقرأ الأخبار، أو عن طريق الراديو أو التلفزيون والمذيع الذي يظهر في ساعات محددة خلال نشرة الأخبار اليومية.
لم تكن الحياة هكذا فقط، بل كان الكفيف معتمدًا بنسبة لا تقل عن 85% من حياته على المبصر، الذي قد يكون موجودًا، وقد ينشغل، وإن كان موجودًا: فهو قد يكون مدركًا لما يسأل عنه الكفيف (إذا كان الكفيف سعيد حظ بطبيعة الحال)، وقد لا يدرك المبصر ماهية أسئلة الكفيف أصلًا، كوصف مشهد معين، أو تنسيق هدية مثلًا.
لكن في عام 2011 تحديدًا، زودت شركة آبل أجهزتها الذكية بخاصية قارئ الشاشة (Screen Reader) بالإصدار العربي، الذي يساعد الكفيف على استخدام الأجهزة الذكية بكل سلاسة، من خلال الاستماع إلى ما يقوله قارئ الشاشة، والضغط على الأزرار مرتين لتأكيد اختيار أمر معين. لم تكن أجهزة ذكية فحسب، بل كانت البداية الفعلية لدخول الكفيف إلى عالم التكنولوجيا والحياة الرقمية بشكل أسهل وأبسط.
ورغم وجود أجهزة كمبيوتر مزودة بقارئ شاشة قبل ظهور الأجهزة الذكية الخاصة بشركة آبل، فإن عددًا ليس بقليل من مكفوفي الكويت لم يتمكنوا من الاعتماد على أنفسهم بصورة شبه تامة إلا مع ظهور أجهزة آبل، والسبب ربما يرجع إلى كونها أول شركة (حسب معرفتي على أقل تقدير) تقرر أن تجعل قارئ الشاشة يأتي بصفته «Software» على كل الأجهزة التي تصدرها، ولأي مبصر الآن القدرة على استخدام قارئ الشاشة بشكل تلقائي، وتفعيله على أي جهاز يمتلكه من أجهزة آبل، بخلاف بقية الأجهزة السابقة التي كانت تتطلب تثبيت برنامج خاص لقارئ الشاشة.
واقع مختلف
بعد أن دخل الكفيف عالم التكنولوجيا من أوسع أبوابه كما يقال، تعددت البرامج، وصارت تتطور بشكل كبير، فحتى هذه اللحظة، ظهرت العديد من البرامج التي جعلت من الكفيف مرجعًا تقنيًا حتى لبقية المبصرين.
صار الكفيف قادرًا على تصفح قوائم المطاعم عبر تطبيق ديليفرو مثلًا، ويمكنه دخول برنامج «توصيل» وتصفح المنتجات، بل وحتى قراءة الوصف المزودة به هذه المنتجات أصبح واضحًا عبر قارئ الشاشة، وأيضًا يمكنه استخدام خرائط غوغل المزودة بالوصف الصوتي لوصف الطريق لمبصر يقود السيارة.
كل ما يراه المبصر متاح وبشكل كامل للكفيف، حتى الأخبار التي كان الكفيف يعتمد على المبصر لقراءتها في السابق، أصبحت وبضغطة زر متاحة أمامه، وذلك عبر الخدمات الإخبارية وبوجود قارئ للشاشة لا يكل ولا يمل، ولا يتذمر من قراءة الخبر مرات عديدة.
التكنولوجيا لا تفرق بين مبصر وأعمى فعلًا، فقد أعطت الكفيف حقه في دخول مواقع التواصل الاجتماعي، والتفاعل فيها ومعها، وإبداء آرائه كشخص عادي بمعنى الكلمة. فتطبيق تويتر يعتبر من أكثر التطبيقات المتوافقة مع قارئ الشاشة، لأن أغلب مستخدميه يعتمدون على الكلمة لإيصال رسالة. ورغم أن تطبيق إنستغرام يعتمد على الصور والرموز البصرية بشكل كبير، فإن له محاولات طيبة لتمكين الكفيف من الدخول والتصفح بسهولة، من خلال الوصف التلقائي (Auto Descriptions Generator) الذي يعمل على وصف الصور بشكل مبسط.
لم يقف الذكاء الاصطناعي عند هذا الحد، بل ظهرت لنا برامج داعمة لاستقلالية الكفيف واعتماده على ذاته قدر المستطاع، فبرنامج Envision على سبيل المثال يساعد الكفيف على وصف الصور وتحويلها إلى نصوص خلال أقل من دقيقة، وبرنامج Seeing AI من شركة مايكروسوفت يساعد الكفيف على قراءة المنتجات ووصف الألوان، وبرنامج Money Reader يساعد الكفيف على تمييز العملات من خلال وضع النقود أمام الكاميرا.
هذه البرامج على سبيل المثال، والتي أستخدمها شخصيًا، غيرت حياتي بشكل كبير. وهي في تطور مستمر، وقد تصل إلى أبعاد لم نكن لنتخيلها يومًا. لكن بالطبع، هذا لا يعني أن تلك البرامج ستجعل من الكفيف مبصرًا، إلا أنها تطور تقني جعل من الكفيف يكتفي بذاته بشكل كبير.
