سألنا الحكائين عن الحكايات والقصص المحملة بالهم واللذة
غالبًا كنت قد نِمت في طفولتك على حكاية تُروى لك قبل النوم، واحدة عن الأمير القوي الذي ينقذ الأميرة الحبيسة في القلعة، وأخرى عن فرخ بط بشع سخر منه الجميع حتى اكتشف أنه بجعة جميلة وُلِدت في المكان الخطأ، وتلك التي تحكي عن فتاة بائسة تعنفها زوجة أبيها الشريرة، فتحاول النجاة. هل ما زالت تلك الحكايات تؤثر فيك؟ هل تشعر بأنها تشبه واقعك أحيانًا؟
لعبة الحكايات صراع مع الذات، لعبة الجمال والتسلية والخوف والمواجهة، ماذا تعني لنا الحكايا؟ وكيف يراها الحكاؤون؟ هذا ما يتمحور حوله ملتقى «الحكايا والحكائين» الذي أطلقته مكتبة «تكوين» في الكويت بحضور مجموعة من مختلف دول العالم ليتحدثوا ويناقشوا ويتعلموا ويُعلِّموا جوانب الحكاية وأدواتها وأثرها وكيانها.
لكننا في «منشور» توجهنا إليهم بسؤال يشغلنا ليجيب عنه الملتقى: ما علاقة الحكاية بالواقع؟
لماذا الحكاية؟
يقول حمور زيادة: «الحكايا ليست أفيونًا، ولا تقدم عالمًا وهميًّا يشغلنا عن الواقع، الحكايا مُحمَّلة بالدم والهم والطين، مثل الواقع. لكنها مُحمَّلة، بعكس الواقع، بلذة الجمال».
«إذا أردنا أن نفهم شخصًا ما، فنحنُ نسأل عادةً: ما هي حكايته؟». بهذه الكلمات افتتحت الملتقى الروائية الكويتية بثينة العيسى، مديرة مكتبة تكوين. إذًا نحن في الحكايا نبحث عن المعنى، عن فهم الواقع، وتفكيكه، وإعادة بنائه، فهل يعني هذا أن الحكاية انعكاس للواقع، أم خلق واقع جديد؟
وقف الروائي السوداني حمور زيادة على مسرح الملتقى ليتغزل في الحكايا قائلًا: «الخوف هو كل ما يهبه وادي الواقع للإنسان، لكن هناك، وراء الجبال البعيدة في الأفق، ينتظر عالم آخر جميل من الخيال، عالم مليء بالصور الملونة، هذا العالم يصل إليه الأدب، هذا العالم يخلقه الأدب، هذا العالم هو الأدب».
وفي إجابته على سؤالنا يقول: «الحكايا ليست أفيونًا، الحكاية لا تقدم عالمًا وهميًّا ملونًا يشغلنا عن الواقع، الحكايا ليست هلاوسنا، إنها تخبرنا عن العالم الآخر الجميل الذي لا نراه، لا نعرفه، عالم جميل؟ هل يعني ذلك أنه عالم من الخير المطلق؟ يوتوبيا ما؟ كلا. الحكايا مُحمَّلة بالدم والهم والطين، مثل الواقع. لكنها مُحمَّلة، بعكس الواقع، بلذة الجمال».
يرى زيادة أن الحكاية لا تنقل الواقع، ولا تحلله، ولا تفككه، لكنها تنشئ واقعًا موازيًا يفوح بالنشوة، ويعبق باللذة، وهي وجهة نظر مثيرة للاهتمام، إذ لطالما نظرنا إلى الحكاية على أنها تنقل الواقع، ولو في شكل مختلف، وهو يشبه ما ذهب إليه الروائي الإريتيري حجي جابر الذي راح ينصح الكُتَّاب قائلًا: «القارئ هارب من الواقع المترهل، فهو لا يتوقع منك أن تعطيه مثله».
اقرأ أيضًا: لأغراض سياسية: قصة اختراع الخير والشر في الحكايات
نحن الحكاية
قصص الـ«Fairy Tales» الأصلية بعيدًا عن عالم ديزني اللامع، وحشية كالواقع تمامًا، لا تكذب عليه.
