سيرة الخبز في الكويت: من الوصم الاجتماعي إلى المقاومة الشعبية

يوسف السنافي
نشر في 2018/12/12

التصميم: منشور

هذا الموضوع جزء من ملف مشترك عن الخبز، تعده ثماني مؤسسات إعلامية مستقلة هي «منشور»، و«الجمهورية»، و«حبر»، و«مدى مصر»، و«كُحل»، و«المفكرة القانونية»،  و«صوت»، و«ميغافون».


لطالما كان الخبز الصنف الوحيد من الأطعمة الذي ارتبط تاريخيًّا بالانتفاضات الشعبية على مستوى العالم. كان رمزًا شبه دائم للمطالبات الاجتماعية بتحسين الأوضاع الاقتصادية والعدالة، لكنه ليس كذلك في شبه الجزيرة العربية، أو لم يكن كذلك حتى غزو الكويت عام 1990.

تاريخيًّا، يأتي التمر قبل الخبز في حياة أهل الخليج، لأنه مناسب أكثر لنمط الحياة الصحراوي المعتمد على السفر طويلًا لكسب الرزق، سواء في البر أو البحر، لذلك لم تحظَ عملية صناعة الخبز بتقدير أو اهتمام، ولم يكن رمزًا لأي شيء، ثم جاء احتلال الكويت ليغير من هذه المعادلة.

نحاول هنا رصد علاقة الخبز بالطبقية والتطور الحضاري والأزمات السياسية في الكويت، باعتبارها الدولة الخليجية التي مرت بتطورات جوهرية في مسار علاقتها بالخبز.

العمل اليدوي وصمًا

يقوم المجتمع الحضري في شبه الجزيرة العربية على مجموعة من المفاهيم المستمَدة من البداوة، تذهب هذه المفاهيم إلى احتقار الصناعة والعمل اليدوي.

لو أردنا تتبع فكرة الاحتقار هذه، نجد أنها تنطلق من تاريخ الغزوات القبلية القديمة، حين كانوا يحولون أسرى الغزوات إلى عمال للقبيلة المنتصرة، يصنعون سيوفهم ويسُوسون خيلهم ويخدمونهم، وإن اختلف شكل هذه الفكرة بالتطور الحضاري.

أحد أسباب استمرار هذه المفاهيم كان تأبيد الحالة الطبقية، إذ يظل العامل اليدوي عاملًا يدويًّا إلى الأبد، هو وأبناؤه وأبناء أبنائه من بعده، حتى لو لم يمارسون ذلك العمل. وهناك عائلات حملت أسماء تدل على العمل اليدوي، مثل «الصانع» و«القطان» و«الحداد» و«النجار».

هكذا، يكسب الآخرون الذين لا يعملون بأيديهم شعورًا بالامتياز والاستحقاق لا يتخلون عنه بسهولة.

إذًا، ارتبطت الأعمال اليدوية بطبقات معينة، واختلطت هذه الطبقات مع مجموعات عرقية أخرى كالفرس أو الأفارقة الذين كانوا يعيشون في شبه الجزيرة، ما ينزع عنهم صفة «الأصالة». وانسحب احتقار العمل اليدوي على أبناء القبيلة ممن كانوا يختارون الابتعاد عن المشاركة في الغزوات، والاكتفاء بمساندة القبيلة «لوجستيًّا» عن طريق الصناعة وغيرها من الأعمال اليدوية.

تحوُّل إنسان ما من «سيد/أصيل» (لا يعمل بيديه) إلى «صانع» (سواءً نتيجة الأسر والغزو أو خياره الشخصي) يترتب عليه العزل الاجتماعي، فلا يتزوج من أبناء «السادة/الأصلاء».

ذكر لي أحد الأصدقاء ممن يؤمنون بهذه الثنائية أن جده لأبيه فضَّل السفر والغوص في البحر، مع صعوبة الأمر، على أن يعمل بيده، رغم أن العمل متوفر وقد يكون أنفع ماديًّا.

لم يكن الخبز الغذاء الأساسي في شبه الجزيرة، لأن أغلب السكان كانوا يفضلون التمور.

يبدو أن التسامح مع العمل البحري يكمن في أن العامل يبقى على ظهر السفينة حُرًّا وغير خاضع لسيد آخر. يحكي عادل محمد العبد المغني، في كتابه «الاقتصاد الكويتي القديم»، أن اقتصاد الغوص للبحث عن اللؤلؤ كان قائمًا على فكرة الاستدانة أو القرض. فبدخول موسم الغوص (الدشَّة في اللهجة المحلية)، كان العامل على ظهر السفينة يستدين من أحد التجار أو «النواخذة» (ربان السفينة)، ليوفر مبلغًا ماليًّا لعائلته يكفيها طوال فترة غيابه، على أمل أن يكون موسم الغوص مثمرًا. وكلما زاد الربح من بيعه ارتفعت أرباح الغواصين، إذ يبلغ نصيب رحلة الغوص الواحدة ثلاثة أسهم، وهو مساوٍ لنصيب النواخذة.

