«كثير من الصين، قليل من أمريكا»: الخليج محاصر في معركة بين القوى الكبرى
تقول صحيفة فايننشال تايمز إن دول الشرق الأوسط محاصرة بين واشنطن وبكين، وتصارع للحفاظ على توازن في العلاقات. ويناقش المقال الذي أعده أندرو إنغلاند وسايمون كير، العلاقات المتغيرة بين الخليج والولايات المتحدة في ظل تزايد توسع الصين الاقتصادي والاستراتيجي في الشرق الأوسط، والتوجه الأمريكي للانسحاب من المنطقة.
تذكر الصحيفة أنه مع وصول أول مسؤول من الإمارات لزيارة إدارة بايدن في واشنطن، كانت الرسالة التي تسعى الدولة الخليجية إلى تأكيدها هي «قوة واستمرارية» الشراكة بين البلدين. ومع هذا، عندما جلس أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات مع نظرائه الأمريكيين، كانت علاقات أخرى للدولة الخليجية هي محل تركيز الكثير من النقاش: الصين.
طبقة من التوتر على العلاقات
تقول فايننشال تايمز إن الإمارات لطالما كانت واحدة من أقرب شركاء واشنطن في الشرق الأوسط، إذ تستثمر بغزارة في الأصول الأمريكية، وتشتري أسلحة أمريكية بعشرات المليارات من الدولارات، وتدعم القوة العظمى في عملياتها العسكرية من الصومال إلى أفغانستان، وحتى المعركة ضد مسلحي القاعدة في اليمن.
رغم ذلك، فإن تعميق علاقاتها ببكين يضيف طبقة من التوتر على التحالف، مع اتخاذ واشنطن مواقف أكثر حدة نحو الصين، وقلقها بشأن التداعيات الأمنية المحتملة لاستخدام شركائها التكنولوجيا الصينية، مثل شبكات هواوي للجيل الخامس.
توضح الصحيفة أنه من المنتظر أن يكون الموقف أكثر حساسية بالنسبة للإمارات، مع استعدادها لاتخاذ مقعد مؤقت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في يناير، وهي تدرك جيدًا مخاطر أن تكون محاصرة في تنافس مصالح اثنين من القوى العظمى.
«في الماضي، كان بإمكان ما يطلق عليه الدول متوسطة [الحجم] تجنب إجراء اختيارات، غير أن الإمارات ستصبح تحت تدقيق متزايد من الجانبين، اعتمادًا على تصويتها وهي في مجلس الأمن»، كما تنقل فايننشال تايمز عن مصدر مطلع على محادثات قرقاش في واشنطن، مضيفًا أن «الولايات المتحدة تريد التباحث حول هذا، وحول المسائل الحساسة بشأن الصين عمومًا».
يوضح المصدر أن الأمر سيذهب إلى اتخاذ «خيارات صعبة»، فمسألة شبكات الجيل الخامس باتت المسألة الفاصلة لكثير من الدول.
كثير من الصين.. قليل من الولايات المتحدة
تشير الصحيفة إلى أنه منذ بدأت الصين منذ عقدين توسيع بصمتها الاقتصادية والسياسية في الشرق الأوسط، تصارع الإمارات ودول الخليج الأخرى في الحفاظ على التوازن، موضحة أن بكين الآن أكبر مشترٍ للنفط الخام من منطقة الخليج، وهذا التوجه يتزامن مع إدراك حكام الخليج أن المؤسسة السياسية الأمريكية تتجه إلى الانفصال عن المنطقة، الأمر الذي وضح جليًا في الانسحاب الفوضوي من أفغانستان في أغسطس.
يعلق على تلك المعضلة للفايننشال تايمز أستاذ السياسة الإماراتي عبد الخالق عبد الله، قائلًا إن «هناك شرخًا في الثقة في الولايات المتحدة ينمو كل يوم». ويرى عبد الله أن «التوجه هو كثير من الصين، قليل من الولايات المتحدة على كل الجبهات، ليس فقط اقتصاديًا، بل وسياسيًا وعسكريًا واستراتيجيًا في الأعوام المقبلة، وليس هناك ما يمكن ﻷمريكا فعله بهذا الشأن».
