تأملات يهودية عربية: صراع الهوية بين الدين والعرق

ترجمات
نشر في 2016/05/03

البرفيسورة إيلا حبيبة شوحط، أستاذةُ الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية في جامعة نيويورك. لها الكثير من الأبحاث والكتب المنشورة عن تمثيل الفلسطينيين والإسرائيليين في الوسائل الثقافية، وعن اليهود العرب، وأدب وسينما المزراحيم، والمهجر العربي الأمريكي، والدراسات النسوية وما بعد الاستعمارية.

وفي هذا المقال، الذي حمل عنوان «تأملات يهودية عربية»، تتأمل الكاتبة هويتها التي قد تبدو أولَ وهلةٍ، هويةً متناقضة، لأنها تُعرِّف نفسها بأنها يهودية عربية. وترى شوحط أن هذه التناقض هو نتاج سياسة إقصائية ثقافية اجتماعية أتت مع هجرة اليهود الأوروبيين إلى إسرائيل وإنشاء دولة إسرائيل. وقبل ذلك كان اليهود العرب جزءًا من التنوّع الديني والثقافي في الوطن العربي.

فيما يلي نص المقال:

تأملات يهودية عربية

إيلا حبيبة شوحط

عند مناقشة قضايا الخطاب العرقي والاستعماري في الولايات المتحدة، غالبًا ما تُستبعَد شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولذا، كتبتُ هذا المقال بهدف فتح نقاش بشأن الثقافات المتعددة، نقاش يتجاوز تصنيف الولايات المتحدة لشعوب الشرق الأوسط بأنها شعوب «بيضاء».

وكتبتُ هذا المقال أيضًا بغرض الحديث عن إضفاء التعددية الثقافية على المفاهيم الأمريكية عن اليهودية، إذ إن قصتي تثير الشكوك بخصوص الصورة الأوروبية عن تضاد العروبة واليهودية: خصوصا تجاهل أصوات اليهود العرب (السفارديم) في السياقات الأمريكية أو الشرق أوسطية.

العروبة ثقافة مشتركة

أنا عربية يهودية، أو بشكل أكثر تحديدًا، امرأة عراقية إسرائيلية تعيش وتكتب وتُدرّس في الولايات المتحدة. معظم أفراد عائلتي وُلِدوا وتربوا في بغداد، ويعيشون الآن في العراق وإسرائيل والولايات المتحدة وإنكلترا وهولندا. عندما جاءت جدتي أول مرة إلى المجتمع الإسرائيلي، في خمسينيات القرن المنصرم، كانت مقتنعة بأنَّ الناس الذين يختلفون في الملامح وطريقة الأكل والكلام، يهود أوروبا، هم في الواقع من المسيحيين الأوروبيين. لقد ارتبطت اليهودية في جيلها ارتباطًا وثيقًا بشعوب الشرق الأوسط، وكان لزامًا على جدتي، التي لا تزال تعيش في إسرائيل ولديها علاقات واسعة في الدول العربية، أن تتعلم الحديث «عنّا»، كيهود و«عنهم» كعرب. بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط، كان التمييز السائد دائمًا هو بين «المسلم»، و«اليهودي» و «المسيحي»، لا عبر ثنائية العربي مقابل اليهودي. وكانت الفكرة السائدة هي أنَّ «العروبة» تشير إلى ثقافة ولغة مشتركة رغم الاختلافات الدينية.

في كثير من الأحيان يندهش الأمريكيون لاكتشاف احتمالات «الهوية التوفيقية» المثيرة للاشمئزاز وجوديًا والغريبة بشكل مذهل. وأذكر أنَّ زميلة مقربة لي، على الرغم من دروسي المفصلة عن تاريخ اليهود العرب، ما زالت تجد صعوبة في فهم أنني لم أكن حالة شاذة مأساوية، على سبيل المثال، ابنة عربي (فلسطيني) وإسرائيلية (يهودية أوروبية). العيش في أمريكا الشمالية يصعّب علينا ايصال فكرة أننا يهود وبنفس الوقت من خلفيات شرق أوسطية مختلفة. أننا عرب من ديانات مختلفة، كالعرب المسلمين والعرب المسيحيين.

لقد كانت مراقبة الحدود الثقافية في إسرائيل هي التي دفعت البعض منّا للهروب إلى عواصم الهويات التوفيقية. ومع ذلك، في الوسط الأمريكي، نواجه مرة أخرى الهيمنة التي لا تسمح لنا إلا بسرد ذاكرة يهودية واحدة، الذاكرة الأوروبية. أما بعضنا الذين لا يخفون هويتهم الشرقية تحت عنوان هوية يهودية جامعة، فإنَّ الوجود في الوسط الأمريكي المعادي لفكرة الشرقية ذاتها، يصبح أكثر صعوبة.

