360 درجة: صحافة دون زوايا محددة
في خريف 2015، عندما نزح آلاف اللاجئين إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط ,عبر ما يسمى «طريق البلقان»، نشرت وسائل الإعلام المحلية والعالمية عددًا من التقارير عن وصول اللاجئين، وظروف معيشتهم، وما يتعرضون له في الطريق إلى بلدان معينة، مثل بريطانيا وألمانيا.
كانت أغلب التقارير التلفزيونية، أو الموجهة إلى منصات التواصل الاجتماعي، عادية جدًّا، بل أحيانًا متشابهة، تحتوي على نفس الصور ونفس الزوايا: قوارب مُحمّلة باللاجئين الأفارقة، أو بآلاف السوريين الفارين من أهوال الحرب، من اليونان إلى ألمانيا عبر دول البلقان. لكن هيئة الإذاعة البريطانية «BBC» أنتجت قصصًا مصورة بتقنية 360 درجة، حملت المُشاهِدين إلى قلب الحدث من دون تحديد الزوايا ولا انتقاء الصور.
«بي بي سي» لم تكن الوحيدة، فصحافة الـ360 درجة، وأيضًا صحافة الواقع الافتراضي، عرفتا انتشارًا كبيرًا واستخدامًا ملحوظًا في تغطية الأزمات الإنسانية والحروب، واتخذت وسائل إعلام عالمية وعربية من هذه التقنيات فرصة لتجارب صحفية تفاعلية مختلفة عن ما عرفه الجمهور في الماضي.
كيف تعمل تقنية الـ360؟
فيديوهات الـ360 درجة، أو ما يُطلَق عليه أيضًا الفيديوهات الغامرة (Immersive) أو الكروية (Spherical)، هي مقاطع فيديو يتم تصوير كل زواياها في نفس الوقت باستعمال كاميرا متعددة الاتجاهات، أو مجموعة من الكاميرات المثبتة لتغطية حقل بصري بانورامي كامل.
هناك أيضًا تطبيقات تسمح بتصوير فيديو بتقنية 360 درجة، بدلًا من الكاميرا متعددة الاتجاهات، التي يمكن أن تكون باهظة الثمن.
هذه التطبيقات تخلق واقعًا افتراضيًّا بتقنية 360 درجة بطريقة سهلة، تتمثل في جمع الصور تلقائيًّا بواسطة التطبيق، ثم دمج مقاطع الفيديو عبر الضغط المُطوّل لملء فراغ بمثابة حيز ثلاثي الأبعاد، وتكون النتيجة مقطع فيديو متعدد زوايا المشاهدة، لكن بجودة أقل بكثير من تلك التي صُوِّرَتْ باستعمال هواتف مزودة بكاميرا متعددة الاتجاهات مخصصة للغرض نفسه.
يسمح يوتيوب بتحميل مقاطع فيديو بزاوية 360 درجة وتشغيلها، لكن يستغرق تحميلها وقتًا أطول من ملفات الفيديو العادية.
لا تزال تقنية فيديو الـ360 درجة في مراحلها الأولى، وتنمو تدريجيًّا بتقدم التكنولوجيا وتطورها. لكنها تسمح لك بأن تكون جزءًا من القصة، فأنت الذي تختار بنفسك الزاوية التي تشاهد منها التقرير الصحفي، وليس المراسل الذي عادةً ما يحدد الزوايا والأماكن التي تراها في التقرير.
يسمح يوتيوب بتحميل مقاطع فيديو 360 درجة وتشغيلها، لكن يستغرق التحميل وقتًا أطول من ملفات الفيديو العادية.
يمكن لك أن تحرك فيديو 360 درجة في كل الاتجاهات لمشاهدته من زوايا مختلفة. وتحتوي هذه المقاطع عادةً على شارة ترمز إلى بوصلة صغيرة في الجانب الأيمن العلوي للشاشة، ويمكن عرضها على أجهزة الكمبيوتر وiOS وأندرويد.
