سيرة البراحة: من المركز الاجتماعي إلى عصر الأفول
المدينة ليست مجرد مبان وساحات تخلو من الروح، بل كيان عضوي تتغير فضاءاته عبر الزمن. وفي تتبعنا هذه التغييرات الدائمة من خلال قراءة الأحداث المختلفة التي تؤثر على شكل هذه الفضاءات وطبيعتها، قد نستطيع في نهاية الأمر سرد حكاية المكان، وكيف تتشكل هويته الاجتماعية والثقافية كلما أسبغ عليه الإنسان معنى جديدًا يناسب مفاهيمه في هذا الزمان أو ذاك. «البراحة» واحدة من تلك الأماكن التي تعد جزءًا مهمًا، يؤثر ويتأثر بالإنسان الكويتي.
البراحة: مركز اجتماعي
البراح في اللغة هو المتسع من الأرض، لا زرع فيه ولا شجر. والبراحة أو البرايح في لسان الكويتيين «تُطلق على الأرض المتسعة بين البيوت، فكان البراح بالفصحى يتساوى مع البراحة في العامية وينوب عنها». ومن حيث صفتها، فالبراحة في مدينة الكويت قبل اكتشاف النفط كانت عبارة عن ساحة عامة مفتوحة، غير منتظمة الشكل، تشكلت تلقائيًا استجابة لشكل المدينة العفوي، وطبيعة تشييد البيوت المتلاصقة عالية الأسوار في هذا المجتمع المحافظ.
تتكون البراحة عادة من تلاقي الشوارع الرئيسية لعدة فرجان (أزقة) بساحة تحيط بها البيوت. وعادة ما تسمى البراحة باسم منزل العائلة التي يطل عليها. وتختلف البراحة في المدينة القديمة بأشكالها وأحجامها، فبعضها مجرد ساحة فارغة، وبعضها يحوي مسجدًا فقط، والبعض الآخر مسجدًا وبضع دكاكين صغيرة تخدم أفراد الحي.
لم تكن البراحة جزء من النسيج الحضري للمدينة فقط، بل كانت جزء من الكيان والوجدان الاجتماعي للمجتمع، تشكله تارة، ويشكلها تارة أخرى.
كانت البراحة مركزًا اجتماعيًا مهمًا يتوسط الأحياء السكنية. إذ أنها مجال للتنفيس عن ضيق المنازل التي كانت في ذلك الزمان صغيرة. وهي مكان التقاء وتجمع الرجال في فترة العصر لتبادل الأحاديث والأخبار، حيث يجلسون على «الدجة» (المصطبة/الدكة) أمام بيوتهم المطلة على البراحة.
كانت أيضًا مكانًا للعب الأطفال من الأولاد والبنات، حيث كانت تمارس العديد من الألعاب الشعبية كالحيلة (الحجلة)، والدرباحة، أو لعبة «طاق طاق طاقية». وحتى النساء كن جزءًا من هذا الفضاء، إذ كن يبعن السمسمية لأبناء الحي، ويجلسن مع بعض البائعات عند البراحات ومفترق الطرق لبيع السبال (الفول السوداني) وشعر البنات، كمصدر دخل إضافي لهن.
بالإضافة إلى ذلك، كانت البراحة مسرحًا للأنشطة الدينية والمناسبات الاجتماعية. ففي شهر رمضان كان «أبو طبيلة» (المسحراتي) يطوف البراحات والأزقة وقت الأسحار ضاربًا بطبلة ليوقظ الناس منشدًا: «لا إله إلا الله محمد رسول الله، اصحى يا نايم واعبد ربك الدايم، قوم صلِّ قوم واتسحر بالمقسوم». وفي العيدين (الفطر والأضحى) تُنصب الألعاب والمراجيح وسط البراحة لإمتاع الأطفال، وأحيانًا حفلات العرس الذي تؤدَّى فيه رقصة «العرضة»، وهي رقصة تؤديها فرقة من الرجال فقط في ساحات الحي عند كل مناسبة أو عطلة.
