المعارضة السياسية في مصر القديمة: سخرية بالرسم وثورات مسلحة
حَفَل التاريخ المصري القديم بالعمل السياسي، الذي تنوع بين رسم يسخر من الحُكام أو الأوضاع السياسية، أو تنظيم احتجاجات وثورات مسلحة أسقطت أنظمة حكم وأحدثت اضطرابات كبيرة في البلاد.
امتاز الخط الفني الشعبي المصري منذ القِدم بالحس الساخر، فرسم المصريون ملوكهم على هيئة الحيوانات في صور تحمل رموزًا سياسية ساخرة، من بينها تشبيههم بالفئران وتصوير القضاة كحمير.
وفي عصور أخرى، نظم المصريون احتجاجات ضد الحكام في أوضاع اقتصادية صعبة عانوا منها، ووصل الأمر إلى ثورة مسلحة ضد ملك ظالم استمر حكمه قرابة مئة عام، هو بيبي الثاني، الذي دخلت البلاد بعده في فوضى استمرت طويلًا.
توم وجيري فرعوني: رسم يسخر من الحكام
انتشرت الحوارات بين الحيوانات في أدبيات قدماء المصريين، بما يشبه سلسلة «كليلة ودمنة» الشهيرة.
عرف التاريخ المصري ظاهرة فريدة هي الرسم الشعبي الساخر من الحكام والأوضاع السياسية السيئة على «الشقفات» (Ostracon)، وهي قطع من الفخار كانت الوسيلة الوحيدة للتدوين الشعبي، في مواجهة التدوين الرسمي على البرديات وجدران المعابد.
يقول مجدي شاكر، كبير آثاريي وزارة الآثار المصرية، إن الفنان المصري القديم اشتهر برسوماته المتنوعة في جميع مناحي الحياة اليومية، ولم يغب عن باله عند نقد ظاهرة اجتماعية أن يتناولها من خلال رسوم هزلية، مثل إسقاطات تعبِّر عن نقد أوضاع معينة كان يرسمها على قطع الفخار والحجر، وهي رسوم سريعة بلون واحد.
يوضح شاكر لـ«منشور» أن أدبيات قدماء المصريين تزخر بالحوارات بين الحيوانات بما يشبه سلسلة «كليلة ودمنة» الشهيرة، وكذلك «كنا أول من ابتدع توم وجيري قبل ديزني بآلاف السنين، فجميع فئات المجتمع المصري الحاكمة تعرضت للنقد عبر تلك الشقفات، من حكام ورجال دين وقضاة، إضافة إلى المحتل الأجنبي».
وفي عهد الرعامسة، بلغ الناقد غايته في تصوير الأوضاع السيئة في مجتمعه، فرسم القاضي في هيئة فأر يتصنَّع الوقار، ويستند إلى عصاه، ويستخدم قطًّا لتأديب غلام مصري ألقاه حظه العاثر بين يديه، فجلس على ركبتيه يطلب الرحمة، لكن دون جدوى، وهنا يظهر أن القط تحول ليعمل في خدمة الفأر بعد أن كان عدوًّا له، وهذا إسقاط على الأوضاع التي سادت في عصر الرعامسة، وازدياد نفوذ الأجانب حتى أصبحوا عبئًا على المجتمع المصري.
كان الفنان المصري القديم يُدلي برأيه في أوضاع مجتمعه، فالشعب لم يكن خاملًا، بل هادئ يقظ متزن في تعبيره.
يروي مجدي شاكر أن عجوزًا أجنبيًّا كان يجلس في بلاط إخناتون، وكانت زوجته المصرية جالسة أمامه على كرسي منخفض، وكان هناك شاب نوبي يقوم على خدمته، فرسم الفنان نفس المنظر، لكنه صوَّر الأجنبي على هيئة فأر مُنعَّم يجلس على مقعد يشبه السابق، ويشرب الخمر ويمسك زهورًا، ويقوم على خدمته قط كبير، وتصفف قطة شعره، وقطة أخرى ترمز إلى زوجته المصرية.