تقول الصحيفة إنه طيلة عقود، رأى قادة الخليج واشنطن ضامنًا ﻷمنهم، بينما رأتهم الولايات المتحدة كموردين للطاقة العالمية يمكن الاعتماد عليهم. غير أنها تشير إلى أن واردات الولايات المتحدة من المنطقة انحدرت على نحو ملحوظ على مدار عشر سنوات، نتيجة فورة الغاز الصخري في أمريكا الشمالية. وعلى النقيض، ارتفع الطلب الآسيوي على النفط، ومع تعمق العلاقات الاقتصادية ازدهرت علاقات الصين والخليج، لتصل اليوم إلى ما هو أكثر بكثير من كونها بشأن خام النفط فحسب.
تزايد الاعتماد على الصين
مع وجود جيل أصغر وأكثر طموحًا من قادة الخليج في الحكم يسعون إلى تحديث بلدانهم، يتزايد تطلعهم إلى الحصول على التكنولوجيا الصينية وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي للمدن الذكية، وكذلك الدرونات المسلحة والرعاية الصحية والطاقة المتجددة.
تنقل الصحيفة تعليق دبلوماسي أمريكي يقول إن عامل الصين بات «نقطة لاذعة حقيقية» في العلاقات مع الإمارات: «هذه إحدى المسائل التي تجعل العلاقات الحالية مع أبو ظبي ودول الخليج الأخرى عسيرة ... هناك مسعى لجعلهم يختارون على نحو أحادي، والإماراتيون يقولون بنفس الجدية: "لا تجبرونا على الاختيار"».
عامل هواوي والتوجه نحو الشرق
تقول فايننشال تايمز إن المسؤولين الخليجيين يشددون على أن واشنطن تظل الحليف رقم واحد لهم، مشيرين إلى العلاقات الأمنية التاريخية والاستثمارات الضخمة في الولايات المتحدة، ولا سيما في سندات الخزانة، وكذلك الروابط الثقافية التي تطورت مع دراسة الشباب العربي في المدارس والجامعات الأمريكية، وتعززت عبر أفلامها ومسلسلاتها الدرامية وموسيقاها. ويؤكدون أنه ليس هناك احتمال أن تحل الصين محل الولايات المتحدة كالقوة العسكرية الأجنبية المهيمنة، أو المصدر الأساسي للأسلحة للقوى الخليجية.
غير أن الصحيفة تؤكد أنه مع تطلع الحكام الأكثر طموحًا في السعودية والإمارات، الاقتصادين الأكبر في الشرق الأوسط والشريكين التقليديين للولايات المتحدة، لتنويع العلاقات وتوسيع قوتهم عبر تحالفات أعرض، نظروا أكثر ناحية الشرق.
هذا خيار براغماتي عادة، كما تنقل الصحيفة عن المسؤولين، بيد أن الصين تقدم تكنولوجيا أرخص وأكثر إتاحة من الخيارات الغربية، والمثال الأبرز هو تكنولوجيا هواوي للجيل الخامس، كما أن بكين أكثر استعدادًا لبيع معدات لدول الخليج عن واشنطن، لافتة أنها تأتي دون شروط سياسية.
«مع الوقت يزداد الاعتماد على الصين أكثر وأكثر ﻷسباب واضحة»، كما يقول المحلل السعودي علي شهابي، مضيفًا: «أولًا، الصينيون مستعدون لنقل التكنولوجيا، وليس لديهم كونغرس لمضايقتك. ثانيًا، الصين هي أكبر أسواقنا. ثالثًا، الصين لديها نفوذ على إيران [خصم السعودية]، وفرضيًا هي حليف إيران الوحيد المهم، وتتزايد أهميتها بالنسبة للسعودية».