صناعة الخبز في الكويت

لوحة «تنور خبازة الحي» للفنان الكويتي أيوب حسين

انعكس تحقير العمل في الصناعة على الصناعات الأساسية في التاريخ الكويتي، مثل صناعة الخبز.

اللافت أن الخبز لم يكن الغذاء الأساسي الذي يعتاش منه أهل شبه الجزيرة بشكل عام، لأن غالبية السكان الذين كانوا يعتمدون السفر والرحيل نمطًا لكسب الرزق، سواء في الصحراء أو البحر، كانوا يفضلون التمور على غيره من الأطعمة، لأن التمر لا يتعرض للتلف إذا خُزِّن لفترات طويلة، وقيمته الغذائية أعلى، وزراعته في شبه الجزيرة العربية أكثر انتشارًا، بسبب تحمُّل النخيل درجة الحرارة المرتفعة وصلاحية التربة لزراعتها.

في كتابه «تاريخ الكويت الحديث»، يذهب المؤرخ أحمد مصطفى أبو حاكمة إلى أن نشأة الكويت كانت نحو عام 1750 من الميلاد. ومنذ هذا التاريخ حتى الاستقلال عام 1961، لم تكن هناك سوى أسرة كويتية واحدة عملت في صناعة الخبز، عُرفت باسم «الخباز». أصول هذه العائلة لا ترجع إلى شبه الجزيرة العربية، بل إلى بلاد فارس.

عُرف خبز العجين باسم خبز «التنور»، الذي يحتاج إلى أفران كبيرة، ويتكون من الدقيق والماء والملح والخميرة والسكر، إلى أن عُرِف لاحقًا وحتى الآن بـ«الخبز الإيراني»، لأن أغلب من يصنعونه من الوافدين الإيرانيين.

للفنان التشكيلي الكويتي الراحل أيوب حسين، المعروف بتصويره بيئة بلده، لوحة بعنوان «تنور خبازة الفريج (الحي)»، تصور فرن المرأة التي يقصدها الناس لتخبز عجينهم.

يمكن القول، من خلال الشرح الوجيز الذي قدمه أيوب حسين للوحة، أن تحضير خبز العجين لم يكن معروفًا في بيوت الكويتيين، بل كانت تلك المهمة تُحال إلى طبقات دون الطبقة المسيطرة. بينما كان الخبز المُحضَّر في المنازل بواسطة الكويتين أنفسهم يسمى «الرقاق»، ويكوَّن عادةً من الدقيق والماء والملح.

الخبز والرفاه

يمكن لمن يتتبع سيرة شركة المطاحن أن يتخذ من حالتها مؤشرًا للرفاه وحالة الطبقية في المجتمع الكويتي.

من أجل توفير سبل الراحة والرفاه، أنشات الحكومة شركة المطاحن الكويتية في عام الاستقلال، ترسيخًا لفكرة الأمن الغذائي.

مع الاستقرار السياسي الذي عاشته الكويت (باستثناء «حادثة الصامتة» عام 1973، حين هاجم الجيش العراقي مركز الصامتة الحدودي التابع للكويت، وكذلك الغزو العراقي للكويت عام 1990)، تعدت الشركة حالة توفير الأمن الغذائي إلى توفير الرفاه للمجتمع الكويتي. ففي 1969، أنشئ مصنع للمعكرونة، وفي 1970 شُيِّد آخر للبسكويت، وبعد ذلك بست سنوات مصنع للزيوت النباتية كان الأول من نوعه.

بمرور السنوات تنوعت منتجات شركة المطاحن في ظل وجود عدد من  المصانع: المطاحن، والمعكرونة، والبسكويت، والزيوت النباتية، والمخبوزات العربية، والمخبوزات الأوروبية، والمخبوزات الخالية من الغلوتين.

تأتي الزيادة في المصانع وتنوُّع المخبوزات، مع الاستقرار السياسي وارتفاع الطلب على السوق الكويتية، نتيجة السفر والتغيير في أسلوب الحياة التي يعيشها الكويتيون.

انتشرت مطاعم الوجبات السريعة، وارتفعت حالات السمنة حتى وصلت الكويت إلى المرتبة الأولى عربيًّا والثانية عالميًّا، الأمر الذي واكبه صعود موازٍ للأندية الرياضية وعمليات التنحيف وارتفاع نسبة الساعين إلى تخفيض أوزانهم، ووقتها وفرت شركة مطاحن الدقيق منتجات من الدقيق الأسمر. يمكن لمن يتتبع سيرة شركة المطاحن أن يتخذ من حالتها مؤشرًا للرفاه وحالة الطبقية في المجتمع الكويتي. لكن مسيرة الخبز في الكويت لم تكن خالية من العوائق، فقد واجهت عددًا من الأزمات لأسباب مختلفة.

الخبز والاحتلال

الأزمة الكبرى التي واجهت صناعة الخبز في الكويت كانت مرتبطة بأزمة أكبر: الغزو العراقي. فباستيلاء القوات العراقية على مفاصل الدولة عام 1990، امتدت أذرعها إلى مصانع شركة مطاحن الدقيق ومستودعاتها.