بعض علماء المصريات يذهبون إلى أن هذه الرسوم كانت بمثابة ترويح عن العمال، وليست تهكمًا من الأوضاع السائدة، لكن هؤلاء، بحسب شاكر، يستكثرون على الشعب المصري أن يكون ناقدًا لأوضاعه، لكن «المصري القديم وجد في هذه الأشكال ذات الهيئات الحيوانية والتصرفات البشرية رموزًا طيعة مستحبة في النقد لِمَا فيها من تشويق، حين يخلع الرسام هيئة الحيوان على الإنسان، ويخلع طباع الإنسان على الحيوان، أو أنها كانت وسيلة تجير أصحابها من عواقب النقد الصريح كلما شاؤوا أن ينتقدوا شخصية كبيرة يخشون من تصويرها بهيئتها الحقيقية».
هكذا كان المصريون القدماء قريبين من أحداث مجتمعهم، يُدلون بآرائهم في الأوضاع، لم يكونوا خاملين، بل هادئين ويقظين ومتزنين في التعبير.
نماذج من السخرية المصرية من الحكام
جَسَّدَ الفنان المصري القطط تخدم الفئران، فهذا قط يحمل طفل الفأر، وآخر يحمل أداة ترويح يدوية، وثالث يقدم له العصير والإوز المذبوح كي يأكله. ومن المعروف شعبيًّا كيف أن الفأر يتَّصف بالجبن. ويتضح من الرسم أن الفنان يريد أن يقول إن الوضع في مصر معكوس، فأصبحت القطط تخاف الفئران الجبانة.
الأمر ذاته يتكرر في عدد من الشقفات، ففي إحداها صوَّر الفنان غزالًا ينافس أسدًا في لعبة شبيهة بالشطرنج، ما يدلل على تقلبات الزمن التي جعلت الأسد يجلس مع فريسته ليتنافسا، والذي يرجح إمكانية فوز الغزال بنسب متساوية مع الأسد.
غير ذلك من الرسومات كثير، فهناك الحمار الذي يجلس على كرسي القاضي في المحكمة، ويعاونه الثور، ويحاكمان أرنبًا ضعيفًا هزيلًا يبدو عليه الرعب، فأين عدالة المحكمة والقاضي حمار ونائبه ثور هائج؟
وهناك شقفة أخرى مرسوم عليها صقر لا يستطيع التحليق، فيصعد إلى الشجرة بسلم، بينما أعلى الشجرة يجلس ثور.
لكن الرسم الذي تكرر كثيرًا، والذي يحمل دلالة سياسية قوية، هو الشقفات التي حواها المتحف المصري في تورينو، فواحدة منها تصوِّر قطًّا يرعى مجموعة من الإوز، وأخرى تصور الذئب يحمي الحملان، في تجسيد فني يشبه المثل المصري الشهير «حاميها حراميها».
الاحتجاجات الفئوية والانقلاب على رمسيس الثالث
خلال الأزمة الاقتصادية في عهد رمسيس الثالث، هاجم العمال مخازن المعبد من شدة الجوع.
شهدت السنوات الأخيرة من حكم الملك رمسيس الثالث عددًا من الاضطرابات، بدأت باحتجاجات فئوية لعمال جبانة المدينة لتأخر مستحقاتهم المادية شهرين، واستغلتها قوى داخل دوائر الحكم للإطاحة بالملك.
يروي أحمد فخري، في كتابه «مصر الفرعونية»، تفاصيل الأزمة الضخمة في آخر عهد رمسيس الثالث، التي انتهت بمقتله.
بحسب فخري، كانت هناك مقدمات للأزمة الاقتصادية التي ضربت مصر، بدءًا بالحروب الضخمة التي دخل فيها رمسيس الثالث للقضاء على جيوش شعوب البحر، ما أثقل على المصريين تَحَمُّل تبعاته الاقتصادية، وكذلك تزايد الاستعانة بالعنصر الأجنبي في دوائر الحكم، حتى صار من بين الأحد عشر أمينًا في القصر الملكي خمسة غير مصريين، وهم من أوعزوا له بالاستعانة بالجنود المرتزقة الأجانب ليكونوا عونًا ضد المصريين الذين أصبحوا يئنون من الأزمة الاقتصادية، الأمر الذي كلفه أموالًا كثيرة.