أما لو كنت تمتلك نظارة واقع افتراضي (مثل سامسونغ «Gear VR») فيمكنك مشاهدة الفيديو في الواقع الافتراضي عبر تحريك الرأس في كل الاتجاهات الممكنة.
360: الكاميرا تحملك إلى قلب الأدغال
نشرت «روسيا اليوم» فيديو بتقنية 360 درجة لتغطية إخلاء مخيم «كاليه»، قدّم صورة أكثر وضوحًا من الفيديوهات العادية.
تقرير «بي بي سي» الإخباري الذي صُوِّر بتقنية 360 درجة في مخيم «كاليه» شمالي فرنسا لم يكن عاديًّا، إذ يسمح لك بمرافقة مراسل القناة في جولته عبر المخيم، الذي يسمى أيضًا «الأدغال»، وكان أحد أكبر مخيمات المهاجرين في فرنسا قبل تفكيكه على يد السلطات في أكتوبر 2016.
منذ سنوات، يحاول المهاجرون القاطنون في المخيم العبور إلى بريطانيا عن طريق القفز في الشاحنات العابرة للنفق، أو التسلل إلى البواخر التي تشق بحر المانش. وأسهمت أفواج المهاجرين القادمة في 2015 بأعداد مهولة في تردي أوضاع المخيم، وارتفاع نسبة العنف والجريمة بين اللاجئين.
«يقع المخيم على الشاطئ الصخري، ويبدو كأنه في قارة أخرى». هكذا يعلّق مراسل «بي بي سي» خلال جولته، إذ حاور عددًا من اللاجئين القادمين من دول إفريقية، كالسودان وإريتريا، واستمع إلى قصص عبورهم البحر الأبيض إلى أوروبا.
الجولة المصورة بتقنية 360 درجة، والمُرفقة بتعليق صوتي، تُعطينا فرصة اكتشاف المخيم عبر كل زوايا المشاهدة، والاطلاع على الظروف الحقيقية التي يعيشها اللاجئون.
يتجول المراسل بين الخيام المنصوبة عشوائيًّا في المخيم للحديث مع لاجئين لا يفصلهم عن الوصول إلى بريطانيا غير تسلق شاحنات كبيرة متجهة إلى هناك، ويَظهر بعضهم في مقطع الفيديو يعتلون الشاحنات على قارعة الطريق. يسألهم المراسل عن سبب المخاطرة، فيجيبه أحدهم: «لدينا حلم».
في أكتوبر 2016، نشرت قناة «روسيا اليوم» فيديو 360 درجة لتغطية إخلاء مخيم «كاليه» على يد السلطات الفرنسية. أظهر الفيديو آلاف اللاجئين يغادرون المخيم في صفوف طويلة جدًّا. الفيديو كان قصيرًا، لكنه قدّم صورة أكثر وضوحًا من مقاطع الفيديو العادية.
قد يهمك أيضًا: الأفلام الوثائقية ترسم معالم الحرب في سوريا
كاميرات على خطى المنكوبين
في 2015، أنتج مركز الجزيرة الإعلامي للتدريب والتطوير مجموعة من مقاطع الفيديو بتقنية 360 درجة لرصد معاناة اللاجئين السوريين في أحد مخيمات البقاع اللبناني، وسلطت هذه الفيديوهات الضوء على واقع اللاجئين بالمخيمات، وسمحت للمشاهدين بمشاركة بعض من قصص أطفال المخيم وآلامهم.
لم تكن فيديوهات «بي بي سي» الوحيدة التي أضافت إلى أزمة اللاجئين بُعدًا جديدًا، فـ«+AJ» أنتجت أيضًا تغطية 360 درجة لأزمة الروهينغيا.
وفي نهاية العام نفسه، أنتجت «بي بي سي» أيضًا فيديو 360 درجة في أحد المخيمات السورية في لبنان.
