رسائل أمل دنقل العاطفية: الشاعر يمارس طفولته ببراءة وحرارة وصدق
بدا كافكا في رسائله العاطفية إلى ميلينا «إنسانًا عذبًا، يتبدى عاشقًا قد استرخى، فى غير انتباه، إلى حين، لآلهات النقمة اللائي يطاردنه»، بحسب ما يقول أحد نقاده، «تشارلز أوسبورن». وكانت «رسالة إلى الوالد» بمثابة محاكمة رهيبة لأبيه، يستحضر فيها جميع عذابات الطفولة التي لم يكن بالإمكان تجاوزها.
أما «أندريه جيد» فقد كان يتوقع العثور على «إله» في رسائل دوستويفسكي، ولكنه اكتشف أنه أمام إنسان بائس، متعَب، مريض، محروم حتى من «البلاغة». وكانت رسائل رامبو «محاولة للبحث عن الجذور بعيدًا عن إلزامية الوطن، وعن الحياة بعيدًا عن طمأنينة الإقامة فيها، أي البحث عن أجوبة جديدة لأسئلة قديمة»، حسب وصف مترجمها شربل داغر.
لا نقيم وزنًا لخطابات الأدباء والفنانين ومذكراتهم وخواطرهم، ولعل السبب نظرتنا إليها على أنها «أوراق شخصية».
تبدو الرسائل التي يتركها الأدباء والشعراء إلى جانب إرثهم الإبداعي وكأنها إرث هامشي قد لا يلفت انتباه القارئ غير المتخصص، ولكنها في الوقت ذاته تمثل جوهر الإبداع حين تكشف عن خبايا حالة المبدع النفسية وآلامه، وانكساراته، وأحزانه، وحتى أحلامه. إنها، حسب تعبير نزار قباني، «الأرض المثالية التي يركض الكاتب عليها، كطفل حافي القدمين، ويمارس فيها طفولته بكل ما فيها من براءة وحرارة وصدق. إنها اللحظات الصافية التي يشعر فيها الكاتب أنه غير مراقَب وغير خاضع للإقامة الجبرية».
الثقافة العربية لم تعرف بالتأكيد كتابة الرسائل باعتبارها شكلًا من أشكال البوح والاعتراف، كما هو متعارف عليه في الثقافة الغربية، تبدو وكأنها ثقافة «الستر والحجب». ليس فقط لأن حرية التعبير مكبلة في دول العالم العربي كلها، أو أن المناخ الثقافي لا يسمح دائمًا أن يقول الإنسان ما يريد، ويضطر إلى أن يفصح عن رأيه في حديث مجالس يختلف كثيرًا عمَّا يكتبه ويعلنه، ولكن أيضًا لأن «الثقافة العربية أسيرة النظرة التقليدية لمفهوم الكتابة بأشكالها المحدودة (رواية، وقصة، وقصيدة)، بينما لا تعطي مساحة للأعمال الأخرى، مثل الرسائل، وتعتبرها هامشية».
منذ ستينيات القرن الماضي، رصد الناقد لويس عوض إهمال الأشكال الأدبية الأخرى:
«لا نحفَل إلا بالأبحاث المنظمة في النقد الأدبي، أو فلسفة الفن، ولا نقيم وزنًا كبيرًا لخطابات الأدباء والفنانين أو مذكراتهم أو خواطرهم المتفرقة في الأدب والفن، وقلَّما نبذل مجهودًا لجمع رسائل أديب أو فنان ونشرها بعد تحقيقها، رغم أهمية ما يرد في هذه الرسائل من آراء تلقي أضواء على الأدب والحياة. ولعل سبب ذلك أننا لا نسمي شيئًا نقدًا إلا إذا قال صاحبه فى عنوانه: هذا نقد فاقرؤوه. أو لعل سببه نظرتنا إلى الرسائل والمذكرات على أنها أوراق شخصية لا يجوز هتك حرمتها».
يضيف عوض: «لو أننا استطعنا جمع خطابات شوقي أو ناجي أو حافظ إبراهيم، أو أي عظيم من عظمائنا الراحلين، «لاستطعنا أن ندرس عصره وعلاقاته وفنه وفكره من خلال خطاباته، كما ندرسها من خلال إنتاجه الرسمي».
ننشر هنا رسائل استثنائية، صاحبها شاعر، لا يحب النثر، لأنه لم يكن يريد أن «يستهلك روحه الشعرية»، هكذا يقول. استثنائية أيضًا لأنها عاطفية، بينما صاحبها اختار منذ البداية أن يقف في المنطقة الشعرية التي يمكن تصنيفها نقديًّا بقصيدة المقاومة، قصائد تشتبك مع الشأن العام بدرجة أو أخرى، لا مكان فيها للتعبير عن العواطف الفردية.