كانت البراحة من الأهمية لدى المجتمع حد أنها أصبحت جزءًا من المحكي والشعبي، فبعض أهازيج الأولاد وألعابهم تحتوي على كلمة براحة مثل: «خروف مسلسل هِدوه، تراه ياكم هِدوه، في ريله قراحة هِدوه، وسط البراحة هدوه». ومن العادات التي كانت تأخذ مكانها في البراحة اجتماع الفتيات الصغيرات، ثم الطواف على المنازل يطرقن الأبواب وهن يدعين لنزول المطر منشدات «أم الغيث غيثينا».
لم تكن البراحة في تلك الفترة الزمنية جزءًا من النسيج الحضري للمدينة فقط، بل كانت جزءًا من الكيان والوجدان الاجتماعي للمجتمع، تشكله تارة، ويشكلها تارة أخرى. إلا أن هذه الطبيعة المكانية والاجتماعية تغيرت بعد اكتشاف النفط وبناء المدينة الحديثة، لتتولد ثقافة براحة جديدة ومغايرة تناسب صورة المجتمع الحديث لما بعد النفط.
البراحة: مسرح اللعب
مع إنشاء المناطق السكنية الجديدة في مطلع الخمسينيات، باتت الفضاءات العامة المفتوحة فيها منظمة الشكل ومحددة الوظيفة، فاختفت البراحة كما عُرفت من نسيج المدينة وأعيد تشكيلها. ظلت مفردة البراحة متداولة بين الناس لوصف أي مساحة خالية بين المنازل في المناطق السكنية الجديدة، إلا أن هذه المساحات غالبًا ما وُجدت نتيجة بعض الأخطاء في التخطيط العام للضاحية، أو توزيع خاطئ للسكن، مما أدى إلى توفر أراض خلاء في المنطقة، وهي أراض أغلبها تعود ملكيتها إلى الأفراد أو الدولة ولم تخضع للتطوير. وعادة ما تقع هذه المساحات بين المنازل، أو قرب مباني الخدمات، أو بالقرب من الحدائق العامة، أو على الامتداد الفاصل بين المنازل والطرق المحيطة بالمناطق السكنية.
وإن كانت البراحة في المدينة القديمة مركزًا اجتماعيًا للجميع، فقد أصبحت بعد ظهور المدينة الحديثة مكانًا يتخذه الأولاد عادة للعب، وهم من كونوا ثقافة براحة جديدة تختلف عن سابقتها، فارتبطت ارتباطًا وثيقًا بطبيعة لعبهم. ولم تغب الفتيات عن ارتياد البراحة تمامًا، إلا أن استخدامهن لها كان منوطًا بشروط معينة، منها أن تكون البراحة لصيقة أو قريبة من المنزل. ولم يكن شرط كهذا متوفرًا على الدوام أمام كل منزل في المنطقة السكنية، وذلك لاختلاف طبيعة توزيع المنازل ما بين منطقة وأخرى.
بحسب الاستبيان الذي أجريته، كان للعب الفتيات سقف عمر معينًا (7-9 سنوات)، يُمنعن بعده من اللعب في الخارج حتى وإن كانت هناك براحة قريبة من منازلهن. وهذا لم يكن يجري في حال الأولاد، إذ ليست هناك من شروط تمنعهم عن اللعب في الخارج. فيُسمح لهم باللعب في أي براحة، قريبة كانت أو بعيدة. وبهذا أصبحت البراحة مكانًا يرتاده الأولاد أكثر من البنات. فالبراحة في المدينة القديمة كانت ضمن نطاق حضري أصغر مقارنة بالمناطق السكنية الجديدة، إذ أن الأحياء كانت قريبة من بعضها ويعرف الناس بعضهم بعضًا جيدًا، مما أوجد حسًا اجتماعيًا حميميًا، وشعورًا بالأمان للعب في الخارج.
لكن في المدينة الحديثة، ابتعد الناس عن بعضهم في بيوت منفصلة ومناطق سكنية مختلفة ومتباعدة. ومع وجود الشوارع الواسعة والمركبات وطبيعة المعتقدات الاجتماعية المحافظة التي تظن بضرورة حماية المرأة، أصبحت المساحات العامة المفتوحة غير الرسمية كالبراحة خاصة بالرجال.
