لا اختبار.. لا غش
أمام تواتر أحداث الغش كاملة الأركان ومحاولات الغش الفاشلة وما يترتب عنها وقبلها من إجراءات تحصين وتأمين الامتحانات وكلفة ذلك ماليًا وأخلاقيًا وعلميًا، فضلاً عن سمعة وقيمة شهادة التعليم الكويتية، يتدفق سيل التساؤلات عن جدوى استنساخ نماذج شرقية وغربية تعاملت مع ظاهرة الغش في الاختبارات، فيما يذهب آخرون إلى أبعد من ذلك بالبحث في جدوى الامتحانات كآلية وحيدة لقياس مستوى التحصيل العلمي وجودة التعليم وفاعليته.
وبالنظر إلى ما صرنا نشهده في كل موسم للاختبارات الفصلية والنهائية، بسبب نزعة عبور الامتحانات بأعظم الجهود وأدناها، ونزوات الحصول على أعلى الدرجات بأنظف الأساليب وأقذرها، ولهفة التفاخر بكمال النسب المئوية، تتكاثر المرئيات والمقترحات بشأن الحلول لمواجهة ظاهرة الغش العابرة لحدود الدول والقارات، حيث تبرز نماذج عديدة لمكافحة الغشاشين عبر سيناريوهات تتراوح بين الغريب والمبالغ فيه، مثل ما حدث في ولاية بيهار بالهند بإجراء اختبارات خطية لشباب شبه عراة، فيما عمدت دول أخرى لتسليط عقوبات السجن بين ٣ و ٧ سنوات لكل من يتم ضبطه بالجرم المشهود، بينما لجأت نماذج أخرى إلى حلول قاسية مثل طباعة الأسئلة في مطابع الجيش وقطع الإنترنت في عموم البلاد خلال فترة الاختبارات.
وبغض النظر عن هذه النماذج والحلول الدولية لمواجهة الغش في الاختبارات، فإنه منهجيًا لا يمكن تصور الإجابات والحلول قبل طرح الإشكاليات، ولذلك فإن المتفحص لمنظومة الاختبارات في نظامنا التعليمي ستقفز في وجهه حقائق ومفارقات، من قبيل أن الطالب هو الوحيد الخاضع للتقييم دون أن يبذل المعلم أدنى جهد للتحقق من أن طريقته في التعليم ملائمة لتطور الطالب في التحصيل العلمي، كما أن التقييم وفق نتائج الاختبارات التقليدية يوفر معطيات عن معارف الطالب ولا يمنح أدنى حقائق بشأن المسار التعليمي برمته، إذ لا يمكن الجزم بأن المهارات الخاضعة للاختبار هي نتاج فهم عميق لموضوع الامتحان، أم هي معارف خزنها الطالب في ذهنه عشية الاختبار! بالإضافة إلى أن المعارف وحدها هي التي يتم أخذها في الحسبان، ولا تهم شخصية الطالب ولا مكامن القصور والقوة لديه، وبذلك يتعذر إرشاده في مساره التعليمي، لأن لا أحد يعرف دوافعه وحدوده في التعليم.
هذه بعض من الحقائق والمفارقات المرتبطة بآلية الاختبارات المطبقة في جميع مراحل التعليم عندنا، والتي باتت عيوبها جلية لكل المهتمين بالشأن التعليمي، ما دفع بعض الخبراء إلى الدعوة لتبني أسلوب بديل متعدد الأبعاد في الاختبارات Multidimensional Assessment ، لتقييم الطلبة كبديل عن الأسلوب التقليدي أحادي البعد One-dimensional الذي يركز على جوانب معرفية بسيطة تقاس بأنواع محدودة من الأسئلة الاصطناعية التي تتطلب في معظمها الورقة والقلم.
مجرد بحث في خارطة المدارس والجامعات بالعالم، سيتكشف المشهد عن تجارب ومقاربات مختلفة لآلية الاختبارات التي نعرفها في الكويت، حيث تعتمد العديد من المدارس والجامعات الآن على النظام متعدد الأبعاد بشكل جزئي أو كلي مثل «اتحاد معايير الأداء» الذي يتكوَّن من 28 مدرسة في ولاية نيويورك الأمريكية التي يُثبت الطلاب المتخرجون فيها تفوقهم بمعدلات أعلى للقبول في الجامعات والاستمرار فيها.
كما نجد النموذج السويسري الذي لا يخضع فيه الطلبة للامتحانات بالمرحلة الابتدائية عطفا على النموذج الفنلندي الذي لا يعتمد فيه تقييم أداء الطلاب على الامتحانات بشكل أساسي، بل يوجد امتحان واحدٌ يدخله الطلاب على مستوى الدولة في سن 18 قبل ترك المدرسة والدخول إلى الجامعة، مع أن هذا الاختبار لا يحدد أي شيء بالنسبة للطالب، وإنما تستخدمه الحكومة فقط في قياس كفاءة نظام التعليم وتطويره، فيما يزداد اعتماد بريطانيا على الاختبارات القياسية لكافة الطلاب في مراحل التعليم لضمان الجودة وحصول كل الطلاب في نظام التعليم البريطاني على مستوى تعليم متماثل، لكن اسكتلندا مثلا لا يحب المسؤولون عن التعليم فيها الامتحانات فألغوا الاختبار الوطني الشامل الذي كان يُجرى في سن 16 عامًا (مثل اختبارات الثانوية العامة) وبدؤوا منذ عام 2010 في تطبيق النظام الجديد على مراحل جميع مراحل التعليم بتخصيص وقت أكبر للفنون، والموسيقى، وخدمة المجتمع، والأنشطة العملية، وإعطاء اهتمام أقل للامتحانات الورقية.
وبناء على كل هذه الحقائق والتجارب والنماذج، يتأكد لنا جميعًا أننا أمام حاجة ملحة إلى تقويم الأداء التعليمي والتقويم المهاري والعقلي والسلوكي، وليس مجرد قياس التذكر أو الفهم، وتطبيق التقويم البنائي هو الذي يقيس أداء الطالب وتحقيقه للأهداف المرسومة وإتقانه للمهارات والكفايات المطلوبة ونتائج التعلم، وهو ما يفرض نقاشًا مجتمعيًا واسعًا حول الحلول والبدائل للاختبارات التقليدية من أجل تصحيح المسار التعليمي في البلاد.