وفي مثال على العلاقات المزدهرة، يشير شهابي إلى قرار الرياض استخدام شبكات هواوي للجيل الخامس في نيوم، مشروع ولي العهد محمد بن سلمان الذي يتكلف 500 مليار دولار لبناء مدينة مستقبلية، رغم معارضة الأمريكيين الشديدة.
صراع على النفوذ الإقليمي
كانت المملكة، التي تقول الصحيفة إنها كانت معارضة بضراوة للشيوعية وداعمة لتايوان (التي تعتبرها الصين محافظة مارقة)، كانت الأبطأ في العالم العربي عندما أسست رسميًا العلاقات مع الصين في 1990، في خطوة تصف الصحيفة أن جزءًا منها كان للإحباط الذي شعر به الحكام السعوديون نحو واشنطن.
مع ضرب فيروس كورونا للمنطقة، تحولت الإمارات إلى الصين مع بحثها العالمي عن موارد لمواجهة الجائحة.
يوضح المقال أنه في أواسط الثمانينيات كانت المملكة تريد بشدة الحصول على صواريخ من الولايات المتحدة كرادع لإيران، وعندما رفضت واشنطن الطلب، تواصل الملك فهد سرًا مع بكين ورتب لشراء صواريخ باليستية صينية. «كانت رسالة نوعًا ما من الملك فهد، "يمكننا فعل هذا"، واشترينا هذه»، كما يقول مسؤولون سعوديون لفايننشال تايمز.
الأحدث، وفق الصحيفة، كان رفض الولايات المتحدة بيع درونات مسلحة إلى دول الخليج، ما أدى بكل من الرياض وأبو ظبي لشراء الأسلحة من الصين بدلًا من ذلك، وبعد أن عقد الملك السعودي وولي العهد محادثات مع الرئيس شي جين بينغ في بكين في 2017، الاتفاق الذي ورد أنه أقر إنشاء مصنع درونات صين (الأول في الخليج) في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتكنولوجيا بالمملكة.
وبعد ثلاث سنوات، ومع ضرب فيروس كورونا للمنطقة، تحولت الإمارات إلى الصين مع بحثها العالمي عن موارد لمواجهة الجائحة، بحسب الصحيفة.
وسريعًا ما أسست شركة «المجموعة 42» المعروفة باسم G42، وهي شركة حكومية يرأسها الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان مستشار الأمن القومي، شراكة مع شركة BGI الصينية لفتح مختبر أبحاث لفيروس كورونا في أبو ظبي لإجراء تجارب للقاح.
وعلى النقيض، على حد قول الصحيفة، عندما تواصل خلدون بن مبارك، أحد أكثر المساعدين الثقات للشيخ محمد بن زايد الحاكم الفعلي، مع شركة هني ويل لتوريد معدات الوقاية الشخصية التي كانت هناك حاجة ماسة إليها، لم تتمكن الشركة من التوريد بسبب حظر الولايات المتحدة تصدير معدات الوقاية الشخصية، وفي النهاية استطاعت الشركة أن توفر الإمدادات من فرعها في الصين، إذ سمحت بكين بشحن المعدات إلى الإمارات قبل تأسيس شراكة مع مبادلة، أحد صناديق الاستثمار الحكومية، لتصنيعها في الإمارات.
التوجه إلى بكين
تقول فايننشال تايمز إن السعودية والإمارات تتخذان في السنوات الأخيرة خطوات رسمية لتعميق العلاقات مع الصين.
في يناير 2016، أصدرت بكين «ورقة السياسات العربية» الأولى لها، والتي شملت كل شيء من الأمن إلى التجارة ومكافحة الإرهاب. وفي نفس الأسبوع اتفقت السعودية والصين على تأسيس «شراكة استراتيجية شاملة»، لتعزيز الروابط السياسية والثقافية والأمنية والعسكرية، خلال زيارة شي جين بينغ إلى المملكة.
