بينالي مراكش: كيف غير أمين القباج نظرة المجتمع المغربي للفن؟
تمتلئ سجلات التاريخ بأسماء زعماء وقادة سياسيين وعسكريين غيروا مسار بلادهم، وتركوا بصمة لا تُمْحَى في حياة شعوبهم. وإن كانت السياسة والحروب الطريق الأكثر شيوعًا لتحويل مصائر البلاد، فإن الفن هو الطريق الأكثر نعومة والأبعد أثرًا في إعادة تشكيل وعي الشعوب، وهناك من اختاروا هذا الطريق لتقديم الخير لبلادهم، فحق علينا الإشادة بهم في حياتهم، وربما تخليد أسمائهم بعد الرحيل.
محمد أمين القباج، أحد هؤلاء القليلين الذين غيَّروا نظرة المملكة المغربية وموقفها من الفن. والمغرب بلد ذو تاريخ عريق، ومعروف بحب أهله لشتى أنواع الفن، ما فتح الباب أمام القباج لإحداث تأثير ملموس من خلال اهتماماته التي جمعت بين النزعة الفنية واحتراف مهنة خدمية في المقام الأول، مثل الهندسة المعمارية، حسبما يورد موقع «OZY».
شعب فنان بطبعه
ظهر محمد أمين القباج ليكون صوت الفنانين المغاربة، وعمل على إيجاد حلول لنقص تمويل قطاع الفن في المغرب، رغم أن الحكومة لا تُعِدُّه من أولوياتها.
من ينظر إلى أي نموذج للقرية المغربية البسيطة يجد أناسًا يعيشون على منتجات أراضيهم الزراعية، وما يربونه من ماشية. لكن وسط هذه الحياة الريفية تجد أيضًا من يحترفون صناعة المنسوجات اليدوية، وزخرفة أبواب منازلهم ونوافذها بمنحوتات بديعة، وتلحظ لمسة فنية راقية في ملابس النساء والرجال في المناسبات الاجتماعية كحفلات الزفاف، فالفن مكون أساسي في الحياة اليومية المغربية.
رغم حب الشعب المغربي للفن بجميع مظاهره، فإن معظم طوائفه تعاني من قلة التمويل والدعم الحكومي اللازم لتطوير النزعة الفنية التي يمكن تحويلها إلى مصدر كبير لرخاء البلاد. زاد من قلة الدور الحكومي في هذا الصدد، ما تعانيه المغرب، من حين إلى آخر، من اضطرابات اجتماعية واتهامات للمسؤولين الحكوميين بالفساد، إضافةً إلى ما تمثله الجماعات الإرهابية المتطرفة من تهديد لأمن البلاد.
محمد أمين القباج، الرئيس التنفيذي لمعرض «بينالي مراكش»، ظهر من بين عتمة هذا الموقف ليكون صوت الفنانين المغاربة، ويصنع لهم المنصة التي طالما حلموا بها، فقد عمل على إيجاد حلول سريعة لمشكلة نقص تمويل قطاع الفن في المغرب، رغم أن الحكومة لا تُعِدُّه من أولوياتها.
أكد عبد الحميد بوسعدي، أحد الشباب المهتمين بالمشهد الفني في مراكش، ومنسق يعمل لدى «TEDx مراكش»، أن القباج متفائل بطبعه، فهو يتصور برنامج الإصلاح الأمثل، ثم يقره مهما بدا باهظ التكاليف أو صعب التنفيذ. وبصفته رئيسًا لمعرض بينالي مراكش، فهو يعمل على إيجاد حلول للتمويل.
حينما يلتقي حب الفن وخدمة الوطن
تمتاز شخصية القباج بتركيبة عجيبة قلما تجتمع في رجل واحد. فهو رجل في بداية الستينيات من عمره، لكن أول ما يلحظه من يراه هو كمية الطاقة والحيوية التي تشع منه على الدوام. يمتهن الهندسة المعمارية، لكنه أيضًا مغامر وعدَّاء من طراز فريد، فقد اجتاز أحد أصعب سباقات الجري، وهو «ماراثون الرمال»، ليس مرة واحدة، بل عشرات المرات.
نشأة القباج تعد استثنائية. فوالده كان يعمل بالتجارة، في حين أن والدته، بعكس معظم بنات جيلها، أتمت مرحلة الدراسة الثانوية، ليولد القباج في مدينة كازبلانكا، ويدرس الهندسة المعمارية في ستراسبورغ وباريس. وعن سبب اختياره لدراسة هذا المجال بالتحديد، يقول القباج إنه يجمع بين عالم الفن والإبداع في مهنة واحدة، إضافة إلى أن الهندسة المعمارية لها مستقبل واعد في بلاده.
القباج رجل ملهِم يعي أن الفنون محرك الإبداع، والإبداع هو الذي يُحدِث التطوير الذي يُنعِش بدوره الاقتصاد.