غدت البراحة مسرحًا للعب وتطوير المهارات الاجتماعية للأولاد، الذين شكلوا ثقافة خاصة بهم وُلدت معها لغة فريدة ونظام أخلاقي غير معلن. فلكل مجموعة من الأولاد براحة متعارف عليها في المنطقة السكنية الواحدة، يقع عليها الاختيار عادة لقربها من منزل أحدهم، أو لسهولة الوصول إليها مشيًا. يتخذونها ساحة خاصة بهم، لا يمكن لأي مجموعة أخرى اللعب فيها إلا بعد دعوتهم. وهذه المساحة المختارة تسمى عادة إما برقم القطعة التي تقع فيها، فيقال مثلًا: براحة قطعة 2، أو حسب وظيفة المبنى القريب منها، فيقال: براحة الفرع، أو براحة المسجد، إلخ.
في مقابلتي مع أحدهم حول مسمى البراحة التي كان يرتادها، قال لي: «كنا نسميها براحة النزلة لأنها محاطة بمطلع ترابي يفصلها عن الطريق السريع». وتتراوح أعمار مرتادي البراحة ما بين السابعة إلى الثامنة عشرة، وأحيانًا حتى بلوغهم العشرين سنة. وعادة ما يرتاد الشاب منهم البراحة بعد انتهاء اليوم الدراسي من العصر إلى الليل (9 مساءً عادة).
قال لي آخر حول ذلك: «كنا نعود عند التاسعة تقريبًا، وكنت أرتعد من الخوف عندما أعود متأخرًا من أن يصرخ فيَّ أبي أو يضربني».
كرة القدم نجمة البراحة
كرة القدم هي اللعبة الأساسية التي يمارسها الأولاد في البراحة، إلى حد صار معه من المستحيل أن نذكر البراحة دون ذكر هذه اللعبة. وسبب ذلك، من وجهة نظري، أن النهضة العمرانية التي شملت البلاد رافقتها نهضة في شتى المجالات، منها المجال الرياضي. فجاء جيل من اللاعبين ممن تركوا أثرًا واضحًا على جيل الشباب، الذي كان يتطلع إليهم كقدوة، فيحاكون طريقة لعبهم أثناء اللعب في البراحة، ويرتدون قمصان لاعبيهم المفضلين، وما إلى ذلك.
للبراحة تأثير على كرة القدم أيضًا، فبعض اللاعبين المحترفين في الكويت كانت بداياتهم في البراحة، كما ذكر المعلق الرياضي الشهير خالد الحربان في إحدى مقابلاته. هذا بالإضافة إلى أن البراحة كانت المكان الذي يلجأ إليه كشافو المواهب لإيجاد لاعب واعد، وضمه رسميًا لنوادي كرة القدم المختلفة في الكويت.
لم يكن لعب كرة القدم في البراحة نظاميًا، وحول ذلك يخبرني أحد لاعبي البراحة بأن «المباراة تنتهي إذا أظلمت الدنيا، والبلنتي ينحسب إذا حلف الشخص»، فلا يوجد حكم يدير المباراة. أما الملعب فكان يحدَّد بتحديد مكان المرمى، الذي يتكون من علامة توضع من أي مادة متوفرة كالحجارة أو العصي، أو حتى فردتي حذاء على طرفي البراحة أيًا كان حجمها.
تمتد المباريات بين الفرق من أبناء الحي طوال اليوم، أو بين أبناء القطع المختلفة داخل المنطقة السكنية الواحدة. بل تُنظّم دوريات كروية غير رسمية بين المناطق السكنية المختلفة، بعد الاتفاق ضمنيًا على براحة معينة تستضيف المباريات. قال لي أحد مرتادي البراحات عن ذلك: «أتذكر يوم نظم الكبار دوريًا لم نشارك به لصغر أعمارنا آنذاك، أتذكر أننا جلسنا ومعنا الكثير من الناس ممن تجمهروا لمشاهدة اللعب».
