فتح أم احتلال: بماذا نسمي دخول العرب مصر؟
«الحكم العربي لمصر، كان فتحًا أم احتلالًا؟». جدل يثور دائمًا بين من يصفون دخول العرب إلى مصر وحكمهم لها بـ«الفتح»، وأولئك الذين يدينونه باعتباره «احتلالًا غاشمًا». تلك الإشكالية التاريخية لا يعنينا هنا إعطاء إجابة حاسمة عنها بقدر ما يعنينا تأمل الجدل نفسه وتحليل آليات كلٍّ من طرفيه وأساليبه للدفاع عن رؤيته.
بدايةً دعونا ننظر في أمر المصطلحات المرتبطة بتلك الإشكالية، ألا وهي «الغزو»، «الاحتلال» و«الفتح».
عن المصطلحات الثلاثة:
استخدام وصفي الفتح أو الاحتلال يختلف، فقد يرى ابن الإقليم المغزو أنه فتح وليس احتلالًا بناء على توافقه دينيًّا أو فكريًّا أو نفعيًّا مع غرض الدولة الغازية.
مشكلة العلوم الإنسانية، وعلى رأسها علم التاريخ، أن من العسير وضع مفهوم ثابت لكثير من مصطلحاتها. لذا، فإنني أنبه القارئ إلى أن المفاهيم التالية محض اجتهادات علمية من كاتب هذا المقال، هذا ما تقتضيه الأمانة العلمية.
لدينا أولًا مصطلح «الغزو»، وهو الفعل الذي يمهد للفتح أو الاحتلال. فالغزو قيام قوات مسلحة من دولة بدخول إقليم تابع لدولة أخرى، وفرض السيطرة عليه، بغرض حكمه مباشرة، أو من خلال تنصيب سلطة تابعة للدولة الغازية، سواء كان ذلك برضا شعب هذا الإقليم أو عدم رضاه. وهو يختلف عن مصطلح «الوحدة/الاتحاد» الذي يقتضي اتفاق سلطات دولتين أو أكثر على توحيد السلطة على تلك الأقاليم.
إذًا، فسواء وُصِفَ الحكم بأنه فتح أو احتلال، فإن عملية الغزو مقدمة ضرورية لهذا الحكم.
المصطلح التالي: «الفتح». هو وصف الدولة الغازية عملية ضمها للإقليم المغزو وحكمه. فهو من منظورها مكسب ونصر عظيم وإضافة إلى مساحة نفوذها وسطوتها وإثراء لمواردها. وعادة ما تصاحبه دعاية أنها إنما قامت بذلك لغرض نبيل، مثل تحرير أهل الإقليم المغزو من محتل أو طاغية، أو أنها قد استردته بحكم انتمائه الأصلي لها حسب ادعاءاتها.
مثال لذلك: سيطرة «فيليب المقدوني» على المدن اليونانية، فهو بالنسبة إلى المقدونيين كان فتحًا غرضه توحيد بلاد الحضارة الإغريقية بغرض الصمود أمام المنافس الفارسي، أوفي العصر الحديث، في عهد صدام حسين غزا العراق الكويت بحجة انتمائها الأصلي للعراق الكبير. أكرر: هذا هو منظور الغازي الذي لا يلزم بالضرورة غيره، ولا يلزم كذلك المبادئ الأخلاقية لحسن الجوار واحترام سيادة كل دولة وإرادة شعبها.
وأخيرًا لدينا مصطلح «الاحتلال»، وهو منظور المنتمي للإقليم المُعرَّض للغزو، والذي لا تعنيه مبررات الغازي، وإنما يعنيه أن وطنه قد فقد استقلاله، وأن شعب هذا الوطن قد أصبح محكومًا من غرباء غاصبين. وأشهر نموذج لذلك من نددوا بالحكم البريطاني لمصر من العام 1882.
جدير بالذكر أن استخدام وصفي الفتح أو الاحتلال يختلف حسب عوامل متعددة، فقد يرى ابن الإقليم المغزو أنه فتح وليس احتلالًا بناء على توافقه دينيًّا أو فكريًّا أو نفعيًّا مع غرض الدولة الغازية، كموقف فئة «الحركي»، وهم الجزائريون الذين شاركوا المحتل الفرنسي قمع الثورات الجزائرية ضد الاحتلال، أو كنظرة بعض الإسلاميين للغزو العثماني لمصر سنة 1517.