الفكرة الأساسية من إنشاء شركة مطاحن الدقيق كانت توفير الأمن الغذائي، وهكذا صار هذا الأمن عُرضة للخطر.

في لقاء مع مجلة «العربي»، يروي مطلق الزايد، رئيس قسم التسويق في شركة مطاحن الدقيق آنذاك والرئيس التنفيذي الحالي، أنه على الرغم من سرقة القوات العراقية جزءًا كبيرًا من الدقيق الكويتي، استطاعت شركة المطاحن تسيير العمل طوال فترة الاحتلال، فقد وزعت غالبية منتجاتها من طحين وزيت وبسكويت بشكل سريع على الجمعيات التعاونية والمواطنين، بذريعة أن هذه المواد بيعت وذهبت إلى مشتريها.

صار التطوع في المخابز إبان الاحتلال مقاومة، والعمل الذي كان مدعاة للتصغير أصبح يبعث على الفخر.

واجهت الشركة أزمة أخرى حين عادت العمالة الوافدة التي تعمل في الشركة إلى أوطانها نتيجة الغزو. كان حل الأزمة في الاستعانة بمجموعة من المتطوعين غير المختصين من الشباب الكويتي. تعرض هؤلاء لجميع أنواع الضغوط والمضايقات على يد قوات الاحتلال، إلى حد تهديدهم بالإعدام الميداني بتهمة تزويد المقاومة الكويتية بالخبز.

يقول أحد أفراد المقاومة آنذاك لـ«منشور»: «بعض الذين تطوعوا في الخَبز والتوزيع على الصامدين في الكويت تعرضوا للتعذيب في المخافر على أيدي القوات العراقية، وبعضهم اعتُقِل لفترة ثم أُطلِق سراحه بعد التعهد بعدم تكرار ذلك. لم يكن الأمر سهلًا، ليس مجرد صناعة خبز».

اتخذ التطوع في المخابز الكويتية إبان الاحتلال شكلًا من المقاومة المدنية، وأصبح هذا العمل الذي كان يومًا ما مدعاة للتصغير والتحقير، أمرًا باعثًا على الفخر والاعتزاز.

استمر الوضع حتى بداية عملية «عاصفة الصحراء» في يناير 1991، إذ يذكر صلاح الكليب، العضو المنتدب لشركة المطاحن آنذاك، أنه مع بدء العملية (استمرت 40 يومًا) توقف الإنتاج في شركة مطاحن الدقيق تمامًا، ونتيجة لهذا تعاقدت الحكومة الكويتية مع شركة سعودية لتزويد المواطنين بالخبز مجانًا طوال مدة العملية، واستمر ذلك حتى التحرير.

20 مليون رغيف يوميًّا

حين وقعت الأزمة الاقتصادية العالمية في 2007، وبدأ الارتفاع الجنوني في الأسعار، حافظت الكويت على الدعم الحكومي للخبز تطبيقًا لفكرة الحفاظ على الأمن الغذائي.

بسبب وجود المصانع المحلية، ظلت صناعة الخبز مستمرة حتى في عام 2011، حين نظم نحو ثلاثة آلاف عامل في الجمارك إضرابًا تسبب في تدكيس 290 شاحنة و750 سيارة في منفذ السالمي، وتوقف جمرك المطار بشكل كامل، وعدم الإفراج عن أي إرسالية باستثناء الأدوية والمواد سريعة التلف.

وقتها، علقت 16 باخرة تحمل النفط والبتروكيماويات والإسمنت وأحجار البناء وغيرها من البضائع في مواني الشعيبة والأحمدي وعبد الله والزور والشويخ، وهذا الشلل في منافذ الدولة واستيراد السلع أثَّر في وجود الغذاء بالجمعيات التعاونية وتوفره للسكان وأسعاره، لكنه لم يؤثر في توفُّر الخبز.

يبلغ وزن كيس الخبز في الكويت 375 غرامًا، ويحتوي على 6 أرغفة، وسعره 50 فلسًا (نحو 17 سنتًا أمريكيًّا). وفي عام 2012، بلغ الاستهلاك اليومي للخبز المدعوم 20 مليون رغيف، يستفيد منها جميع الطبقات الاجتماعية من مواطنين ومقيمين.

اتجهت الحكومة الكويتية إلى رفع الدعم عن الديزل والكيروسين في 2015، لكنها حذرت المخابز الأهلية التابعة للجمعيات التعاونية من رفع السعر نتيجة ارتفاع أسعار الكيروسين والديزل، وأغلقت بعض المخابز الأهلية التي رفعت الأسعار.

ليس الخبز مجرد دقيق وماء وبعض المكونات الغذائية، ولطالما كان معبرًا عن الحالة الاجتماعية في الكويت والوضع الطبقي وقوة سياسة الدولة في وضع الخطط لمواجهة الكوارث. هذا الرغيف الأبيض الصغير الذي تقضمه في صباحك يحكي لك كثيرًا من الأمور عن حياة الأفراد وحكايات المجتمع ووضع البلاد.

يوسف السنافي