صار سؤال علاقة الواقع بالحكاية أكثر إلحاحًا، وإذا كانت كما يراها الكاتبان حمور زيادة وحجي جابر مهربًا وعالمًا موازيًا لا ينقل الواقع، فما الذي يدفع الروائية المغربية زهور كرام التي شاركت في الملتقى إلى القول بأن: «الوعي بالحكاية يؤهلنا لإدراك أن لدينا معنى في الوجود». وهو ما يتناقض مع الرأي القائل بكونها مهربًا، فلا مهرب يمكن أن يجعلك واعيًا بمعنى وجودك، ولهذا توجهنا إلى الكاتبة المصرية نشوى زايد لاكتشاف رأي آخر حول الموضوع، فقالت لـ«منشور»: «الحكاية ليست مهربًا، لكن فيها مفاتيح تحملها معك لتفتح أبواب الواقع وأسراره، هذه المفاتيح مُحمَّلة بخلاصة خبرة الحياة، الحكاية تطعيم ومُقَوٍّ، لا تغيير ولا تجميل ولا مهرب ولا مخدر، الحكاية مواجهة».
انغمسنا مع نشوى في نقاش شغوف حول الحكايا. ترى زايد أن الواقع مزدحم، لذلك نُعبِّر عنه بأبسط الأشياء كالحكاية، وتجد فيها عالمًا آخر نذهب إليه، نفهمه ونعرفه، مثل فرخ البط البشع، أخذتنا حكايته في رحلة وعدنا منها بأفكار أكثر ترتيبًا حول ذاتنا.
كانت نشوى مهتمة بحكايات ما قبل النوم، أو ما تسمى «Fairy Tales»، وتجد أن معرفة حقيقتها لها صلة كبيرة بسؤال علاقة الحكاية في الواقع، فالقصص الأصلية بعيدًا عن عالم ديزني اللامع والجميل أكثر وحشية كالواقع تمامًا لا تكذب عليه، كما هي حكاية بيضاء الثلج «Snow White»، فالساحرة الشريرة القاسية لم تكن في الحكاية الأصلية زوجة والدها كما جَمَّلتها ديزني، بل كانت أمها، وهذه هي وحشية الواقع الذي يجب أن تعكسه الحكايا.
قد يهمك أيضًا: وصفة بيكسار: نفس الحكاية، نفس النتائج
الحكاية في كل مكان
لم يغفل ضيوف الملتقى عن ربط الحكايات بواقعهم وتخصصاتهم العلمية، إذ قال الطبيب الجراح والروائي الدكتور محمد جمال من الكويت: إن «القصة في الطب هي كل شيء، ما يحدث في العيادات يوميًّا ليس طبًّا، بل حكاية. أول ما يتعلمه طالب الطب هو كيفية استخراج القصة والحكاية من فم المريض». كما ركز الدكتور محمد قاسم، أستاذ العلوم التكنلوجية بالمعهد التطبيقي في الكويت، على أن «ما يحدث اليوم من تطور لم نكن نتوقعه، كان موجودًا في مخيلة كتاب حكايات الخيال العلمي».
ربط الكاتب الفلسطيني ربعي المدهون بين واقع قضيته الأم والحكاية قائلًا: «كان المخيم هو الحكاية، والحكاية جاءت من النكبة، النكبة صنعت المخيم، الفلسطينيون صنعوا من المخيم حكايتهم، وأصبح المخيم منتِج الحكاية، فأصبح استعادة الوطن هو الحكاية». أما الروائي الإيطالي «غوزبه كاتوتسيلا»، فقد اعتلى منبر الملتقى ليبعثر كل الأفكار قائلًا: «طُلِبَ مني بوصفي كاتبًا غربيًّا من أوروبا، وتحديدًا من إيطاليا، أن أتحدث عن الحكايات، وهذا ما سأفعله، الحقيقة أنني وجدت أننا نعيش في زمن الصمت، وليس في زمن القصص»، موضحًا ذلك بأن «جميعَ العواملِ الثقافية: التليفزيون، الراديو، الأخبار، الإنترنت، الروايات، الأفلام، إلخ، تتحدث بصوتٍ غربي. ولهذا تتكون لدينا صورة عن العالم بأسره، مصحوبة بشعورٍ بأن شيئًا ما مفقود».
هذا ما ميز ملتقى الحكايا والحكَّائين: تعدد الأصوات واختلافها في الإجابة على سؤال واحد، كل ضيوف الملتقى نظر إلى علاقة الواقع بالحكاية من زاويته، ربطها بخبراته التي مر بها. فما هي الحكاية إلا مجموعة خبرات إنسانية متناقلة؟
هذا الربط بين الحكاية والواقع في حياة كلٍّ منا يخبرنا بأننا نستطيع صنع حكاياتنا الخاصة، أو واقعنا الخاص، نستطيع العيش في أكثر من عالم، وإذا ما آمنا بأن كل قسوة الواقع مجرد حكاية سيحكيها أحدهم إلى آخر يومًا ما، ربما وقتها نكون أقدر على أن نبقر بطن الواقع، وننزع مخالبه من ضلوعنا.
شيخة البهاويد