الوجه الآخر للوعي: ترويه نساء مُعنفات
«شو بدي أرفض يعني هاي أسرار عسكرية؟»، هكذا تشير رشا بلهجة مستنكرة إلى رفض بعض النساء العربيات المشاركة بالحديث عن الخوف حيال العنف الذي يمارَس ضدهن، معتبرةً أن هذا الرفض في حد ذاته دليل على الخوف الناتج عن العنف.
تسجل النساء المعنفات نسبًا مرتفعة في معدل الإصابة بمشكلات صحية مثل الإجهاض وأمراض نفسية وعضوية، والسلوك الخطِر مثل الميل لإيذاء النفس، والأفكار الانتحارية مقارنةً بغير المُعنفات، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
تعرِّف الأمم المتحدة العنف القائم على النوع الاجتماعي بأنه «أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه، أو يرجح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة».
من داخل صندوق اسمه «العيب»
تعيش رشا (35 عامًا) في إحدى ضِياع مدينة طرابلس اللبنانية، تزوجت قبل أن تتم السابعة عشرة من عمرها، ولم تستطع أن تكمل تعليمها، لكنها تعلمت كيف تراوغ القهر المجتمعي الواقع عليها.
يأتي تعليقها بعد تنهيدة طويلة، تبدل خلالها حماسها الأول للحديث، واستحل مكانه ارتباكًا غلفته ضحكات بسيطة: «مفيش حدا أكل تعنيف متلي».
واحدة من بين كل أربع لبنانيات تعرضن للعنف، بحسب دراسة أجرتها جمعية أبعاد العاملة في مجال حقوق المرأة عام 2017.
لدى رشا ثلاث فتيات بعمر المراهقة، وصبي، وتوضح أنها «ست بيت، يهيء إليَّ إني صاحبة قرار فيه، لكن هاد وهم». تقضي معظم نهارها في أعمال منزل كبير، يليق ببيت زوجها، رجل الأعمال، صاحب المصالح مع العديد من المسؤولين والتجار في منطقته. تقيم العزائم، تؤدي واجباتها الاجتماعية نحوهم، تحظى بمكانة مرموقة في محيطها، كما لو كانت أكثرهم قوة وسعادة.
جزء من هذه الصورة مكتسب، وآخر ظاهري، يقبع خلفه مشاحنات زوجية، نتيجة سعيها لبناء شخصية مستقلة، قادرة على التعبير عن نفسها، عبر الكتابة التي تجد فيها رشا عزاءً عن ما تفتقد إليه من حب ودعم أسري. لا تريد أن ترى هذا الفقد، تتحاشى الصدام بالمفاهيم المفروضة عليها، وتحفظ نسخًا خاصة بها وحدها.
مجرد التدوين على حساب رشا الشخصي بموقع فيسبوك يعرضها لانتقادات من أصدقائها وأقاربها، وإرهاب من زوجها يتمثل في التضييق عليها والعنف، واستخدام ما لديه من نفوذ وسلطة عليها، وفقًا لتعبيرها: «أي شي يتعلق بحياتي الروحية، رغباتي ومشاعري، شو بفكر، مو مسموح». تشرح رشا، تحتاج إلى صياغة مقدمات طويلة قبل أن تقول ما تريد، حتى لا تُتهم بالتمرد والفجور، وتواجه ذلك بالتراجع حتى تهدأ الأمور حينًا، وبرفض التحكمات من منطلق أنها لا تؤذي أحدًا حينًا آخر.
تضرب رشا مثالًا للأذى الذي تتعرض له وغيرها من النساء في محيطها: «زوج أختي أكبر منها بالعمر، ضل يقنعها لزمن إنه ما بتخلف، مع إن العيب منه، ولما صارحتها بأنه هيك بيسيء إلها، الكل هاجمني».
يشكل نمط الحياة في عائلة رشا نموذجًا مغايرًا للصورة المتداولة عن النساء اللبنانيات، كإحدى أكثر الجنسيات العربية تحررًا، لتبقى حياة الضيعة للعديد من هؤلاء النساء على الجانب الآخر من المشهد الإعلامي.
بعد سنوات من تربية الأولاد وأداء المهام كزوجة وأم داخل المنزل، بدأت تخرج لمعاونة زوجها في مشروعاته. أحيانًا ترافقه في مقابلة شركائه، وأحيانًا تشرف على العمال في محاله. وبالرغم من إتقانها لهذه الأدوار، فإنها تحرص دائمًا على ألا تبدو أكبر حجمًا مما يود زوجها لها، حتى لا يثير ذلك غيرته على حد وصفها. تمدح قوته أمامهم، وفي داخلها تحفظ فكرة أنه «طالما قوتي مسخَّرة له فهي حلال، أما إذا قوتي لحالي بتكون حرام».