أعذار
رغم هذه التطورات الهائلة والتغيرات الإيجابية، لا يزال بعض المكفوفين يفضلون الاعتماد على الآخرين والتفنن في تقديم الأعذار التي لم تعد مقنعة في زمن التكنولوجيا. وكي نكون منصفين، أنا هنا فقط أتحدث عن تجربتي وتجربة مكفوفي الكويت، لأن واقعنا كمكفوفين في منطقة جغرافية واحدة متشابه إلى درجة كبيرة.
بحسب ما أظن، وقد لا يعجب هذا الكثيرين، فإن من مظاهر عدم التقدير للتكنولوجيا أن يسأل الكفيف مبصرًا كتابة أعماله نيابة عنه، أو أن يُظهر العجز في بعض الأمور رغبة في استعطاف الآخر، أو أن يُذكر المجتمع بأنه أعمى كي يتخلص من المهام بطريقة (على أقل تقدير) تريح ضميره. هذا يجعل بعض المواقف راسخة في ذهني، ولطالما أزعجتني، وربما أبرزها كان أحد العميان الذين التقيتهم، والذي كان يستعين بالمبصر ليقرأ له ما يقرأه برنامج قارئ الشاشة، رغم أنه عندما يسأل المبصر يكون معتمدًا عليه، وحين يطلب من قارئ الشاشة يكون قد حقق جزءًا من الاستقلالية الذاتية التي وهبته إياها التكنولوجيا.
وفي هذا السياق، أنا لا أعني الأعمال التي لا يمكن للكفيف أداؤها، كالتي تستوجب رسومًا أو رموزًا بصرية مثلًا، بالطبع لا، لكن: إن كانت التكنولوجيا لا تفرق بين مبصر أو أعمى للحد الذي لا يمكن وصفه، فلِمَ يبحث بعض العميان عن التفرقة والتمييز لهم، فقط لكونهم عميانًا؟
مثلًا: لا يزال بعض العميان يرون أن حياتهم العلمية إنجاز يجب للمجتمع الافتخار به، رغم أن التكنولوجيا وفرت كل ما في وسعها لتجعل الدراسة والحياة العلمية مشابهة تمامًا لحياة المبصر، التي فيها السهولة والصعوبة، لكنها حتمًا ليست تحديًا، رغم أنه يجب علينا كعميان أن نتجاوز فكرة العيش، ونواجه فكرة الحياة.
وبما أننا تطرقنا إلى المجال الدراسي، ففي الجامعة مثلًا لا تنتهي المواقف عند هذا الحد، بل إن هناك من إذا واجه بعض المواد التي يكثر فيها وجود الأشياء البصرية، يطلب من الدكتور أن يلغي عنه هذه المواد بشكل نهائي، بدل أن يستبدلها بشيء نظري.
أما على صعيد المجتمع، فهو ليس بريئًا أيضًا، كونه لا يزال ينظر إلى الأعمى على أنه أعمى (أعمى بجميع الحواس). مثلًا، أذكر أني عندما كنت أذهب إلى مكان ما بصحبة أحد المبصرين وأسأل البائع أو صاحب المكان، فإنه بدوره يستفسر من المبصر المرافق لي بشأن أمر يخصني أنا، وهو الشيء الذي إن دل فهو يدل على قلة الوعي لدى البعض.
وفي هذا، فأعتقد أنا، ومن خلال تجربتي، أن المجتمع ينقسم إلى ثلاث فئات:
- الفئة الواعية: وهي فئة قليلة جدًا، وعيها هو نتيجة معايشتها لشخص أعمى قادر على الاكتفاء بذاته، أو ربما لبيئة هذه الشخصية الواعية.
- الفئة التي تراها مبالغة: وهي التي لا تدرك أن الأعمى كليًا لا يمكنه رؤية الألوان، فنراها تسأل عن أشياء بديهية، وتعتقد أن الأعمى إنسان يبالغ ولا حاجة لكل هذا الكلام.
- فئة التقليل: وهي فئة تقلل من قدرات الأعمى، وتحاول ربط كل شيء بالشفقة والرحمة الكاذبة والحب المضلل، فبدل أن يحمل الأعمى حاجياته بنفسه مثلًا، يحاولون تقديم المساعدة (ليس من منطلق المساعدة، وإنما من منطلق الشفقة)، ويحاولون التعامل مع الأعمى باعتباره غير قادر تمامًا.
«لا تقولين عميان»
لا أنسى عندما كنت في المرحلة الثانوية، وكنت أبحث في ساحة المدرسة (التي تضم العميان وضعاف البصر) عن بعض الأصدقاء العميان، فكنت أنادي إياهم: «عميان، وينكم؟». لتأتي إحدى المعلمات وتلقي محاضرة لا تخلو من الشفقة: «لا تقولين عميان، ليش جذي؟ ما يصير». فأذكرها بأنها كلمة «ما تزعل».
كان النقاش بلا قيمة، ورغم أن الوقت مضى، فإني لا أزال أتذكره: لِمَ كل هذا الانزعاج من كلمة لا تزعج صاحبها؟
وعد العازمي