كانت الرسائل وسيلة أمل دنقل للصلح في بعض أزمات علاقته بزوجته عبلة الرويني.
الشاعر هو أمل دنقل (1940 - 1983)، أو «الجنوبي» كما يلقَّب. كتب رسائله القليلة إلى الناقدة عبلة الرويني، التي صارت زوجته في ما بعد. رسائل عاطفية تكشف وجهًا يكاد يكون مجهولًا لكثيرين: وجه العاشق، وهو وجه ظل دنقل حريصًا على إخفائه دائمًا، فهو «لا يُفصح عن مشاعره بسهولة، ولا تدخل قواميسه عبارات الإطراء وألفاظ الحب. إن إخفاء مشاعره وكتمانها سمة غالبة عليه، وعلى الآخرين وحدهم إدراكها دون إفصاح»، مثلما رأته عبلة.
رسائل أمل غير مؤرخة، لكنه أرسلها في الفترة التي شهدت قصة حبه لعبلة، وكانت تلك الفترة قد شهدت عديدًا من الخلافات الشخصية بينهما، وعديدًا من المشاكسات.
في بعض أزمات علاقة أمل وعبلة، كانت الرسائل وسيلة أمل للصلح بينهما. ذات مرة، وإثر خلاف حاد، اتجه دنقل إلى مكتب البريد وأرسل إليها برقية عاجلة: «الآنسة عبلة الرويني، صفحة المسرح بجريدة الأخبار: أرجو إرسال 35 جرام ثقة، التفاهم مطلوب، مع إلغاء التفكير السابق. أخطرونا تلغرافيًّا. أمل».
تقول عبلة: «كانت الخلافات بسبب الاختلاف في وجهات النظر بيننا، عالمي ليس كعالمه، ورؤيته وتجربته وعالمه مختلف عن عالمي، ومن هنا نشأ الخلاف».
ترى عبلة أن أمل لم يكن حادًّا كما يتصور بعضنا إلى هذه الدرجة، بل كان العنف قناعًا يخفي به ضعفه الإنساني. «إنه دائم الخوف من أن يكتشف الآخرون كم أنت رقيق، فيدوسونك بسنابكهم»، مثلما كتب أمل ذات يوم عن صديق له، وكأنه يكتب عن نفسه.
كانت الرقة عند دنقل شعورًا إنسانيًّا عميقًا، هي نبل المشاعر. هذه الحدة كانت تخفت تمامًا عندما كان يستمع إلى الغناء. كان يعشق فايزة أحمد عشقًا خاصًّا، ومحمد عبد الوهاب، وأيضًا فيروز. عندما جاءت فيروز إلى القاهرة لتغني في عام 1976، ذهبت عبلة إلى البروفة الجنرال لتغطيها لصالح جريدة «الأخبار». بدأت البروفات متأخرة، وفي الساعة الواحدة طلبت عبلة أن تنصرف، لأنها تسكن بعيدًا والوقت متأخر، ولا يزال متبقيًا أكثر من ساعتين من غناء فيروز. طلبت من أمل أن يقوم معها لتوصيلها. نظر إليها: «هو لازم أوصلك، ولا ممكن أقعد أسمع فيروز؟».
لم يكن أمل يستمع إلى الغناء فقط، وإنما كان يغني أحيانًا عندما يطلب منه الأصدقاء ذلك، كان يدرك أن صوته لا يصلح للغناء، لكن ما كان يهمه فكرة الغناء نفسها.
في مرة أخرى، عندما علم أن الرويني ستذهب كي تجري حوارًا مع محمد عبد الوهاب، تحمس لمقابلته معها، وكانت حجته أنه سيذهب معها كمصور. كانت تمتلك كاميرا فقيرة رخيصة يستخدمها الأطفال، وعندما دخل أمل على عبد الوهاب بدأ في ممارسة دور المصور، وعبد الوهاب ينظر إلى هذا الشخص نظرة ريبة، وكذلك إلى كاميرا الأطفال التي يلتقط بها الصور.
لم يكن الخلاف بين أمل وعبلة في طريقة التعبير عن المشاعر والحب، وإنما امتد، أحيانًا، إلى السياسة.