وجد القباج في الهندسة المعمارية مزيجًا بين حب الفن وولعه بخدمة الوطن بمشروعات تنموية. ففي عام 1992 وقَّع عقدًا مع الحكومة للعمل في مجال التطوير العقاري، تضمن العقد تشييد الفنادق والفيلات الفاخرة، ثم عاد إلى ممارسة دوره الاجتماعي في تشييد المستشفيات في المغرب، وغيرها من البلدان الإفريقية.
المنصب الحالي للقباج، كرئيس تنفيذي لمعرض بينالي مراكش، وضع الرجل في نقطة الالتقاء بين الخدمة المجتمعية وحب الفن، ما سمح له بأن يقف في الصفوف الأمامية المطالِبة بدعم أكبر للأعمال الفنية، والسعي لوضع رؤية إبداعية أكثر تطورًا للفن المغربي.
تأسس معرض بينالي مراكش على يد الناشطة «فانيسا برانسون»، كرد على موجة الكراهية والعنصرية التي اندلعت في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتحق القباج بالعمل مع المعرض عام 2012، ثم أعلنت منظمة «آرتنت» العالمية، ومقرها نيويورك، القباج كواحد ضمن أفضل 20 مشاركًا في المعرض عام 2014.
تقول برانسون إن هناك عدة أنواع من قادة الفكر الثقافي، فقد يكونون أكاديميين أو عاملين بالقطاع الثقافي أو عاشقين للثقافة. والقباج من التصنيف الأخير، فهو رجل ملهِم يعي أن الفنون محرك الإبداع، والإبداع هو الذي يُحدِث التطوير الذي يُنعِش بدوره الاقتصاد.
في الدورة السادسة لمعرض بينالي مراكش، اختار القباج التركيز على مشاركة الفنانيين العرب والأفارقة، موضحًا أنه أراد بذلك إثبات أن الفن والثقافة ليسا حِكرًا على الغرب، وقدم المعرض في تلك الدورة أعمال 45 فنانًا عربيًّا وإفريقيًّا، وهو القرار الذي قوبل بانتقادات من أولئك الذين شعورا بانهم استُبعِدوا من الحدث، من بينهم الفنان «جوردون ديفيدسون».
اقرأ أيضًا: الإنشاد الصوفي في المغرب العربي: تضرُّع إلى الله عبر الموسيقى
التمويل، وعقبات أخرى
يفتخر القباج بأنه سبب في حضور أكثر من أربعة آلاف و500 طفل لبينالي مراكش، لأنه يرى أن المستقبل في التعليم.
للأسف لم تكن جنسية المشاركين في المعرض القضية الأكثر إثارة للجدل، فقد شكَّل نقص الدعم المادي من الحكومة القضية الأخطر. وعن ذلك يقول القباج: «نحن بحاجة إلى دعم حكومي حقيقي. فمعرض بينالي يتلقى دعمًا حكوميًّا عند إقامته في مختلف دول العالم، وهو ما نريده نحن أيضًا في المغرب». وكانت ديون المعرض منذ 2016، قد تسببت في تأجيل إقامته في العام 2018.
لم يشعر القباج بالانهزام أمام هذا التحدي، بل قرر استغلال الوقت المتاح له بعد تأجيل المعرض في إعادة هيكلة موارد بينالي مراكش، وذلك بمساعدة شباب المبدعين، إضافةً إلى مؤسسات المجتمع الفني. وصرح القباج بأنه بصدد عقد سلسلة من ورش العمل التي ستسفر عن الخروج بالقرار الأمثل، وتضع ملامح واضحة لأهداف بينالي مراكش.
يفتخر القباج بأنه سبب في حضور أكثر من أربعة آلاف و500 طفل إلى النسخة الأخيرة من بينالي مراكش، لأن رؤيته تتسع لما هو أكبر من التمويل المالي والمهمة الإبداعية المنوطة بالمعرض. فهو يرى أن المستقبل في التعليم، وفي أن يصبح الفن أحد المنابر التي تسهم في رفع نسب التعليم في البلد الذي تنتشر فيه الأمية بنسبة 32%، ولن يحدث ذلك إلا باعتبار الثقافة أحد فروع العلم الأساسية التي ينبغي تدريسها أسوة بالعلوم الأخرى.
تلخصت رؤية القباج في أن بلاده التي تقع في ملتقى الطرق بين أوروبا وإفريقيا وآسيا، ينبغي أن تدرك ما للثقافة من أهمية. لكن إنعاش الثقافة في الوقت ذاته لا يتوفر إلا بالاهتمام بالتعليم وحرية التعبير، إضافة إلى الدعم الواجب تلقيه من السلطات الحكومية. وينبغي على نواب الشعب أيضًا أن يكونوا هم قادة الفكر الثقافي، وأن يحملوا مسؤولية التفكير في رفاهية شعوبهم التي يمكن أن يحققها ارتقاء الثقافة.
أيمن محمود