يورِد كتاب «سؤال وجواب حول النوع والنسوية» قول المؤرخة «جيردا ليرنر» عن الوعي النسوي: «تعريفي للوعي النسوي يعني وعي النساء بأنهن ينتمين إلى فئة ثانوية، وأنهن تعرضن للظلم باعتبارهن نساء، وأن وضعهن الثانوي الخاضع ليس وضعًا مرتبطًا بالطبيعة، وإنما هو مفروض اجتماعيًا، وأنه يجب عليهن التحالف مع نساء أخريات للتخلص من أشكال الظلم الواقع عليهن، وأخيرًا أنه يجب عليهن تقديم رؤية بديلة للنظام الاجتماعي، بحيث تتمتع فيه النساء مثلهن مثل الرجال بالاستقلالية وحق تقرير مصيرهن».
هل من بدائل خارج صندوقهن؟
استيعاب رشا لوضعها الاجتماعي دفعها للتفكير في بدائل تكفل لها قدرًا من الاستقلال المادي، وسبيلًا للحماية من وصاية الزوج.
طلبت منه راتبًا نظير عملها معه، وفي نهاية شجار أمتد لثلاثة أيام كان الجواب: «وأنا شو مقصر، وليش بدك مصاري لحالك». تبدي رغبتها في شراء لابتوب خاص بها، وبعض المصاريف اللازمة لمشروع كتاب تود نشره، لكن ما بين رغبتها وتعليماته، الكثير من الأشياء الخاصة التي تفعلها رشا «بالتهريب» كما وصفت. تجمع المال نظير أعمال بسيطة تتولى مسؤوليتها في نطاق المعارف، وتدبر جلسات نسائية لتبادل الحكايات، والتعلم من تجاربهن في التعامل مع أزواجهن.
أكثر ما تخشاه من ردود أفعاله الحادة، هي قراراته التي قد تؤثر في مستقبل بناتها الثلاثة. تتكهن بردوده، ما بين منع المال، وإبقائهن في المنزل دون تعليم، وغير ذلك. تقول بحيرة: «ما بعرف شو ممكن يعمل، مجهول»، ولا سيما إن ألمح إلى أي منهن بتشابه طبعها العنيد مع أمها، تبذل كل ما في وسعها حتى لا تجرب فتياتها الزواج المبكر الذي دفع والد رشا بها إليه، تفتح مساحات لنقاشهن في كل شيء دون خجل، تستقبل صديقاتهن، وتتنازل عن مثالية الأمهات في سبيل القرب من بناتها.
«ساعات بتمنى لو إنهم مكانوش عرفوا ولا فهموا، على الأقل كانوا عاشوا زي أجيال سابقة وهم حاسين إن دا أحسن وضع».
مي صالح، مديرة برنامج العنف الأسري في مؤسسة المرأة الجديدة المصرية، تؤكد لـ«منشور» أن الفجوة بين وعي النساء بحقوقهن وما ينبغي أن تكون عليه حياتهن من جانب، وما يحدث لهن في الواقع من جانب آخر، تجعلهن أقل ثقة في ذواتهن، وتزيد من رغبة العزلة، وأحيانًا تسبب اكتئابًا وميولًا انتحارية لبعض ممن قابلتهن في عملها بمناطق مهمشة، نتيجة شعور المرأة هناك بأنها لا تملك أي صلاحيات.
مؤخرًا، حرصت رشا على تكوين صداقات مع رجال آخرين لتعرف كيف يفكرون، سواء من خلال الإنترنت، أو نتيجة خروجها إلى العمل مع زوجها. عمقت هذه الصداقات إحساسها بأن أغلب الرجال يحبون المرأة القوية، طالما أنها لا تمثل لهم شيئًا. تعلن ذلك لزوجها في ذروة العراك: «بتحب المرة القوية، لكن ما بتحبني أحكي مع رجال إذا ما بتعرفه». تعي أن وجود الأشخاص من رجال ونساء في نفس البيئة يجعلهم متشابهين، واليوم باتت أكثر إدراكًا بأن النساء أيضًا بحاجة للتغيير مثل الرجال، لأن المجتمع بأكمله جبان، بحسبها.