يطوف المراسل بالكاميرا ليُظهر لك مجموعة من الأطفال، ويصف ظروف العيش في المخيم. ثم تأخذك الكاميرا إلى إحدى القاعات، حيث تجتمع لاجئات سوريات لممارسة أنشطة مثل الخياطة ومشاهدة التلفزيون، وتنظر إحداهن إلى الكاميرا بطريقة عفوية ومرحة تجعلك تنسى أنهن هاربات من الحرب. يبدو المشهد طبيعيًّا للغاية، خصوصًا مع إمكانية تحريك زاوية المشاهدة والتجول افتراضيًّا في القاعة. بعدها تنتقل الكاميرا إلى الخارج، فنرى شابًّا سوريًّا من مدينة إدلب يجلس مع إحدى قريباته المُسنّات الهاربات من الحرب.
مدة الفيديو لا تتجاوز دقيقة ونصف، لكنها كافية للاطلاع على مشاهد يومية من حياة ملايين اللاجئين في المخيمات. وللفيديو جانب إنساني يجعلك تنسى أن هؤلاء هاربون من الحرب ويعيشون ظروفًا قاسية، إذ يظن المُشاهِد أنه أمام مشهد يومي روتيني لعائلات تعيش في ظروف عادية، يمارس الناس أعمالهم، ويلعب الأطفال.
لم تكن فيديوهات «بي بي سي» الوحيدة التي أضافت إلى أزمة اللاجئين بُعدًا جديدًا، فـ«+AJ» أنتجت أيضًا تغطية 360 درجة لأزمة الروهينغيا عبر بورتريه لـ«جاماليدا»، وهي امرأة هاربة من ميانمار إلى بنغلاديش.
لا يحتوي الفيديو فقط على صور المخيم الذي يأوي إليه آلاف الروهينغيا الهاربين من القمع والإبادة، بل يروي أيضًا قصة هروب عائلة جاماليدا الصغيرة. وبالإضافة إلى تقنية التصوير بـ360 درجة، يعيد الفيديو بناء مَشاهِد الهجوم على قرى الروهينغا وتدميرها باستعمال التأثيرات البصرية والنماذج ثلاثية الأبعاد، التي جعلت من الفيديو أكثر من مجرد تصوير متعدد الزوايا، بل تجربة من الصحافة التي تتيح الفرصة للتفاعل مع القصة.
اقرأ أيضًا: الروهينغيا: كل ما تود معرفته عن مأساة ميانمار الإنسانية
يُنتج صحفيو «نيويورك تايمز» فيديوهات 360 درجة لتقديم الخبر بطريقة أخرى. ينقل أحدها فكرة عن الحرب في اليمن، والخراب الذي حل بالعاصمة صنعاء، أنتجه المصور «تايلر هيكس» الحائز على جائزة بوليتزر، والمراسل «بن هوبارد.»
الجريدة الجريدة الأمريكية أطلقت تطبيقًا جديدًا بالتوازي مع وثائقي يدعى «المهجّرون»، لتسليط الضوء على محنة ثلاثة أطفال لاجئين من منظورهم الخاص.
لم تتمكن مقاطع الفيديو العادية من إظهار حجم الخراب الذي قد يحل بمدينة ما خلال الحرب كما أظهرته فيديوهات 360 درجة. الجولات المصورة في أحياء شرق حلب بتقنية 360 درجة، التي أنتجتها قنوات مثل «روسيا اليوم» ومنصات سورية محلية، أظهرت حجم الكارثة الإنسانية التي حلت بالمدينة.
كذلك، حلّقت كاميرا «بي بي سي» فوق مدينة الموصل العراقية لإنتاج فيديو بتقنية 360 درجة يُظهِر اشتباكات الجيش العراقي مع مسلحي تنظيم داعش. يرافق الفيديو شرح مفصل لتمركز التنظيم في الموصل، ما كان له أثر كبير في المشاهدين، الذين اكتشفوا جمال المدينة التي رأوها من السماء كما لم يحدث من قبل في تقرير إخباري.
واقع افتراضي: مزيد من التعاطف أمام مصائب العالم
«نظرتُ إلى الناس في قاعة العرض، لم أصدق ما رأيته، لحظات انفعالية حادة وبكاء وتعاطف مع أطفال سوريا التي مزقتها الحرب». هكذا وصفت صاحبة «مشروع سوريا» تفاعل الناس.