عندما كتب أمل قصيدته الشهيرة «خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين»، سأل عبلة عن رأيها فأجابت: «لا أستطيع أن أُعجَب بقصيدة تدين عبد الناصر». قال لها: «إنني لا أكره عبد الناصر، ولكن في تقديري دائمًا أن المناخ الذي يعتقل كاتبًا أو مفكرًا لا يصح أن أنتمي إليه أو أدافع عنه. إن قضيتي ليست عبد الناصر، حتى لو أحببته، ولكن قضيتي دائمًا هي الحرية».
والآن إلى الرسائل، التي تُنشر كاملةً للمرة الأولى.
رسالة أمل دنقل الأولى
بلبل..
لست من هواة كتابة الخطابات، لكنني كلما تحدثت إليك نشأ سوء تفاهم، ربما بسبب لهجتي الحادة في الكلام، وربما بسبب تسرعك في فهم ما أعنيه. على كل حال، أود في البداية أن أخبرك أنني كنت أَمْس على وشك أن أقطع علاقتنا.. كنت مصممًا على ذلك حتى اللحظة الأخيرة في المترو، عندما اكتشفت أنك تبكين.. لقد هزتني دمعتك اليتيمة هزة عنيفة.. على عكس ما تعتقدين، فإن الضعف في الحب وفي المشاعر يؤثر فيَّ تأثيرًا عميقًا.. في هذه اللحظة فقط ندمت على المشاجرة التي حدثت بيننا.
لا تتصوري يومًا أنني يمكن أن أتنازل عن الولاء الكامل في الحب.. إذا كنتِ تحبينني فيجب أن يكون ولاؤك كاملًا لي، وفي الوقت الذي أعطيكِ أنا فيه كل الإحساس بالإخلاص والولاء.. فإنك تحاولين أن تخلقي لديَّ انطباعًا بالعكس.. دائمًا تقولين أنك لا تحبينني، ودائمًا أنت مستعدة للتخلي عني.. سواء كان هذا وحدنا أو أمام الآخرين.. وليكن معلومًا لديك أن علاقة الحب تخصني أنا وأنت فقط.. ولا يهمني كثيرًا ما يقوله الناس، ولكنك أنت حريصة على عيون الآخرين وعلى أفكارهم عنك.. والناس يلعبون دورًا رئيسيًّا في حياتك.. ماذا يقولون عنك؟ ماذا يفهمون من تصرفاتك؟ وأنت تعطين الأولوية لرأي الناس على علاقتك بي، وهذا شيء يضعف من علاقتي بك، لأنني لم أتعود الاهتمام كثيرًا في هذه الأمور الخاصة بآراء الآخرين.
وإذا تجاوزنا هذه النقطة فإن كبرياءك الشخصي يلعب الدور الرئيسي في ردودك الجافة على كلامى..أنت تتوهمين اللباقة شيء غير هام في حديثك معي.. والحب يا آنستي يحتاج إلى ذكاء كبير لاستمراره.
أنا أعرف أنك تحبينني.. ولكن ردودك الجافة فقط كفيلة بأن تهدم عش زوجية كامل وليس مجرد علاقة حب. ولولا أنني أعرف أنك لا تقصدين المعاني الحقيقية للكلمات لكنت قررت أن أتركك منذ بداية علاقتنا، ولقد حاولت كثيرًا أن أُفهمك أنه لا يوجد كبرياء خاص لكل منا، إن كبرياءك من كبريائي. واللحظة التي أحس أنك تقدمين فيها تنازلًا لي هى اللحظة التي أحس أنك تحبينني فيها حقيقةً، ولكنك ما تزالين حتى الآن مصرة على أن تخفي عواطفك الحارة نحوي.. وإذا اضطررت يومًا ما إلى إظهارها فإن ذلك يكون مجرد رد على عواطفي.....
