«الأفانتازيا»: حين تُغمَض عين العقل
حين نفكر في شخص ما نستدعي صورته في عقولنا. نستحضر لقطة له وهو جالس أو يضحك أو مطرق الرأس يعلوه الصمت، لكن هذه الأمور البديهية الطبيعية لا يحدث شيء منها للمصابين بـ«الأفانتازيا»، وهو الاضطراب الذي يعني أن يفقد الشخص قدرته على تخيل صورة الأشياء في حال لم تكن موجودة أمامه.
في معاجم اللغة العربية، يعني تعبير «خيال الطيف» ما يتشبه للمرء في اليقظة والمنام من صور. في لغات أخرى، استُعملت كلمة «عين العقل» للإشارة إلى تلك القدرة. لا حدود لعالم الخيال، ففيه يجري التذكر والإبداع والمرح والقلق وأحلام النوم واليقظة، وشتى أنشطة التفكير.
مصادفة، اكتشف «بليك روس»، الذي أسهم في تأسيس متصفح «فايرفوكس»، وأحد كُتاب مسلسل «سيلكون فالي»، إصابته بالأفانتازيا، ما كان له وقع الصدمة عليه، وهو الشخص المرموق المعروف بالابتكار في ميدان البرمجة وكتابة الأعمال الخيالية.
عبْر بوست في الفيسبوك، تحول إلى مقال على موقع «VOX»، تحدث روس عن تجربته مع الأفانتازيا. نستعرض في هذا الموضوع ما حكاه حول ما يعنيه أن يحرم الإنسان من القدرة على التخيل. ترشدنا قصة روس إلى أهمية دور المخيلة في حياة الإنسان، وفي علاقته مع الآخرين، وأثرها البالغ في عملية الكتابة الإبداعية. تجعلنا قصته نتساءل: ماذا إذا كنا نختبر في حياتنا الخاصة درجةً ما من الأفانتازيا؟
كيف عرف روس السر الخطير عن أن الناس يتخيلون؟
يعثر روس، في موضوع نشرته مجلة «The New York Times»، عن رجل يبلغ من العمر 65 عامًا، فقد القدرة على تشكيل صور في عقله بعد إجرائه عملية جراحية.
قال روس في نفسه حين قرأ الخبر: ماذا تقصدون بأنه فقد هذه القدرة؟ أليس من الغريب أن تكون لديه هذه القدرة أصلًا؟
عرض أطباء الأعصاب بجامعة إكسيتر في إنجلترا، صورة أمام الرجل، وسألوه: من هذا الشخص؟ قال الرجل: «توني بلير» بالطبع. وأظهرت ماسحات الدماغ إضاءة مناطق الرؤية في دماغ الرجل.
بعدها أخفى الأطباء الصورة عن الرجل، وطلبوا منه أن يتخيل توني بلير. كان الرجل يعرف صفات بلير مثل لون عينيه وشعره، لكنه عجز عن أن يرى صورته في «عين عقله».
معظم الناس يشاهدون الأفلام ويقرأون الروايات على نحو لا يشبه أسلوب المصاب بالـ«أفانتازيا»، نظرًا إلى قدرتهم على التخيل.
ماسحات الدماغ أظهرت أن مناطق الرؤية عند الرجل لم تنشط هذه المرة. باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لأشخاص آخرين، نشط عدد من نفس مناطق الرؤية عندما نظروا إلى صورة أو عندما تصوروها فقط. أطلق الباحثون في جامعة إكسيتر على هذه الظاهرة اسم «أفانتازيا» (Aphantasia)، أي انعدام الخيال.
يقول روس إن المفاجأة كانت كما لو أنه قرأ خبرًا يقول إن العلماء اكتشفوا إنسانًا بلا ذيل، وما حدث كان مثل العبور بعملية بلوغ في عالم آخر. يعتقد روس أن هذه المعرفة عن نفسه كانت بمثابة أكبر كشف تعرَّض له في حياته.
هرع روس في الثانية صباحًا يسأل أصدقائه الموجودين في شبكة فيسبوك، إن كانوا يستطيعون تخيل شاطئ. رد أغلبهم: نعم، بالتأكيد نستطيع تصور شاطئ يزخر بالأمواج ويعج بالمظلات على الرمال. فقط ثلاثة من أصدقاء روس أخبروه بأنهم يشاركونه الوضع نفسه، وكانت إجاباتهم عبارة عن سيل من «نعم» و«بالضبط»، وأسرُّوا إليه بأنهم لطالما أحسوا بنوع من «الآخرية» لم يمكِنهم قط تحديده. في النهاية استولت الدهشة على روس عندما عرف أن أمه أيضًا مصابة بالأفانتازيا.
أدرك روس أن معظم الناس يشاهدون الأفلام ويقرأون الروايات على نحو لا يشبه أسلوبه، نظرًا إلى قدرتهم على التخيل. يتضايق بعض الناس حين يشاهدون أداء ممثل ما، لأنهم تخيَّلوا الشخصية عندما قرأوا الرواية المأخوذ عنها الفيلم، بشكل آخر.
أصبح روس يفهم أن صديقته «مورين» كانت تعني بالفعل أنها تتخيل مستقبلها مع شريكها، وأن صديقه «ستيفن» يستطيع رؤية ضفدع يرتدي بدلة. لهذا تسمى هذه الأفعال «أحلام يقظة».