في المقابل قد يندد بعض أهل الإقليم الغازي لأراضي الآخرين بفعل الغزو، كموقف الناشطة الألمانية «صوفي شول» المنددة بالغزو النازي لأوروبا، أو كموقف المخرج الأمريكي «مايكل مور» من غزو دولته لأفغانستان والعراق.
من الصعب وضع تعريفين حاسمين لكل من الفتح والاحتلال، بسبب ارتباط إطلاقهما بدوافع خاصة بمن يستخدمهما، ما يقودنا إلى حقيقة أن كل فتح من منظور طرف هو احتلال من منظور طرف آخر، والعكس بالعكس.
أضواء يجب تسليطها على حكم العرب مصر:
كان قانون العالم «إن لم تغزُ، غُزيت». فما فعله العرب من تأسيس إمبراطورية قائمة على الغزو لم يكن مخالفًا لـ«النظام العالمي» وقتها.
هناك معلومات تاريخية يجب أن نوظفها كأضواء كاشفة نسلطها على تاريخ غزو العرب وحكمهم لمصر:
أولًا: لم يكن احتكاك العرب المسلمين عسكريًّا بدول خارج محيطهم، وغزوهم لبعض أراضيها، سابقة في التاريخ العربي في مجمله (قبل الإسلام وبعده)، فالتاريخ العربي قبل الإسلام به نماذج لغزوات مماثلة، وإن كانت أقل قوة وأقصر سيطرة، كغزو دولة تدمر السورية، في عهد الملك «أذينة»، بلاد فارس ومحاصرة العاصمة طيسفون (المدائن)، أو غزو الملكة «زنوبيا» مصر ومستعمرات روما في سوريا والأناضول، وكذلك سيطرة المناذرة على العراق والغساسنة على بادية الشام (وإن كانت الأولى تحت وصاية فارس والثانية تحت وصاية بيزنطة).
ثانيًا: لم يكن نمط «القوم المتفرقون الذين تظهر بينهم زعامة توحدهم، ثم يغزون العالم» بالبدعة التي ابتدعها العرب. فقبل ذلك بقرون توحد الإغريق حول «فيليب المقدوني»، ثم ابنه «الإسكندر الأكبر» الذي غزا المستعمرات الفارسية في آسيا ومصر، وانطلق بعدها لغزو أفغانستان والهند.
في أوروبا توحَّد القوط حول «ألاريك الجسور» ليغزوا الإمبراطورية الرومانية الغربية، وحتى بعد الغزوات الإسلامية الأولى تكرر هذا النمط في نماذج «جنكيز خان» والمغول، و«شارلمان» و«الكارولنجييين» في أوروبا، وغيرهم.
إذًا، فعلى قارئ تاريخ الغزوات العربية على يد خلفاء الرسول محمد أن يراعي تلك الحقيقة، وألا ينساق وراء تيار مبدأ أن العرب قد أحدثوا سابقة تاريخية.
ثالثًا: كان قانون العالم آنذاك هو «إن لم تغزُ، غُزيت». ولذلك، فإن ما فعله العرب من تأسيس إمبراطورية قائمة على الغزو والتوسع لم يكن مخالفًا لـ«النظام العالمي» وقتها، ومن العبث أن نقيِّم أخلاقيًّا غزو العرب مصر في ضوء مبادئ الحاضر من حسن الجوار واحترام سيادة الدول واستقلاليتها وحق الشعوب في تقرير المصير، ونحو ذلك من مبادئ الأخلاقيين حاليًّا.
رابعًا: نظاما «الجزية» (مقابل الحماية) و«الخَراج» (ضريبة الأرض) لم يكونا ابتكارًا عربيًّا، وإنما نظامان ماليان طبقتهما كل الدول السابقة للدولة العربية. فلا تصح إدانة مجرد تبنِّي العرب لهما، وإنما ينبغي أن ينصبَّ تقييمهما على كيفية تطبيقهم لكلٍّ منهما.
خامسًا: الحكم العربي لمصر لم يكن على نظام واحد بحكم تتابع الدول العربية (الراشدة، ثم الأموية، فالعباسية، فالفاطمية) على مصر، واتسام كل منها بسمات مختلفة عن بعضها، فلا يمكن أن نجمع كل تلك المراحل في حكم واحد لاختلاف خصائص كل منها عن الأخرى.