كل هذا الكلام قلته لك من قبل، ويؤسفني بعد مرور حوالي 10 شهور على تعرفي بك فإنني أكرر لك نفس الكلام.. هل هو سوء فهم منك أم أنك تأخذين كلامي معك على محمل غير محمل الجد. لا أدري، ولكنني أعرف أنني وصلت إلى حالة من التشبع الكامل بالنسبة لتصرفاتك... لاحظي أنني أصبحت أعرف ردودك على كل جملة أقولها لك تقريبًا.. وأعرف ردود أفعالك على كل تصرف أقوم به. أليس معنى ذلك أنك لا تستطيعين التجديد في علاقتك بي.. إذا لم نقل أنك لم تتغيري جوهريًّا على الإطلاق في هذه العلاقة التي تربطك.. وعلاقة الحب التي لا تغير الإنسان من الداخل تعتبر في حقيقة الأمر علاقة فاشلة. أو علاقة سطحية. وهذا هو ما أعتقده في علاقتي بك. نتيجةً لكل التصرفات التى تتصرفينها. إني أحتاج إلى كثير من الحب وكثير من الوفاء وكثير من التفاني إذا صح هذا التعبير ولكنك لا تعطينني أى شيء.. لدرجة أنك إذا أحسست أني محتاج إلى كلمة حب رفضت أن تنطقيها.. وإذا طلبت منك طلبًا صغيرًا فأقرب شيء إلى لسانك هو كلمة الرفض. إن قلبك فقير جدًّا لا يستطيع أن يكون وسادة لمتعَب أو رشفة لظمآن. والمشكلة الأساسية أنك تتعاملين معي كما كنت تتعاملين مع الآخرين.. أهلك وأصدقائلك ومعارفك. لا، الحب علاقة مختلفة.. على الأقل علاقة الحب بي يجب أن تكون مختلفة.. إنني لا أبحث فيك عن الزهو الاجتماعي ولا عن المتعة السريعة العابرة.. ولكني أريد علاقة أكون فيها كما لو كنت جالسًا مع نفسي في غرفة مغلقة. هذا إحساس لا أظنك تستطيعين فهمه لأنك لو كنت تفهمينه لما أضطررت الآن بعد عشرة شهور لأكتب هذا الخطاب لك.
وتقبلي...
أمل
رسالة أمل دنقل الثانية
بلبل
لو لم أكن أحبك كثيرًا لما تحملت حساسيتك لحظة واحدة.. تقولين دائمًا عني ما أدهش كثيرًا عند سماعه، أحيانًا أنا ماكر، وأحيانًا ذكي، رغم أنني لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء في التعامل معك؛ لأن الحب وسادة في غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتي، ربما كنت محتاجًا إلى استخدام المهارات الصغيرة معك في بداية العلاقة؛ لأنني كنت أريد أن أفهمك بحيث لا أفقدك، أما الآن فإنني أحب الاطمئنان الذي يملأ روحي عندما أحس بأن الحوار بيننا ينبسط ويمتد ويتشعب كاللبلاب الأخضر على سقيفة من الهدوء.
أكثر شيء أخافه هو تربيتك أو بالأحرى حياتك، ففي العادة تبحث كل الفتيات اللاتي لهن مثل ظروفك من الأمان في البيت والعمل عن قدر من القلق والانشغال، وأنا لا ألومك في هذا بل وأصنعه لك متعمدًا في كثير من الأحيان.
ولكن لا تنسي أنني رجل بدأت رحلة معاناتي من سن العاشرة، وفي السابعة عشرة اغتربت من كل ما يمنح الطمأنينة حتى الآن، وأعتقد أن السهم الوحيد الذي يمكن أن يصيبني في مقتل سوف يجيء من امرأة، ولذلك اتسمت علاقاتي دائمًا بالرفض.
كنت أستغرق في الحب لكنني في صميمي كنت هاربًا من التمسك به، وأحيانًا كانت تصرفاتي واختباراتي لمن أحب توحي للناظر من الخارج بالجنون، ونقلتُ لك منذ البداية أنني أطلب ولاء مطلقًا، لكنني قلت لك أيضًا إنك لو عرفتني جيدًا فلن تتركيني، إنني أحس بالرقة النبيلة التي تملأ أعماقك كسطح صافٍ من البللور، لكنني أخشى دائمًا أن يكون هذا مؤقتًا، لقد علمتني الأيام أن القلب كالبحر لا يستقر على حال.
...
لقد قتلتُ عبر سنوات العذاب كل أمل في الفرح ينمو بداخلي.. قتلت حتى الرغبات الصغيرة والضحك الطيب؛ لأنني كنت أدرك دائمًا أنه غير مسموح لي بأن أعيش طفولتي، كما أنه من غير المسموح أن أعيش شبابي.. كنت أريد دائمًا أن يكون عقلي هو السيد الوحيد، لا الحب ولا الجنس ولا الأماني الصغيرة.. لقد ظللت حتى أعوام قليلة أرفض أن آكل الحلوى، وأنها في نظري لا ترتبط بالرجولة، وظللت لا أقبل كلمة رقيقة من امرأة؛ لأنني أضطر عندئذ إلى الترقق معها، وهذا يعني بلغة إحساس التودد لها، وهو يمثل الضعف الذي لا يُغتفر، وقد لا تعرفين أنني ظللت إلى عهد قريب أخجل من كوني شاعرًا؛ لأن الشاعر يقترن في أذهان الناس بالرقة والنعومة، وفجأة ها أنت تطلبين مني دفعة واحدة أن أصير رقيقًا وهادئًا وناعمًا يعرف كيف ينمِّق الكلمات.
