تقنيات الذكاء الصناعي: هل حان أوان القلق بشأن مستقبلنا؟
في أفلام ومسلسلات الخيال العلمي، كثيرًا ما يُصوَّر ذلك المستقبل الذي تحاكي فيه الآلات ذكاء الإنسان بل وتتجاوزه، فتحل الآلات الذكية القادرة على التفكير والإدراك محل البشر.
تحذر هذه الأعمال السينمائية من التداعيات التي قد تنتج في حالة ما إذا تمردت الآلة على خالقها، وتمكنت من إزاحته عن عرشه، إذ أن كل ما سيتبقى للجنس البشري في ذلك المستقبل المتخيَّل هو المقاومة والثورة على أسياد العالم الجدد، في محاولة يائسة لاستعادة ما فقدوه.
قد تبدو هذه التطورات المحتملة للذكاء الصناعي، التي لا تكُف السينما ووسائل الإعلام عن الحديث عنها، منطقية وشرعية، خصوصًا إذا علمنا أن شخصيات مؤثرة مثل «ستيفن هوكينغ» و«إلون ماسك» و«بيل غيتس» أعلنوا بدورهم أن التطور المهول لهذه التقنيات ربما يمهد لفناء الجنس البشري.
بدأت تقنيات الذكاء الصناعي فعلًا تطرق مجالات كانت تُعتَبر في وقت مضى حكرًا على الإنسان، بدءًا بالقيادة الآلية الآمنة، والتفوق على أبطال العالم في لعبتي الشطرنج و«غو» والكشف المبكر عن السرطان، وانتهاءً بأشياء مثل الكتابة وتأليف الموسيقى والرسم.
لكن، وفي ظل كل التقدم الحاصل في هذا المجال، هل يعني هذا أن المستقبل سيكون تحت سيطرة الآلات الذكية؟ هل ستتمكن البيانات الضخمة والتعلم العميق وتعلم الآلة من التوصل إلى تقنيات ذكاء صناعي توازي في عملها ذكاء الإنسان وتتفوق عليه؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، يستعرض عالم الأحياء التطوري «فيل مادجويك» في مقاله المنشور على موقع «Medium» بعض الأفكار والرؤى التي قد تهون من قلقنا المتزايد من مستقبل يحكم فيه الذكاء الصناعي.
الذكاء الصناعي.. ذكي أم لا؟
يبدأ المقال بذكر تجربة الغرفة الصينية التي اقترحها الفيلسوف الأمريكي «جون سيرل» في عام 1980، والتي لا تزال، حسب قوله، دون حل.
باستخدام هذه التجربة، توصل سيرل إلى أن أجهزة الكمبيوتر قادرة فقط على التلاعب بتركيب وبناء الجمل دون فهم الدلالة اللغوية للألفاظ المستخدمة، وبالتالي يبقى كل ذكاء يظهره الكمبيوتر متأثرًا بتفسيرنا الخاص له، كما خرج كذلك بنتيجة تقول إن هناك فرقًا بين المحاكاة (تصوير كمبيوتر لعملية الهضم) والنَّسْخ (عملية الهضم الحقيقية).
دعمًا لهذا التصريح، يرى الفيلسوف «دانيال دينيت» أن إمكانية تطوير ذكاء صناعي يماثل ذكاء الإنسان هدف بعيد المنال، ويشير في فرضيته إلى أننا غالبًا ما نقدِّر قُدرة الآلات على الفهم بشكل مبالغ فيه، لأننا نميل إلى الربط بين مفهومي الكفاءة والقدرة على الفهم والاستيعاب.
في المقابل، يصرح الفيلسوف «نيك بوستروم» أنه في حالة إذا كانت قدرة الذكاء الصناعي على المحاكاة جيدة بما فيه الكفاية، فإن الفرضية التي تسوق القدرة على النَّسخ كشرط رئيسي على تحقق ذكاء فعلي تصبح بلا فائدة، لأن النقاش يتعدى، عند هذه النقطة، استنساخ الأداء المعرفي للإنسان وكيفية عمل الدماغ.