توصَّل روس إلى قناعة أن إصابته بالأفانتازيا العامل الأكبر وراء انخفاض مستواه في اختبار «IQ» في الجزء المتعلق بتجميع الأشكال وتنظيمها. لذلك أيضًا يكمن السبب في ارتباكه المتكرر عند الإجابة عن السؤال التقليدي عن كيف كان يومه؟ أو ماذا فعل في العطلة؟
يا لها من حياة رائعة دون أحلام يقظة أو صور ذكريات
يعرف بليك روس أنه لا يستطيع تصوُّر الوجوه. يعرف حقائق عن سمات الوجه، وما إذا كان الإنسان الذي يفكر فيه يملك سمات جسدية واضحة، فيسجل هذه المعلومة في رأسه. إنه يعرف «حقيقة» الوجه وعناصره الأساسية، لكنه لا يستطيع عرض الصورة في رأسه.
لم يجرب بليك قط أن تلتصق أغنية برأسه بشكل كلي. فهو لا يمتلك خبرة حسية في عقله عن طبيعةٍ يمكن فصلها وتمييزها.
أظهرت نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي، في جامعة إكستير، أن العملية الخاصة بوضع اسم على الوجه يمكن أن تكون منفصلة عن العملية الخاصة بتوليد العقل لصورة من اسم شخص.
لا يقتصر الأمر على الوجوه، بل يمتد إلى الأشكال المجردة. فبليك يوضح أنه لا يستطيع فهم فكرة «مثلث أحمر» مثلاً، أو طاولة حمراء، وهو يعرف أن الناس يستخدمون «عين العقل»، لكنه يدرك أن هذه الخاصية غير موجودة عنده.
لهذا، لم يجرب قط أن تلتصق أغنية برأسه بشكل كلي. فهو لا يمتلك خبرة حسية في عقله عن طبيعةٍ يمكن فصلها وتمييزها. التفكير في الشاطئ لا يجعله هادئًا، ولا يرتعش حين يفكر في عنكبوت، لا يمكنه استدعاء طعم البيتزا أو ملمس قطعة قماش أو رائحة مميزة.
مع أنه ليس من الواضح كم من البشر يمكنهم فعل ذلك، فإن الصور والأصوات الذهنية هي الأكثر انتشارًا، تليها القدرة على إثارة شعور معين على شكل رد فعل (بهجة الحياة بالنسبة إلى الشاطئ أو القشعريرة بالنسبة إلى العنكبوت)، ثم يأتي التذوق والملمس والرائحة.
اقرأ أيضًا: الخطايا السبعة: العلم يشرح كيف تخوننا الذاكرة
كيف يتخيل إذًا؟
هناك حوالي 2% من سكان العالم يعانون من صعوبة تخيل ما يفكرون فيه.
يفكر في اسمٍ بينه وبين نفسه، في حوار داخلي: كعكة مثلًا. ثم يفكر في فعل: يكح. ثم يأتي بصفة: غزير الشعر. بعدها يقول: ماذا لو أن هناك وحشًا غزير الشعر يكح كعكًا؟ والآن يسأل: ما هو شعور الوحش إزاء ذلك؟ هل يريد أن يكون مرعبًا أكثر؟ هل أخذ الموافقة من هيئة الإشراف على الغذاء والدواء؟ هل كلما يكح يفوز بنقاط لخسارة الوزن؟ عطسات الوحش مالحة أم حلوة؟ هل نزلة البرد التي تصيب الوحش لذيذة؟
لو لم تعجبه تجميعة الكلمات التي اختارها، يواصل الارتجال كالمجنون إلى أن يحصل على شيء يثير اهتمامه.
يتذكر روس أنه قد تعرَّض لإصابه في طفولته. فعندما كان يلعب اصطدمت رأسه بسور حمام السباحة، وفقد الوعي. قضى روس عيد ميلاده العاشر في المستشفى، لكنه لا يتذكر لو كان يستطيع تخيل شيء قبل هذه الحادثة.
في دراسة أجراها البروفسيور «بيل فاو»، المختص في علم النفس، على ألفين و500 شخص، في سنة 2009، أشارت نتائج البحث إلى أن نسبة 2% من السكان يعانون من صعوبة تخيل ما يفكرون فيه، لكن حتى الآن لا تتوفر دراسات دقيقة بشكل كافٍ.
لكن، كيف يكتب المرء أعمالًا إبداعية إذا كان عاجزًا عن التخيل؟
يرى روس أنه من الرائع معرفة أنه قدم تجربة للآخرين لم يحصل عليها هو نفسه. فهو «يتخيل» السيناريو بطريقة تجريدية. سيناريو «سيليكون فالي» خفيف من ناحية اللغة الوصفية.
يحب روس الكتابة، ويكره التخيل. لهذا يستطيع أن يكتب 50 مقالًا جافًّا مقابل قطعة واحدة تخيلية.
تختلف الطريقة التي نفكر بها ونتفاعل من خلالها مع الواقع اختلافًا كبيرًا. ليس للعقل البشري نموذج واحد.ودائمًا وأبدًا، فإن الاختلالات العصبية في الإدراك والتفاعل تخبرنا بكثير من الأمور عن الطريقة التي نفكر بها.
عمر علاء