اختلاف اليهود العرب عن الأوروبيين

 
 صلاة "كاديش" يؤديها يهود عرب في إسرائيل
وكيهودية عربية، كثيرًا ما أضطر لتفسير «غموض» هذا الكيان المتناقض. أنّنا تحدثنا العربية لا اليديشية، وأننا خلال آلاف السنين تجلّى إبداعنا الثقافي، الدنيوي والديني، في اللغة العربية (كان موسى بن ميمون أحد المثقفين القلائل الذين «نجحوا» في التأثير على وعي الغرب)، وأنه حتى أكثر الناس تدينًا في مجتمعاتنا بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا لم يعبّروا عن أنفسهم في صلاة عبرية بلكنة يديشية، ولم يمارسوا القواعد الطقسية-الإيمائية وتفضيل الملابس ذات الألوان الداكنة التي كانت منتشرة في بولندا من قرون مضت.

وعلى نحوٍ مماثل، لم ترتدِ المرأة اليهودية في الشرق الأوسط الشعر المستعار، فشعرها مُغطى بأشكال مختلفة من الملابس المحلية (وفي أعقاب الإمبريالية البريطانية والفرنسية، ارتدت الكثير من النساء ملابس على النمط الغربي). وإذا ذهبت إلى معابدنا، في نيويورك ومونتريال وباريس أو لندن، ستندهش عند سماع نغمات موسيقانا التي قد يتصور الشخص الذي يسمعها للمرة الأولى أنها قادمة من أحد المساجد.

الآن، وبعد دخول الدول الثقافية الثلاثة التي شكّلت تاريخي الممزق، العراق وإسرائيل وأمريكا، في الحرب، فمن الأهمية بمكان أن نقول إننا موجودون في هذا العالم. بعضنا يرفض الذوبان وذلك لتسهيل الانقسامات القومية والعرقية «المنظمة». قلقي وألمي في أثناء هجمات صواريخ سكود على إسرائيل، حيث يعيش بعض أفراد عائلتي، لم يبددا مخاوفي وألمي على ضحايا قصف العراق، حيث لدي أقارب هناك أيضًا.

اقرأ أيضًا: التدين ومعضلة «الدولة اليهودية» في إسرائيل

ارتباط الحروب بالثنائيات

ولكن الحرب هي رفيقة الثنائيات، نادرًا ما تترك أي مجالٍ للهويات المعقَّدة. حرب الخليج، على سبيل المثال، زادت الضغط على الشتات اليهودي العربي الذي لا يزال تحت ضغط الصراع العربي الإسرائيلي، إنّه الضغط للاختيار بين أن تكون يهوديًا أو أن تكون عربيًا. بالنسبة لعائلاتنا التي عاشت في بلاد ما بين النهرين منذ السبي البابلي على الأقل، وتمّ تعريبها خلال آلاف السنين، ثم طُردت فجأة إلى إسرائيل قبل 45 عامًا، أن تضطر هذه العوائل فجأة إلى حمل هوية يهودية أوروبية متجانسة ذات تاريخٍ في روسيا وبولندا وألمانيا، كان ضربًا من ضروب الدمار الذاتي. لم يُنظر إلى ثنائية أن تكون يهوديًا أوروبيًا أو يهودياً أمريكيًا على أنها تناقض، ولكن أن تكون يهوديًا عربيًا فهذه مفارقة منطقية، بل إنها تدمير وجودي. وقد أدت هذه الثنائية إلى إصابة العديد من اليهود الشرقيين (اسمنا في إسرائيل الذي يشير إلى بلداننا الآسيوية والإفريقية المشتركة في الأصل هو مزراحي) بفصام عميق، لأنّه لأول مرة في تاريخنا توضع العروبة واليهودية كمصطلحين متضادين.

الخطاب الفكري في الغرب يسلّط الضوء على التقاليد اليهودية المسيحية، ولكن نادرًا ما يعترف بالثقافة اليهودية الإسلامية في الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، أو في إسبانيا في مرحلة ما قبل طرد اليهود (1492) والأجزاء الأوروبية من الإمبراطورية العثمانية. وكثيرًا ما تمّ تصوير التجربة اليهودية في العالم الإسلامي على أنها كابوس لا ينتهي من القهر والإذلال.

ورغم أنني لم أرغب في تمجيد تلك التجربة، فإننا كنا نعيش مرتاحين جدًّا داخل المجتمعات الإسلامية، رُغم وجود توترات، وتمييز، وعنف بين الحين والآخر.