النتيجة التي سيؤدي إليها إقصاء القدرة على الفهم من المعادلة هي تطوير ذكاء صناعي يتفوق في عمله على الإنسان، لكن لا قدرة له على الوعي بهذا التفوق.
قد يهمك أيضًا: قريبًا يودعنا الهاتف الذكي.. ينتظرنا عالم أكثر ذكاءً
مع ذلك، هناك من يرى أن القدرة على مواجهة العقبات وسط بيئة معقدة، التي أصبحت في متناول تقنيات الذكاء الصناعي، لا تتحقق إلا بوجود ذكاء فعلي كالذي لدى الإنسان، ومن بين هؤلاء أستاذ العلوم المعرفية «دوغلاس هوفستاتر»، الذي يزعم أن جميع الآلات التي لديها ذكاء شبيه بالإنسان ستكون بالتأكيد واعية تقريبًا.
هل يتفوق الذكاء الصناعي على الإنسان؟
مع التقدم الذي أُحرز في هذا الميدان خلال السنوات القليلة الماضية، أصبحت تقنيات الذكاء الصناعي تستخدم شبكات واسعة من العمليات الحسابية المرتبطة في ما بينها، في محاولة لمحاكاة كيفية معالجة الدماغ للمعلومات.
انطلاقًا من هذا، يرى بوستروم أن تلك التقنيات ستكون أداة فعالة في تطوير نماذج ذكاء صناعي شامل، يمكنها أن تكون قادرة على مواجهة مواقف الحياة اليومية مثلما يفعل الإنسان، وذلك بالرغم من كونها لا تستنسخ بالضبط جميع العمليات التي تجري في الدماغ.
بالنسبة إلى الباحثين والمختصين في هذا المجال، فمحاولات فك لغز الذكاء سيُكتب لها النجاح إذا تم تطوير ذكاء صناعي شامل، يُعرَّف بأنه شبكة مترابطة من تقنيات التعلم الآلي التي يمكن وضعها في أي بيئة ومع ذلك يبقى أداؤها جيدًا و يتحسن باستمرار.
من هذا المنطلق، تعمل شركة «غوغل ديب مايند» على ابتكار تقنيات تمكِّن نفس برمجيات الذكاء الصناعي من ممارسة مجموعة واسعة من ألعاب الكمبيوتر، ممَّا يؤدي إلى تفوقها الكلي على الإنسان، وهكذا تصير هذه البرمجيات قادرة ليس فقط على الفوز في نوع محدد من الألعاب، بل في جميع الألعاب التي تتطلب الحَدْس، والتي كان يُعتقد أنها حكر على الإنسان.
يختلف تعريف «الذكاء المماثل لذكاء الإنسان» بين أن يكون مرادفًا للكفاءة أو يكون القدرة على الفهم.
يبقى النقد الذي قدمه جون سيرل ساري المفعول، إذ أن ما فعلته شركة «غوغل ديب مايند» كان تحديد نموذج وظيفي معين ينفذه برنامج الذكاء الصناعي وفقًا للبيانات التي تصله من الخارج، والوظيفة المبرمَجة تحدد استجابته، ولن تخرج بالتالي عن هذا الإطار، أي أن عمله يقتصر على تحليل تركيب الجُمل دون معرفة دلالاتها ومعانياها.
قد يعجبك أيضًا: تعرَّف إلى دماغ «غوغل» والعقول التي تقف خلفه
الذكاء.. ما هو؟
ينقسم طرفا النقاش بشأن الذكاء الصناعي إلى قسمين: مَن يعتقد أن الذكاء الصناعي غير قادر على تطوير ذكاء شبيه بذكاء الإنسان، ومن يرى أنه قادر على هذا، لكن هذا النقاش المحتدم، وفقًا للمقال، يخفي بين طيَّاته تعقيدات تواجه من يحاول وضع تعريف محدد لما يُطلق عليه «الذكاء المماثل لذكاء الإنسان».