توضح مي صالح إحساسها الشخصي بالأسف لهن، تقول بنبرة منخفضة: «ساعات بتمنى لو إنهم مكانوش عرفوا ولا فهموا، على الأقل كانوا عاشوا زي أجيال سابقة وهم حاسين إن دا أحسن وضع»، مضيفة: «لما بنعرف بنعي إحنا نستاهل إيه، بس بنضطر نقبل لأن دا الموجود، ساعتها مبترجعش حياتنا زي ما كانت أبدًا».
بيئة عمل طاردة للأمان
أما رنا (30 عامًا) فتُعرف العنف بأنه الأذى الذي تتعرض له النساء، والذي تجربه بنفسها في مواقف عدة، أبرزها التحرش في الشارع، وسوء المعاملة الذي تتعرض له من مدرائها كونها أنثى، بينما تأتي ردود أفعالهم مغايرة تمامًا في مواقف مشابهة لزملائها من الشباب: «زميلي الولد هيتخاف منه، لأنه يقدر يعمل مشاكل ويمد إيده عليهم، أنا بنت مقدرش أعمل دا». ولا تقتصر ممارسة العنف على الذكور، بل تؤكد أنه «فيه ستات بيقهروا ستات تانية، بس دول بيصعبوا عليا، لأنهم بردو ضحايا».
تعمل رنا في شركة ملابس، ملحق بها مصنع، رفضت أن تذكر وظيفتها، مكتفية بتوضيح الضرورة الوظيفية التي تحتم عليها التعامل مع العديد من الموظفين داخل الشركة وخارجها. تقابل العمال في المصنع، وتنسق مع المسؤولين في كلٍ منهما. كثرة الاحتكاكات تزيد من المواقف التي تعرضها لتمييز نوعي.
تراكم خبرات العنف يجعل النساء أكثر انطوائية وشعورًا بالكرب، يتصرفن على أنهن محل شك.
العنف والتمييز داخل أماكن العمل أصعب من المجال العام، وفقًا لمنى عزت، مديرة برنامج التمييز بمؤسسة المرأة الجديدة، لأن المرأة تخشى الحديث خوفًا من الفصل، لذا تنخفض قدرتها على المقاومة، وهذا ما يُشعرها بأذى أكبر، والتبعات النفسية تدفعها للتغيب عن العمل، وخصوصًا مع عدم قدرتها على الحصول على دعم.
تراكم خبرات العنف يجعل النساء أكثر انطوائية وشعورًا بالكرب، يتصرفن على أنهن محل شك. وفي ما يتعلق بتعاملها مع جسدها، يعتمد كثير من المعنفات على ارتداء زي معين اعتقادًا أنه يحميهن. تفسر منى: «بتلبس جلبيات، تحط حجاب، ونمط سلوكها ككل بيخلي سهل جدًا إنه تلصق بها اتهامات».
رنا مطلقة، وتعيش مع أسرتها بمحافظة بورسعيد. وبالرغم مما يفرضه ذلك عليها من قيود، فإنها لا تفكر في ترك محافظتها الصغيرة والرحيل إلى القاهرة لنيل قدر أكبر من الحرية على حساب راحتها. تقابل تفهم أهلها بما تسميه احترامًا لصورتهم أمام مجتمع شرقي، هي وهم جزء منه. تستغني عن خيارات معينة باللبس أو مواعيد الدخول والخروج، تجنبًا لأي تلميحات تؤذيهم.
في سبتمبر 2018، انتشرت صورة لفتاة مقيدة بأحبال على ظهر إحدى عربات النقل الصغيرة في بورسعيد. غطت الصحف الواقعة، التي جرى فيها سحل الفتاة وضربها من قبل سائق العربة نفسها، لأنها أصابته بزجاجة عن طريق الخطأ خلال مشاجرة مع فتاة أخرى. انفعلت رنا حينما رأتها، لكنها تردد بنبرة واثقة: «متأكدة إن كل العنف اللي هنا صفر على الشمال بالنسبة للقاهرة»، وهذا ما تعرفه جيدًا من حكايات أصحابها والأخبار التي تقرأها، ولهذا صنفت مؤسسة «طومسون رويترز» القاهرة كأخطر مدينة على النساء في نهاية 2017.
الصدمة الأولى في وقائع التعدي تفقد رنا القدرة على الكلام. تدرك لاحقًا أنها بحاجة إلى التعبير عن الرفض. أحيانًا يزيد السكوت من حدة ردود أفعالها في أعقاب الموقف، ويترتب على ذلك عزوف المحيطين بها عن الحديث إليها خوفًا من استجاباتها العنيفة. تقصد ذلك حتى يتحول ضحك الناس عليها إلى سخرية من الشخص الذي يعتدي عليها.