ببساطة، تاريخنا لا يمكن مناقشته من منظور مصطلحات اليهود الأوروبيين. وكيهود عراقيين، فمع حفاظنا على الهوية الطائفية، نحن مندمجون جيدًا  بل كنا من أهل البلاد، ونشكّل جزءًا لا يتجزّأ من الحياة الاجتماعية والثقافية. ومن خلال التعريب، استخدمنا اللغة العربية حتى في التراتيل والطقوس الدينية. لقد عززت الاتجاهات الليبرالية والعلمانية في القرن العشرين الروابط بين اليهود العراقيين والثقافة العربية، والتي جلبت اليهود إلى ساحة نشيطة جدًّا في الحياة العامة والثقافية. وقام الكتَّاب والشعراء والعلماء اليهود البارزون بدور حيوي في الثقافة العربية، وتميّزوا في المسرح والموسيقى العربية كمطربين وملحنين، وعازفين للأدوات الموسيقية التقليدية.

وفي مصر، والمغرب، وسوريا، ولبنان والعراق وتونس، أصبح اليهود أعضاءً بالهيئات التشريعية والمجالس البلدية، والسلطة القضائية، حتى إنهم تولوا مناصب اقتصادية رفيعة المستوى. (كان وزير المالية العراقي في فترة الأربعينيات هو إسحاق ساسون، وفي مصر كان يعقوب صنوع).

ضياع للإرث الثقافي

العملية التاريخية نفسها التي جرّدت الفلسطينيين من ممتلكاتهم وأراضيهم وحقوقهم الوطنية والسياسية، كانت مرتبطة بحرمان يهود الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من ممتلكاتهم وأراضيهم وتجذّرهم في الدول الإسلامية. وكلاجئين، أو مهاجرين (وفق المنظور السياسي للفرد)، أُجبرنا على ترك كل شيء وراءنا والتخلي عن جوازات السفر العراقية. وقد أثرت العملية نفسها أيضًا على تشريدنا أو وضعنا الملتبس داخل إسرائيل نفسها، حيث كانت تُمارس العنصرية ضدنا بشكل ممنهج من المؤسسات التي سخّرت طاقاتها وأدواتها لمصلحة يهود أوروبا ومعاداة اليهود الشرقيين. حتى ملامحنا خانتنا، مما أدى إلى استعمار داخلي أو سوء إدراك جسدي. المرأة الشرقية من السفارديم في كثير من الأحيان تصبغ شعرها الداكن لتشبه الشقراوات الأوروبيات، في حين أن الرجال يُعتقلون ويُضربون عند الظن بأنهم من الفلسطينيين. وما كان للمهاجرين الأشكناز من روسيا وبولندا من صعود (Aliya)، كان بمنزلة انحدار (Yerida) للمهاجرين اليهود الشرقيين السفارديم.

لقد جُردنا من تاريخنا، وأُجبرنا بسبب وضعنا على كبت حنيننا، على الأقل أمام الناس. مفهوم «الشعب الواحد» العائد مرة أخرى إلى وطنه القديم قوّضت أي ذاكرة رقيقة للحياة قبل إسرائيل. لم يكن يسمح لنا بأن نحزن على الصدمة التي نشعر بها عند مشاهدة الدمار في العراق. إبداعاتنا الثقافية باللغة العربية والعبرية والآرامية لا تُدرّس في المدارس الإسرائيلية، وأصبح من الصعب إقناع أطفالنا أننا في الواقع كنا نعيش هناك، وأنَّ بعضنا لا يزال يعيش هناك في العراق والمغرب واليمن وإيران.

وسائل الإعلام الغربية تفضل مشهد التقدم المنتصر للتكنولوجيا الغربية على بقاء الشعوب والثقافات في الشرق الأوسط. حالة اليهود العرب هي مجرد حالة واحدة من العديد من الحالات. ومن الخارج، هناك إدراك قليل بمجتمعنا، وإدراك أقل بتنوع وجهات النظر السياسية. حركات السلام الشرقية لليهود السفارديم، من الفهود السود اليسارية اليهودية في فترة السبعينيات إلى حركة كيشت للعدالة الاجتماعية اليهودية العربية (تحالف قوس قزح المزراحي الديموقراطي في إسرائيل) لا تدعو فقط إلى سلام عادل للإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن أيضًا إلى اندماج ثقافي وسياسي، واقتصادي لإسرائيل / فلسطين في منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي، وضع حدّ لثنائيات الحرب، ووضع حدّ للترسيم المبسّط للهويات في الشرق الأوسط.

 
موشي حبوشة مغن ومنشد بارز من اليهود العرب يغني «الورد جميل» لأم كلثوم بالعبري

المصدر: BintJbeil 

ترجمات