سادسًا: ينبغي أن نراعي أن السياسات التي طبَّقها في مصر الولاة التابعون للسلطة العربية المركزية لم تكن بالضرورة معبِّرة عن الرأي العام العربي، ولم تكن دائمًا محل رضا. فعلى سبيل المثال، من يقرأ كتب التراث، مثل «ولاة مصر» للكندي، يجد انتقادات عربية لسياسات بعض الولاة، مثل قرة بن شريك أو أسامة بن زيد التنوخي، باعتبارها تمثل ظلمًا فادحًا.
سابعًا: العنصر العربي لم يكن دائمًا «عنصرًا مميزًا» خلال الحكم العربي، بل إنه شهد تراجعًا وطبقية عربية-عربية، وبخاصة منذ بدايات العصر الأموي، إذ قسَّم العرب أنفسهم إلى «معارضة وموالاة». بل ومن قبل ذلك، خلال فترة الانقسام بين العرب في عهدي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. وفقد العرب أغلب مزاياهم منذ عهد الخليفة العباسي المعتصم بالله الذي قطع التمويل عن العرب، وقدَّم عليهم العنصر التركي الذي سيطر على الدولة العباسية ذاتها.
ثامنًا: هناك أمر واقع يجب أن نراعيه، وهو أن المصادر العربية التي تناولت غزو العرب مصر وحكمهم لها، مثل «فتوح مصر» لابن عبد الحكم، قد قدمت «الفتوحات العربية» من زاوية واحدة هي «وجهة نظر المنتصر»، وأغفلت رؤية المحكومين، الأمر الذي أشار إليه الباحث اللبناني حسام عيتاني في كتابه «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، وكذلك الباحثة المصرية سناء المصري في كتابها «هوامش الفتح العربي لمصر»، وأجدني متفقًا مع حسام عيتاني في ما أورده في كتابه من أن تلك النظرة الأحادية قد أثَّرت سلبًا في التأريخ للحكم العربي لمصر.
أخيرًا: التأريخ للحكم «العربي» لمصر ينبغي أن يراعي أن هذا الحكم يقتصر على فترات الخلافات الراشدة والأموية والنصف الأول من الخلافة العباسية، ثم تخللته فترة «الولاة الأتراك»، ثم الفترتان التركيتان الاستقلاليتان (الطولونية، ثم الإخشيدية)، اللتان تلتهما الفترة العربية الفاطمية، ثم بعد ذلك ينقطع الحكم العربي، إذ تولت حكم مصر أنظمة، إما كردية أيوبية، وإما مملوكية تركية وجركسية، وإما عثمانية تركية.
سلبيات تناول الحكم العربي:
تعصب من تسيطر عليهم فكرة القومية العربية للحكم العربي، وأضفوا عليه ملائكية غير واقعية بحكم التعصب للعروبة.
تأثر تناول الفتح/الاحتلال العربي لمصر بعوامل خطيرة أثرت سلبًا في موضوعية قراءة تلك الفترة وكتابتها.
أول تلك العوامل هو «الأدلجة»، أي قراءة التاريخ بتأثر وتعصب لوجهة نظر فكرية. فقطاع ضخم ممن يدونون تلك الفترة، ويصنفونها باعتبارها «احتلالًا» هم من المتأثرين بشعور عدائي تجاه «العروبة»، فتجدهم يصفون دخول العرب مصر بأنه «غزو من حفنة من العراة الحفاة الأجلاف الذين اغتصبوا مصر وقضوا على حضارتها».
تلك الفئة غالبًا ما تكون متأثرة بالشعور السلبي تجاه العروبة الناتج عن فترة نهايات سبعينيات القرن العشرين وبدايات ثمانينياته، تلك الفترة التي وفدت فيها على مصر أفكار توصف بأنها «بدوية متشددة دينيًّا» أثرت سلبًا في السلوك العام للمصريين.
هؤلاء الذين نقموا على تلك الفترة ظهرت بين بعضهم ممارسة «الإسقاط التاريخي» على حكم العرب لمصر، فساووا بينه وبين تلك المؤثرات السلبية الحديثة باعتبار أن كليهما قد وفد من نفس المنطقة الجغرافية. وهو إسقاط عبثي لا يراعي اختلاف معطيات كل زمان، ولا يراعي كذلك حقيقة أن الحضارة المصرية القديمة كانت قد اندثرت منذ قرون سبقت وفود العرب الأوائل إلى مصر. إن قراءة هؤلاء للحقبة العربية تتسم بالإدانة الجاهزة لكل ما هو عربي.