ثمن الفهم
تنتاب رنا مشاعر الحيرة بين الرغبة في البقاء في المنزل نتيجة التحرش الجنسي، واستقلالها المادي الذي يُلزمها بالتكفل بمصاريفها. يزداد قلقها مع تكرار ارتفاع نسب التحرش، في ما تشاهده وتقرأ عنه يوميًا.
«يا أبقى معاه في علاقة، يا يحط عليا»، تشير رنا إلى مديرها السابق الذي دفعها إلى الاستقالة هربًا من ضغطه المتواصل، في وقت لم يكن لديها بدائل، ظلت ستة أشهر دون عمل. وقد سجلت الأمم المتحدة عام 2013 أن 99.3% من المصريات تعرضن للتحرش، بحسب عينة الدراسة.
«كل بنت عندها حكاية هي السبب في خوفها وقلقها»، تشرح الدكتورة منى إبراهيم، العضو المؤسس في مجموعة «أنا الحكاية»، التي تهدف إلى كسر الصور النمطية للنساء والرجال، وتوضح أن تأثر النساء بخبراتهن الذاتية في الجلسات يظهر بشكل أكبر، بينما تبرز مشاعر الخوف والقلق في ما هو شخصي، لأن المشاركين يضعون أيديهم على شيء ملموس، بخلاف الكلام المطلق عن السياق العام العنيف للنساء، والذي يعتقد الرجال خطأ أنه مبالغ فيه.
بطريقة لطيفة بين الهروب والاعتذار، رفضت رنا في البداية الحديث عن تجربة زواجها، لكنها تذكر لاحقًا وباقتضاب أنها لم تنعم بدعم من شريكها شديد الانتقاد. تنفي أي تقبُّل لتطاول باليد عليها، وتوضح أن كثرة الترهيب جعلتها تتمنى أن يضربها ولا يواصل السخرية من جسدها، شعرها، طبخها، وتفاصيل كثيرة: «كان بيقول فيَّا قبل كدا أشعار» بحسب قولها، مستطردة: «الأكل اللي كان مفيش منه، بقى معفن ويترمي في الزبالة، بقيت كل يوم أستنى هسمع جرعة السم دي إمتى». بألم ممزوج بكبرياء رفضت رنا أن تصارحه بهذه الدواخل، لأنه كان يعرف ما يضايقها ويفعله نكاية فيها. انسحبت، وحدث الطلاق.
واحدة من بين كل ثلاث نساء على مستوى العالم تبلغ عن تعرضها للعنف الجسدي أو الجنسي من قبل الشريك الحميم، أو شخص آخر غير شريك، و37% منهن في منطقة الشرق الأوسط، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
«هل هو متحرش؟ هل هيبتزني؟»، تندفع هذه الأسئلة إلى عقل رنا مع بداية مشاعر إعجابها بأي شخص، وسط حالة من الخوف تستند إلى تجربتها الشخصية، وتقويها حكايات المتزوجات في محيطها، وينعكس صداها على تفاعلها مع هذا الشخص. تسأل: «بقول لنفسي هعيد تاني؟»، طموحها إلى المساواة في كل شيء مع شريك حياتها يجعل الأمر «كأنك بتدوَّري على إبرة في كوم قش». تنسحب من علاقتها العاطفية قبل أن تبدأ، تفضل الوحدة أحيانًا على الفشل.
تُرجع منى إبراهيم تمرد وغضب بعض النساء إلى مخزون العنف في وعيهن، تنقل قول مجموعات من الفتيات: «مش لاقيين الأمان في البيوت ولا الشارع، فيبقى أحسن إننا نبقى لوحدنا، نستقل ومحدش يبقى له سيطرة علينا»، لكنها تعتقد أن المشاركة تمنحهن مساحة من القبول لأنفسهن، بعيدًا عن حالة الهلع التي يتعاملن بها مع أجسادهن «كأنه شيء مش طبيعي». إنهن يعيشن بتوقع دائم للأذى والانتهاك، ويزداد ذلك مع تفجر أزمة أو واقعة تعدٍ على امرأة.