هاجم العمال مخازن معبد الرمسيوم وهم يصيحون بأنهم جائعون، وتكررت الإضرابات في أكثر من مكان، وطاف العمال المدينة، وتآمر كهنة المعابد ضد الشعب الجائع في الوقت الذي كانت تمتلئ فيه المعابد بالغلال.
وفي الوقت الذي تضوَّر فيه الشعب جوعًا بينما الكهنة يكدسون الأموال والملك منصرف في ملذاته والأجانب يتحكمون فيه، حاول أحد الوزراء تدبير انقلاب في منطقة أتريب (مدينة بنها الآن)، لكن الانقلاب فشل، وكشف أن المدبر الحقيقي كان إحدى زوجات الملك، بعدما رفض رمسيس الثالث تعيين ابنها «بنتاؤور» وليًّا للعهد. بعد ذلك، دفع رمسيس الرابع مستحقات العمال كافة، وشَكَّلَ محكمة أعدمت قادة الانقلاب الفاشل، ومن بينهم أخوه «بنتاؤور».
الثورة المسلحة في عهد بيبي الثاني
ثار الفقراء على الفئة الحاكمة والكهنة ورجال الجيش، وانطلقوا يقتلون ويأخذون من بيوت الأثرياء ويفتحون السجون.
قَدِمَ أحد الحكماء على الملك بيبي الثاني، الذي حكم مصر لمدة تتجاوز 90 سنة، فطلب منه بيبي الثاني أن يكتب له بردية يُفهِمُه فيها ما يحدث في مصر من انفلات أمني وهياج شعبي، لكن كان قد سبق السيف العذل.
عاث بيبي الثاني في الأرض فسادًا وقمعًا، وكثير من المرويات التاريخية تدل على ذلك، منها ما نقله هذا الحكيم في بردية «إيبور ور»، الموجودة بمتحف ليدن في هولندا.
نصت البردية على ما حدث في البلاد، من ثورة الفقراء على الفئة الحاكمة والكهنة ورجال الجيش وغيرهم من الأعيان، فانفلت الزمام الشعبي، وانطلق الفقراء يقتلون ويأخذون من بيوت الأثرياء، وفُتِحَت السجون، وانتشر القتل والسرقة في ربوع مصر، ولم يعد الناس يحرثون أرضهم ولا يدفعون الضرائب، وتوقف عمل الموظفين، وسقطت الحكومة المركزية.
يسخر كاتب البردية مما رآه، فيقول إن الأصلع الذي لم يكن يملك زيتًا أصبح يمتلك الأواني المليئة بخير الطعام والفاكهة، بل وأصبح رجال الأمن في مقدمة ناهبي الأثرياء.
سقطت الأسرة السادسة بسقوط الملك بيبي الثاني، واحتار الناس في ابتكار نظام للحكم، فأنشؤوا مجلس حكم من 70 رجلًا يحكم كل منهم يومًا، لكن الأمر لم يسر كما كان مخططًا له، إذ سعى كل فرد من السبعين إلى التخلص من باقي الحكام.
ظلت مصر على هذا النحو حتى الأسرة الثامنة، التي استمر حكمها 37 عامًا فقط، لكن عهدها لم يخلُ أيضًا من اضطرابات سياسية وأمنية.
الصورة النمطية التي نعرفها عن المصريين القدماء، باعتبارهم شعبًا راضخًا ومستسلمًا للاستبداد، غير صحيحة في المجمل، فالمصريون كغيرهم اشتغلوا بالسياسة، وثاروا على الحُكام، وعبَّروا عن آرائهم علانية، رغم أن ذلك كلفهم كثيرًا.
أحمد أبو درويش