مع ذلك، لم تكن كرة القدم هي اللعبة الوحيدة وإن كانت الأساسية في البراحة. إذ يلعب الأولاد الغميضة، ولعبة التيل (كرات زجاجية صغيرة تُضرب بطرف الإصبع)، وأحيانًا يمارسون صيد الطيور، أو ركوب الدراجة الهوائية التي، وكما قالت لي إحداهن ممن أتيحت لها فرصة اللعب في البراحة، كانت تمثل لها «سرعة وحرية لا تُنسى».
أيضًا اللعب بالرمال واستخدام الخيال لبناء قصور رملية، أو حتى مجرد التجول في البراحة قد يكون عند بعضهم محفزًا لاستكشاف الطبيعة، إذ يوضح لي أحدهم قائلًا: «كنا أنا وابن اختي وبنت خالتي نتجول في البراحة، نكتشف أنواع الصخور الموجودة، ونرسم على الرمل». ورغم كون البراحة مساحة من الخلاء، فإنها كانت فسحة يتواصل فيها الأطفال مع الطبيعة وإن كانت فقيرة، وسط مباني وشوارع المدينة الحديثة. لهذا بإمكاننا القول إن البراحة ليست مكان اللعب وحسب، بل المكان الذي تُصقل وتتشكل فيه شخصيات الأفراد كما كتب لي أحدهم في الاستبيان: «البراحة هي المكان الذي كوَّن وشكل شخصيتي في شبابي ومراهقتي».
البراحة: عصر الأفول
دشن منتصف الثمانينيات دخول الألعاب الإلكترونية إلى الكويت بكمبيوتر صخر، أول الحواسيب التي استخدمت اللغة العربية، ثم تلاه ننتيندو (1991) وسيغا (1992)، ليتوجا الحقبة بدخول بلايستيشن عام 1995. توالي ظهور هذه الأجهزة غيَّر تدريجيًا من مظاهر وطبيعة اللعب، فلم يعد اللعب في البراحة هو النشاط الوحيد المتاح للترفيه، بل هنالك العديد من الألعاب الحديثة والممتعة التي تقدمها هذه الأجهزة، والتي أصبح اللعب بفضلها موزعًا ما بين البراحة والأجهزة الإلكترونية داخل المنزل.
لم تكن الألعاب الإلكترونية المتغير الوحيد الذي أثر على استخدام البراحة، فالنسيج الحضري المتغير للمدينة كان له أثر كذلك. على سبيل المثال، ظهور المجمعات التجارية الكبيرة التي تحوي العديد من الأنشطة الترفيهية، كدور عرض السينما والساحات الخارجية والمطاعم المتنوعة التي يمكن ارتيادها في مكان واحد، سرق الأضواء من البراحة، فجعل من المساحات الداخلية والأنشطة الجديدة أكثر متعة وتسلية.
علاوة على ذلك، لم تعد المساحات المفتوحة في المناطق السكنية متوفرة كما كانت في بداية نشأة المدينة. فمع الأزمة المتصاعدة للإسكان في الكويت، اضطرت الدولة إلى توفير أكبر عدد من المنازل في المناطق السكنية الجديدة على حساب المساحات العامة، فاستغلت كل مساحة متوفرة للسكن، مما أدى إلى انحسار البراحات.
هذا بالإضافة إلى توسع الدولة في إنشاء مناطق سكنية جديدة بعيدة عن أماكن التجمع السكني المعتادة، مما يعني تباعدًا أكثر عن سابقه بين أفراد العائلة من جهة والجيرة من جهة أخرى. على إثر ذلك، لم يعد اللعب في البراحة آمنًا كما كان. أما لعبة كرة القدم التي كانت المحرك الأساسي لثقافة البراحة سابقًا، فقد أصبحت بعد كل هذه التغييرات نشاطًا ثانويًا لا يفضله الجميع، وبات من السهل مشاهدة المباريات المنقولة عبر التلفاز والقنوات الفضائية، وبات بمقدرة الشبان أن يلعبوا فرادى وجماعات في المنازل باستخدام الألعاب الإلكترونية.
منذ أصبحت التكنولوجيا جزءًا كبيرًا من الحياة اليومية، انخفض الاهتمام بالأماكن الخارجية من قبل الأفراد، إلى أن صارت البراحة مجرد ذكرى عابرة.