بينما تتجه التغطيات الصحفية الإخبارية إلى تقنية 360 درجة مع إضافة تأثيرات صوتية وبصرية، تأخذ صحافة الواقع الافتراضي، التي تسمح للمشاهد بتجربة «غامرة» فريدة من نوعها، بُعدًا جديدًا يتطور يومًا بعد يوم بنَسَق سريع وتصاعدي، سيجعل من الصحافة المرئية تجربة تحمل الجمهور إلى ما وراء الخبر.
من بين المشروعات المبتَكَرة التي أسهمت في إيصال أصوات الأطفال السوريين إلى نيويورك «Project Syria»، مشروع يستخدم تقنيات الواقع الافتراضي الجديدة لوضع الجمهور في قلب الحدث، ومعايشة مأساة الأطفال السوريين في الحرب الأهلية التي تشهدها بلادهم.
وفقًا لصاحبة المشروع «نوني دي لا بينا»، وهي أيضًا صحفية ومخرجة وثائقية أمريكية تُلَقّب بـ«عرّابة الواقع الافتراضي»، فإن هذا النوع من الصحافة وسيلة قوية حقًّا لدفع المشاهدين إلى التفاعل العاطفي مع القصة، عن طريق وضعهم في قلب الحدث بدلًا من الاكتفاء بالمشاهدة من الخارج.
«نظرتُ إلى الناس في قاعة العرض، لم أصدق ما رأيته، لحظات انفعالية حادة وبكاء وتعاطف مع أطفال سوريا التي مزقتها الحرب». هكذا وصفت دي لا بينا تفاعل الناس مع «مشروع سوريا».
ولأن إنتاج هذه المحتويات وتقديمها يمثل تحديًا مهمًّا لوسائل الإعلام والصحفيين، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بتغطية أزمات إنسانية أو مناطق نزاع، فإن مراكز البحث التابعة لشبكات نقل الأخبار ووسائل الإعلام الدولية، مثل مركز «BBC Research & Development» المختص بالبحث والتطوير في مجال البث والتوزيع الإلكتروني للمواد السمعية والبصرية، والذي يجمع باحثين ومصممين وعلماء.
هناك كذلك مركز الجزيرة الإعلامي للتدريب والتطوير ومشروعه «Cnotrast VR»، الذي يعمل على تطوير هذه التقنية، وبخاصة في صناعة الأخبار والبحث في مستقبل الصحافة الغامرة، لخلق فرص جديدة من التجارب التفاعلية بين الجمهور والقصة الخبرية، التي تجمع بين الصحافة والإخراج السينمائي.
لم يقتصر استعمال هذه التقنيات الحديثة في الإنتاج السمعي والبصري على وسائل الإعلام، فقد أطلقت منظمة العفو الدولية مشروع «360 Syria»، ووثائقي ويب تفاعليًّا يحمل عنوان «الخوف من السماء»، في إشارة إلى القصف الذي تعرضت له مدن سورية كثيرة، وهو تجربة وثائقية «غامرة» هدفها جمع كل الأدلة حول تورط النظام السوري في جرائم ضد الإنسانية.
تقول المنظمة إن هذا المشروع يهدف إلى توثيق عدد مُروِّع من جرائم الحرب ضد الإنسانية خلال عدة سنوات من الأزمة والنزاعات الدموية، التي أدت إلى خسائر مدمرة ذهب ضحيتها الشعب السوري.
مع تزايد الأزمات وتواصل الاضطرابات في مناطق عديدة من العالم، يبدو أن الخبر الذي لن يحملنا إلى قلب الحدث لن يتمكن من جذب الانتباه. تطوُّر التكنولوجيا، خصوصًا في التصوير الفوتوغرافي والإنتاج البصري، والانخفاض التدريجي لأسعارها، سيجعل من صحافة الـ360 درجة وتجارب الصحافة الافتراضية الأكثر شعبيةً بين الجماهير المتعطشة لرؤية الخبر من كل زواياه.
أسماء العبيدي