في المقابل، فإن بعض من تسيطر عليهم فكرة القومية العربية قد تعصبوا للحكم العربي، وأضفوا عليه ملائكية غير واقعية بحكم ممارستهم نفس الإسقاط، ولكن من زاوية التعصب للعروبة. وكلا الإسقاطين مضر بالموضوعية العلمية، فهؤلاء يرون أن أي مساس بالتاريخ العربي بالنقد أو التحليل «مؤامرة على العروبة».
العامل الثاني هو «تديين التاريخ»، أي قراءته وكتابته من منطلق ديني بحت. هذا التديين امتداد للكتابة التمجيدية التراثية لكل أعمال المسلمين الأوائل. وهو اتجاه يضفي «حصانة» على تلك الأعمال حتى يعد مجرد نقدها هجومًا على الإسلام ذاته.
ونحن إن كنا نعذر المؤرخين المسلمين القدامى بحكم قرب عهد بعضهم بفترة الغزوات، أو لظهور بعضهم في فترات كان العالم فيها متشحًا برداء الاستقطاب الديني، فإننا لا نلتمس نفس العذر للمؤرخين المحدثين، إذ إنهم لم يراعوا تطور قراءة التاريخ في العصر الحديث وكتابته، وضرورة التزام المؤرخ الموضوعية، وتحييد معتقداته الشخصية جانبًا عند كتابة التاريخ مراعاة للأمانة العلمية.
يمكننا الاطلاع على كتابات بعضهم، مثل الكاتب الليبي علي الصلابي، لإدراك فداحة إجرامهم في حق علم التاريخ. أو قراءة وصف الكاتب الأستاذ فهمي هويدي لكتاب الباحثة الراحلة سناء المصري «هوامش الفتح العربي لمصر» بأنه «قراءة عبثية للتاريخ»، وإدانته هذا الكتاب لرفضه جرأة كاتبته في تقييم «الفتح العربي» (وللأمانة، فإن كاتب هذا المقال يختلف مع الباحثة في كثير من محتويات هذا الكتاب، ولكنه يحترمه كتجربة كانت تحتاج إليها المكتبة التاريخية العربية لما فيه من محاولة لكسر القوالب الجامدة المحيطة بالحكم العربي لمصر).
العامل الثالث المضر بقراءة تاريخ العرب في مصر أن كثيرًا ممن يدينونه ويصفونه بالاحتلال، وكذلك كثيرًا ممن يتعصبون لكونه «فتحًا»، قد ارتكبوا خطأً فادحًا هو «بناء النظرية، ثم انتقاء ما يؤيدها من معطيات تاريخية دون غيره»، بينما يجب على الباحث في التاريخ وقارئه أن يجمع المعلومات بشتى أنواعها، ثم يحللها ليخرج بعد ذلك بنتيجتها.
إن ما يفعله هؤلاء أشبه بمن توضع أمامه مسألة حسابية معقدة، فيقرر برهانها دون محاولة اتخاذ خطوات حلها. يستوي في ذلك إن كانت نظريته تلك تصف حكم العرب مصر بأنه فتح أو احتلال. فما بُنِيَ على خطأ هو بالضرورة خطأ حتى وإن صادف بعضًا من الصواب. والواقع أن التاريخ ليس مطلوبًا منه أن يجامل أحدًا أو يحابيه.
لكل ما سبق أجدني متفقًا بشدة مع المؤرخ قاسم عبده قاسم في ما قاله في كتابه «قراءة التاريخ» من أن التاريخ لا يحتاج إلى إعادة كتابة، وإنما إلى إعادة قراءة.
فكما تتراكم جيولوجيا المواد والرواسب في طبقة الحجر الأرضي، فإن عيوب قراءة التاريخ وسلبياته قد تراكمت حتى كونت طبقة صلبة فوقه جعلت من كسر تلك الطبقة وتفتيتها مطلبًا ضروريًّا لإعادة قراءته بشكل موضوعي، مجرد من الانتماءات، نقي من الأدلجة والتديين والأحكام الجاهزة، وهو ما لا ينطبق على قراءة تاريخ الغزو والحكم العربي لمصر فحسب، بل على كل موضوعات التاريخ الإنساني.
وأكرر: إن الغرض من هذا المقال ليس الانحياز لوصف تلك الفترة بالفتح أو بالاحتلال، وإنما إجابة سؤال أهم: هل التزم أصحاب هذا التوجه بشأن الحكم العربي لمصر أو ذلك مبادئ الموضوعية والأمانة العلمية، أم حادوا عن القراءة السليمة للتاريخ؟
وليد فكري