كلمة منشور: الدستور منارة.. والإصلاح مسيرة

نشر في 2025/11/11

 

في الحادي عشر من شهر نوفمبر لعام 1962، شهدت دولة الكويت ميلاد وثيقة الدستور التاريخية التي شكلت حجر الزاوية في مسيرتها الحديثة.
لم يكن الدستور يومها مجرد نص قانوني ينظم سلطات الدولة، بل ميثاقًا اجتماعيًا أرسى دعائم دولة المؤسسات والقانون ما منح الكويت هوية سياسية متميزة على امتداد سنوات الحداثة، وبينما نحتفي بهذه الذكرى المجيدة نجد أنفسنا أمام مرحلة جديدة تتسم بالحزم في تطبيق القانون وبالعزم على تطوير الإرث التشريعي العريق لتغدو الكويت نموذجًا للدولة الحديثة.

لقد سبق صدور وثيقة الدستور حراك تشريعي تأسيسي، حيث شهدت الفترة من 1959 إلى 1965 ما يمكن تسميته بالنهضة التشريعية الأولى بأن تم وضع الأسس القانونية للدولة الناشئة، وكان أبرز إنجازاتها قانون الجنسية الذي نظم الهوية القانونية للكويتيين، ثم جاءت النهضة التشريعية الثانية من 1978 إلى 1984 لتبني على ما سبق وتضع البنية التشريعية المتكاملة التي لا تزال سارية إلى حد كبير حتى اليوم، حيث صدر خلالها منظومة قوانين حيوية مثل القانون المدني وقانون المرافعات المدنية والتجارية وقانون الأحوال الشخصية والتي شكلت معا الإطار القانوني المنظم للحياة المدنية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

واليوم تقف دولة الكويت على أعتاب نهضة تشريعية ثالثة هي الأوسع طموحًا والأكثر شمولية، فالقوانين الرئيسية التي صدرت قبل عقود تخضع الآن لإعادة تقييم وتطوير جذريين لتواكب المتغيرات المتسارعة محليًا وعالميًا.

ثمان لجان متخصصة تعمل حاليًا على مراجعة ترسانة حيوية من التشريعات تشمل قانون المحاكم الاقتصادية وقانون منظومة الإيجار واتحاد الملاك وقانون الجزاء وقانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية وقانون العمال، وتهدف هذه المراجعة ليس فقط إلى التحديث بل إلى تبسيط إجراءات التقاضي وهو هدف استراتيجي يلامس حاجة المجتمع الماسة لتحقيق عدالة ميّسرة، فيما يشكل قانون القضاء الجديد الذي وصل مراحله الأخيرة بعد إحالته إلى إدارة الفتوى والتشريع مدخلاً حاسمًا لأكبر عملية إصلاح للمنظومة القضائية في تاريخ الكويت، وهذا القانون الذي يأتي ترجمة للتوجيهات السامية لحضرة صاحب السمو أمير البلاد الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح -حفظه الله ورعاه- يمثل إطارًا شاملاً لإعادة هيكلة القضاء ليكون أكثر فاعلية وكفاءة.

وتشير الأرقام إلى الزخم غير المسبوق في عملية التحديث التشريعي، فمن بين 983 قانونًا ساريًا في البلاد كان الهدف المعلن سابقًا مراجعة 10 % منها (98 قانوناً) خلال سنة، بينما تجاوزت الإنجازات الفعلية هذا الهدف بكثير، حيث تم إنجاز مراجعة وتعديل وإصدار 181 قانونًا خلال ثمانية أشهر فقط، ما يمثل نسبة إنجاز بلغت 18% وهي نسبة أعلى وفي وقت أقصر مما كان مخططًا له.

وانطلاقاً من هذا النجاح فقد تم رفع سقف الطموح، حيث يجري الآن العمل على مراجعة 15% إضافية من القوانين ليصل المجموع إلى 25% من إجمالي التشريعات السارية يتم مراجعتها خلال عام واحد فقط، إذ تهدف الخطة الوطنية لتحديث المنظومة التشريعية إلى مراجعة 150 قانونًا إضافيًا خلال 15 شهرًا المقبلة تشمل التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والجنائية.

إن إحياء ذكرى إقرار الدستور أعمق من حدث تاريخي، إنها تجديد للعهد مع مبادئه السامية واستلهام لروحه التطويرية، فالجهود الحثيثة التي تقودها الدولة بتضافر جهود جميع مؤسساتها وبمشاركة المجتمع المدني وتسخيرها للثورة الرقمية في خدمة العدالة تؤكد أن الكويت تسير بثبات على طريق بناء منظومة تشريعية وقضائية عصرية متناسقة و متناغمة، تجسيدًا لرؤية القيادة وطموحات المواطنين لتبقى الكويت، كما أرادها دستورها دولة للقانون ومنارة للحقوق وركيزة للاستقرار ونموذجًا للتنمية المستدامة.