اللحظات الوحيدة التي يمكن أن أكون نفسي أنا، وأؤمن أيضًا أنك ستكونين نفسك أنت معي، هي اللحظات التي تحرصين على رفضها، لا أعرف لماذا لكنني أحترم رفضك هذا؛ ليس لإيماني بما ترددينه عن المجتمع والناس، لكنني لا أستطيع أن أجبر إنسانًا على أن يكون صادقًا معي إلا إذا أراد هو ذلك، وما دام لم يهب لي هذا الصدق من تلقاء نفسه، فمن العبث التحايل والتسلل إلى لحظات الصدق النورانية التي اكتشفت فيها ذاتي القلقة، وأريد أن يستمر هذا الاكتشاف معك إلى ما لا نهاية.
لا أحب النثر كثيرًا، لكن هذه القضية الشديدة الخصوصية تجعلني على مفترق الطرق عن مدى استعدادك لتحمل هذا الذئب المتوحِّد الذي يلبس دائمًا عباءة القط أو الكلب الذي يتودد إلى صاحبه..
وأعتقد أن هذا التشبيه سخيف، ولكنه ليس أسخف مني عندما أشرح نفسي بهذا القدر من الوقاحة النفسية مع فتاة من المفروض أنها تحبني، وبالتالي تفهمني أكثر مني.
رسالة أمل دنقل الثالثة
صباح الخير
في المثلث الشمسي الممتد من الشباك إلى زاوية سريري، أراك متمددة في الذرات الذهبية والزرقاء والبنفسجية التي لا تستقر على حال تمامًا كنفسيتك، ومع ذلك أبتسم لك وأقول صباح الخير، أيتها المجنونة الصغيرة التي تريد أن تلفَّ الدنيا على أصبعها، والتي تمشي فوق الماء وتريد ألا تبتل قدماها الفضيتان.
المسافة بين أمس واليوم -لقاؤنا الممتد- طريق ينشق في قلبي، في كل مرة أضطر إلى أن أتركك أحس أن لقاءنا الأول هو لقاؤنا الأخير، والعكس صحيح.. لا أعرف تمامًا لماذا هذا الإحساس، لكني أرجح أنه نابع من إحساسي بتقلبك الدائم وبحثك المستمر عن الحزن، لا أريد أن أفكر كثيرًا في خلافاتي معك، فهذا الصباح أجمل ما فيه أنه يقع بين موعدين، بين ابتسامتين من عينيك، صحيح أنهما سرعان ما تنطفئان، لكني أسرقهما منك، وأحتفظ بهما في قلبي، وأتركك تغضبين وتغضبين.حسنًا لا يهم؛ فلقد عوَّدت نفسي على أن أعاملك طبقًا لإحساسي وليس طبقًا لانفعالاتك.. أحبك ولا أريد أن أفقدك أيتها الفتاة البرية التي تكسو وجهها بمسحة الهدوء المنزلي الأليف، هل تصدقين أنني أصدِّق كل مواعظك الأخلاقية الصارمة؟؟ لو صدقتِ أنت أني أصدق لألقيتني في أول سلة مهملات معلقة في أعمدة الشارع، ولو صدقتُ أنا خُطبك البليغة لقدمت لك طلبًا لعضوية جمعية مكارم الأخلاق، وتركتك تتزوجين رئيسها المبجَّل.
أحبك كثيرًا، لا أعرف الحالة التي أحبك عليها ولا أريد أن أعرف، لكنني أحسُّ بالحب لك في كل الحالات، حتى عندما ينشط عقلك ويتصاعد في أبخرة الأوهام والتحليل العصبي والتنقيب في أشياء لا وجود لها، أحبك مبتسمة وغاضبة، حاضرة وغائبة، راقصة المشية أو هامدة الجسد، حتى عندما تقولين لي لا أحبك فإنني أحبك؛ لأنني أعرف أن هذا معناه عكس ما تقصدين تمامًا يا حبيبتي الصغيرة..
صباح الخير أخرى.. سأحاول أن أعود للنوم؛ فالساعة الآن لم تتجاوز العاشرة، هناك أربع ساعات باقية على موعدك، وأنا لم أنم جيدًا، سأحاول أن أنام، أن آخذك بين ذراعيَّ، وأخبئ رأسك العنيد في صدري لعله يهدأ ولعلي أستريح.
محمد شعير