تعرب رنا عن أهمية الوعي في تصالحها مع نفسها وتقبلها لجسدها وتقديرها لمشاعرها على طول الخط، وتحاول تطوير ذلك في مواجهة أي إساءة، عن طريق ممارسة طقوس خاصة بمفردها: «بَروح البحر، برقص، بدخل سينما، لوحدي، بستمتع بنفسي في الحاجات»، لأنها جربت أثر ذلك في زيادة ثقتها بذاتها.
التمييز حاضر دائمًا
تشغل تغريد بكير (45 عامًا) منصب سكرتير عام بإحدى المؤسسات التجارية في عمَّان. وعلى مدار أكثر من 20 عامًا قضتها في 3 مؤسسات أردنية ودولية كبرى، كان التمييز أكثر المشكلات التي شكلت وعيها بالضغط الاجتماعي القائم على النوع.
تتنازل عن حقها إذا سُرق جهدها، أو اقتُطع من راتبها لصالح زملاء ذكور: «نحنا بمجتمع ذكوري، لهيك في فرق بيني وبين زملائي الرجال بالمصاري والمعاملة». اضطرت إلى ترك عملها سابقًا على خلفية إحدى هذه الوقائع، لكن التمييز لاحقها. تستشهد بأن «قسم التصدير اللي بتحمل شغله، وقت وظفوا إلو رئيس، اختاروا زلمة ليكون واجهة الشركة، وبعدني بعمل شغله لليوم».
تعرف تغريد أنه في مقابل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وكونها المرأة الوحيدة في العمل أغلب الأحيان، فإن أحدًا لن يستفيد من دعمها، ولا سيما إن كان نجاحها في انتزاع حقوقها سيعزز من تفوقها الإداري الملحوظ، لهذا باتت أكثر ميلًا إلى مهادنتهم، معربة عن قلقها من حالة الخناق التي ستفرض عليها إن أصرت على شكواها للحصول على حقها بالتساوي مع زملائها الذكور.
ترصد منى عزت المديرة في مؤسسة المرأة الجديدة الوجه الإيجابي لوعي النساء، سواءً بالانتهاكات التي تحدث لهن أو بالقوانين التي تجرم ذلك، في تعديل نظرتهن لأنفسهن، إذ لا يعدن يعتبرن أنفسهن الجانيات. وعلى الجانب الآخر، يؤثر ذلك سلبًا حينما لا يجدن تفعيلًا للقوانين ولا يحصلن على حقوقهن من المعتدي، وهو ما يؤدي إلى إحباطهن، ويصعب على منظمات المجتمع المدني أداء دورها لرفع وعيهن، لأننا نواجه سؤالهن: «طب أنا عرفت، وبعدين؟ ما هو مفيش فايدة ولا فاعلية للمعرفة دي، يبقى لزمته إيه؟».
تصف تغريد نفسها بأنها قوية الشكيمة، وترد سريعًا على اعتداءات المحيطين، لا سيما أن أغلبهم من الرجال. تقول بثبات: «أنا أول إشي بضرب، بعدين بحكي ليش عملت هيك». وبالرغم من البيئة الأردنية المحافظة التي نشأت فيها، فإن أغلب تعاملاتها كانت مع الذكور منذ كانت طفلة، تلعب مع صبيان الحارة أكثر من بناتها، وما لبثت أن التحقت بمدرسة مختلطة، ودخلت في الحياة العملية بعد تخرجها مباشرة، ولا تزال إلى اللحظة.
تختلف منى إبراهيم من مجموعة «أنا الحكاية» مع فكرة الخوف كنتيجة دائمة للوعي، لأنها ترى أن النساء الأكثر وعيًا لديهن توقع مسبق وتصورات للشكل الأفضل للتعامل: «مفكرين ومقررين بعد ما عدُّوا مرحلة المفاجأة، مش زي ما كنا بنتعامل زمان، هَوَطي راسي. لأ، فيه جرأة وردود أفعال أقوى، بتروح تعمل محضر، وتقف تردحله في الشارع».
تسكن تغريد مع أختها الصغرى في واحد من الطوابق الأربعة من بناية للعائلة كلها. رسخ الواقع المؤذي للنساء، بحسبها، قناعتها بأحقية المرأة في الدعم غير المشروط. تترجم ذلك في حياتها بوقوفها إلى جانب زوجات أخواتها الثلاثة، وربما تتشاجر لصالحهن إن لزم الأمر: «أنا بصف المرأة على طول الخط، بوقف جمبها أي ما كان، وبعدين فتش عن اللي صار معها».