توفرت ملاعب جاهزة ومخصصة للعب يمكن تأجيرها، فحلت محل البراحة. ومن بين الأسئلة التي طرحتُها في الاستبيان سألت عن الأسباب التي أبعدت الناس عن البراحة، فكانت الإجابات غالبًا ما تشير إلى التقدم في العمر، وتغير الاهتمامات أو تغيير مكان الإقامة، أو أن البراحة لم تعد بذات اللذة والأهمية. كما أشار البعض إلى الارتفاع الشديد في درجات الحرارة عبر السنوات، وأنه سبب يجعل اللعب في الخارج صعبًا.
تغيرات كهذه في الظروف الخارجية وشكل المدينة أثرت بدورها على طبيعة المجتمع. فالجيل الذي كان يلعب بشكل يومي في البراحة وشكَّل ثقافتها تقدم في العمر، وجاء بعده جيل مختلف تمامًا في اهتماماته عن سابقه. مع ذلك، لم ينقطع اللعب في البراحة تمامًا، فمن خلال المقابلات التي أجريتها، أستطيع القول بأن ارتياد البراحة استمر بصورة متقطعة إلى عام 2011 تقريبًا، وإن كان بوتيرة أقل عما في السابق.
فمنذ أصبحت التكنولوجيا وأدوات الترفيه جزءًا كبيرًا من الحياة اليومية، انخفض الاهتمام بالأماكن الخارجية من قبل الأفراد، إلى أن صارت البراحة، التي كانت مساحة للعب الأولاد والبنات في يوم ما، مجرد ذكرى عابرة.
البراحة: مكان بلا ذاكرة
لم تعد البراحة اليوم مقرونة باللعب كما كانت، بل أصبحت الفضاء الأمثل للأفراد والجماعات لممارسة أنشطة مؤقتة من مناسبات اجتماعية وسياسية تتطلب جمعًا غفيرًا من الناس، كاستخدامها في صلاة العيد إن كانت قريبة من المسجد، أو كمقر انتخابي، أو لإقامة الأعراس. وبات القليل من تلك البراحات المتبقية يستخدم كمكان لركن مركبات الطعام المتنقلة، التي تنتشر اليوم في أنحاء المناطق السكنية.
بل وغدت البراحة المكان الأمثل لركن سياراتنا. تقول لي إحداهن ضاحكة عندما تركتُ سؤالًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن معنى البراحة: «البراحة هي أي مكان أستطيع فيه ركن سيارتي». ما زالت كلمة براحة تُتداول في اللهجة العامية، إلا أنها لم تعد تعني أي شيء، لا مركزًا اجتماعيًا، ولا مسرحًا للعب، بل أصبحت مجرد كلمة لوصف أي ساحة مفتوحة.
البراحة حالة تدعو إلى التأمل في كيفية تحور الفضاء عند تغير الظروف المحيطة به، وكيف يمكن لمكان، حتى وإن غاب عن أعيننا، أن يسكن الفكر الجمعي للمجتمع ويتغير به ومعه. فالبراحة من العناصر القليلة جدًا التي انتقلت من نسيج المدينة القديمة إلى المدينة الحديثة، إلا أن انتقالها هذا كان اجتماعيًا، من خلال الأفراد الذين اختاروا هذه المساحات المفتوحة وبنوا فيها ثقافة جديدة. ورغم غيابها اليوم، فإنها ما زالت جزءًا من طريقة تعريفنا ووصفنا للمكان.
إن محاولة سرد سيرة البراحة ومحاولة تفسير ميلادها وأفولها ما هو إلا سرد لحياتنا الخاصة. ومن خلال هذه السيرة قد نتعرف إلى ذواتنا، ونعيد تعريفها. وما عرض حكاية البراحة ببكاء على الماضي، بل هو دعوة للتأمل في المساحات والفضاءات من حولنا، لنتساءل: ما هي الفضاءات التي ما زلنا نحملها معنا؟ وكيف تحورت وتغيرت، أو إن جاز لنا القول، غابت؟ والسؤال الأهم: هل يوجد لدينا اليوم هذه الحميمية الاجتماعية لمكان ما يمكن لنا أن نورثه للمستقبل؟
مها الشمري