اقرأ أيضًا: مسلسل «Westworld» يثير التساؤل: هل نعيش في واقع افتراضي؟
هناك من يجادل بأن الذكاء مرادف للكفاءة، وهناك من يعتبر الذكاء إشارة إلى القدرة على الفهم. لكن، بعيدًا عن الجدل الدائر بين الفريقين، يبقى التعريف الذي يستخدم على نطاق واسع، سواء بين المختصين أو العامة، هو الذكاء باعتباره مقابلًا للكفاءة.
هذا التركيز على الكفاءة عوض الفهم أمر جيد في نظر «دانيال دينيت»، لأنه يعني أن الكمبيوتر في هذه الحالة مجرد أداة تحتاج دومًا إلى تدخل الإنسان، عكس ما سيحدث إذا تمكن الكمبيوتر من الفهم، لأنه سيكون في تلك الحالة زميلًا في العمل له استقلاله الذاتي.
يؤكد دينيت أن على أبحاث الذكاء الصناعي أن تركز على إنتاج أدوات تعزز قدرة البشر وتحسن من حياتهم، عوضًا عن السعي لخلق نظراء يتنافسون معهم على الوظائف والمراتب. ولذلك ينبغي على الذكاء أن يكون مؤشرًا على الكفاءة، نظرًا لأن الذكاء الصناعي الكفء وغير القادر على الفهم سيكون مأمون الجانب.
الذكاء الصناعي والآلات العاقلة
هل نستطيع قول إن الذكاء الصناعي يمكنه أن يهدد البشرية بالفناء؟
عند الحديث عن هندسة تقنيات الذكاء الصناعي يجب التفريق بين مسألتين: محاولة توليد ذكاء صناعي يحل المشكلات باستخدام برمجيات معينة، ومحاولة خلق آلات واعية قادرة على الإدراك والفهم والإحساس.
في حين يعتمد الذكاء الصناعي على تقنيات إحصائية تحلل كمًّا هائلًا من البيانات الضخمة، ويؤدي وظيفة محددة لا يخرج عن قيودها بقصد حل المشاكل المعقدة التي تقدَّم إليه، تهدف فكرة الآلات العاقلة إلى خلق آلات قادرة على الفهم، وعلى استيعاب محيطها والوعي بوجودها.
إذا تمكنَّا من إنشاء آلات لها تلك القدرات، فإن هذا سيقتضي أن تكون لها استقلاليتها الخاصة وحرية الاختيار، بحيث يمكن الوثوق بها كما يثق البشر في بعضهم.
لكن، يبدو أن الأبحاث في هذا المجال تبقى بطيئة، ممَّا يعني أن مستقبلًا نتناقش فيه مع الآلات في مسائل وجودية تؤرقنا وتؤرقها ما زال بعيد المنال.
هل ينبغي أن نقلق من مستقبل تسيطر فيه الآلات على مجريات الحياة على كوكب الأرض؟ هل يمكن أن نقول إن الذكاء الصناعي «ذكي» فعلًا ويمكنه أن يهدد البشرية بالفناء؟
إذا كان تعريفنا لمفهوم الذكاء هو القدرة على الفهم فالجواب سيكون «لا»، أما لو كان التعريف هو الذكاء كمرادف للكفاءة والقدرة على حل المشكلات، فإن الجواب «نعم».
في الوقت الحالي، ينبغي أن لا نتخوف من المستقبل الذي تصوِّره وسائل الإعلام والسينما، لأن بحوث الذكاء الصناعي لديها شوط طويل لتقطعه قبل أن تكتشف وتقدم دليلًا على قدرة الآلات على الوصول إلى ذكاء واسع النطاق يهدد الجنس البشري.
إدريس أمجيش