في كتاب «سؤال وجواب حول النوع والنسوية»، تشير الدكتورة هالة كمال إلى أن الوعي النسوي «لا يكتفي بالبعد الفكري، وإنما يتضمن جانبين هما الإدراك والفعل. فهو يشير إلى إدراك النساء لوضعهن الثانوي في المجتمع باعتباره وضعًا ظالمًا مفروضًا عليهن في السياق الأبوي السائد».
هل يعني الوعي غياب الحب؟
الحكايات التي يشاركها الأصدقاء والأقارب مع تغريد تعزز شعورها بأن الرجال لا يمكن الثقة بهم، وأن النساء في الغالب مضحوك عليهن، وينعكس ذلك على نظرتها إلى الزواج، الذي لا يعدو في مجتمعات كثيرة عن كونه ممرًا لممارسة الجنس، بالأخص لدى الرجال: «بكل اللي بعايشه، بلاقي بدهم ينطروا لوقت يمدوا إيدين تحت تنورتك بس». وتوضح البيانات الرسمية لدائرة القضاء الأردني وقوع 60 حالة طلاق، في مقابل 223 عقد زواج، يوميًا.
في لحظات افتقاد تغريد للحب، ترى الوجه السلبي لتأثير وعيها في علاقتها العاطفية. تتراجع قليلًا عن حالة الاسترسال والثبات في صوتها، ويستحل مكانه ارتباك بسيط: «الصراحة، يمكن لو كنت مو هالقد واعية وقوية، كنت فوت ع قصص الحب والغرام». تشاركني قائلة: «بيجي عبالي إني فيق الصبح على صوت يقلي صباح الخير حبيبتي، وبالليل يسعد مساكي حبيبتي، لكن شو بعمل، محبيتش». تسحب كلمتها الأخيرة، وتلتقط طرف الخيط دون أي توجيه، وتعترف بسلاسة مفاجئة: «لا أنا حبيت، هكذب عليكي ليش، صراحة عيشت قصتين فاشلتين بحياتي». انتهت القصة الأولى لأن الحبيب كان متزوجًا ولديه أطفال، ويستحيل عليها أن تكون زوجة ثانية، وانتهت القصة التالية بحكم الفجوة الفاصلة بين طرفين، أمريكي مسيحي، وأردنية مسلمة.
يتساهل القانون الأردني مع ما يسمى بـ«جريمة الشرف» مقارنة بالجرائم الأخرى، ويستدعي تداول هذه الجرائم غضب تغريد للممارسات القمعية للنساء تحت ستار العرف، منوهة بأن هذه الحوادث ما هي إلا افتراءات على النساء من ذكور معدومي الشرف، يسعون للتخلص من ضحاياهم لأسباب تتعلق في الغالب بخلافات عديدة كالإرث مثلًا، وتعتقد أن أفضل جزاء يستحقه الجناة في جرائم الاعتداء الجنسي هو الإخصاء.
تبقى تناقلات تغريد خارج المنزل محدودة، بخلاف العمل وبعض نزهات مع المقربين، وهذه الحياة تبقيها على مسافة من حوادث العنف الجنسي، ولا سيما مع تقدمها بالعمر، إذ بات الناس ينظرون إليها كأخت كبرى، ويبعث هذا في نفسها طمأنينة ما.
في مقابل وعي النساء بالعنف الذي يهدد سلامتهن، إذا ما وضعنا في الاعتبار الاستجابات المبنية عليه في التعامل مع الرجال، يخبرنا الشاب المصري محمد (28 عامًا) أن بعض ردود أفعال الفتيات باتت أكثر اضطرابًا من ما مضى، وجرب هو ذلك عدة مرات، خصوصًا في الأوقات التي يعج فيها المجال العام بالحديث عن الاعتداءات على النساء، على خلفية الأخبار والحكايات التي يتداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي: «تحس إن عندهم رهاب، لما تكلم واحدة في المواصلات ومتردش لو قلتلها افتحي الشباك»، يقول محمد، مبررًا ذلك بأن بعض النساء يفترضن أن الرجال جميعًا متحرشين.
أما ألبرت (30 عامًا) من مصر، فيلاحظ من خلال تعاملاته أن المجتمع يدفع المرأة نحو قبول العنف وتبريره: «بلاقي بنات من صحابي قابلة تتضرب، وشايفة إن الراجل عنده حقوق وهي لا»، ويعتقد أن على الرجال تفهُّم ما تعانيه المرأة وطمأنتها، لأن التجارب السيئة تمحوها الخبرات الآمنة.
أميرة موسى