كما تسعى الدول الخليجية إلى الاستفادة من مبادرة الحزام والطريق، وقد ربطها الأمير محمد بن سلمان الذي يرأس اللجنة السعودية الصينية المشتركة العليا بخطته «رؤية 2030».
واتفقت الإمارات والصين على تأسيس «شراكة استراتيجية شاملة»، مع التركيز على الروابط الاقتصادية ونقل التكنولوجيا والطاقة، عندما زار الرئيس الصيني أبو ظبي في 2018. غير أنه كانت هناك أيضًا جوانب سياسية وعسكرية للاتفاقيات، تضمنت الرغبة في «تعزيز التعاون العملي بين الجيشين» في «قوات وأسلحة متنوعة وتدريبات مشتركة وتدريب الأفراد، والنطاقات الأخرى».
تشير فايننشال تايمز إلى أن تقريرًا صدر العام الماضي عن البنتاغون عن قوة الصين العسكرية، أدرج الإمارات بين الدول التي يُعتقد أن بكين «ترجحها كثيرا» كمواقع «منشآت لوجستية عسكرية».
وترى الصحيفة أن الصين تقدم شيئًا لا يمكن للولايات المتحدة ولا القوى الغربية تقديمه، ألا وهو نموذج استبدادي ذو تنمية بقيادة الدولة، يلاقي أصداء قبول لدى حكام الخليج الملكيين.
«هناك الكثير مما يمكن تعلمه من الصين وقدرتها على التطوير بالطريقة التي لديها تستند إلى واقع أنها ليست ديمقراطية ... يمكنها اتخاذ القرارات، ويجب أن تكون بقيادة حكومية»، كما يقول المسؤول السعودي. «إنهم يسبقون كل شيء بسنوات ضوئية. كما ندرس أيضًا مدنهم الصناعية، ليس فقط للصناعات الكبرى، بل الصناعات البترولية والتكنولوجيا، وننظر إلى كيف بنوها بنجاح كبير».
عدم التدخل في المسائل الداخلية
دول الخليج والصين تقدر التعهدات بعدم التدخل في المسائل الداخلية، فعندما كان الكثير من العالم الغربي يقرِّع محمد بن سلمان في اﻷشهر التالية على مقتل جمال خاشقجي في 2018 من قبل عملاء سعوديين، رُحب بولي العهد بحرارة في بكين.
لم يعلق الأمير محمد، نجل الملك سلمان خادم الحرمين الشريفين، علانية على الاعتقال الجماعي لأقلية الإيغور المسلمة. وبدلًا من ذلك، كما تقول الصحيفة، قال إن بكين «لها الحق في اتخاذ إجراءات مكافحة الإرهاب والتطرف لحماية الأمن القومي»، حسب رواية وزارة الخارجية الصينية.
وتنقل فايننشال تايمز عن جوناثان فولتون، الخبير في العلاقات الصينية الشرق أوسطية بجامعة زايد في أبوظبي، قوله إن القادة الخليجيين «ينظرون إلى الصين ويرون قوة صاعدة تخلق الكثير الفرص ولا تطلب الكثير، بينما تميل الدول الغربية إلى الربط بمسائل حقوق الإنسان أو الأيديولوجيا السياسية». ويتابع أن «الصين لديها هذا المبدأ الراسخ بعدم التدخل في سياستها الخارجية ... "نحن لن نقول لكم ماذا تفعلون، ولن نتدخل في السياسة"».
لا يزال فولتون يعتقد أن الولايات المتحدة ما زال لديها القدرة على التأثير على توجه العلاقات بين الصين والخليج، لكنه يضيف أنه «ليست هناك طريقة لمنعها من الحدوث»، مردفًا أنه لا يعتقد أنه يمكن تغييرها، ويرجع ذلك إلى حركة الأسواق وتوقعات النمو السكاني. ويرى فولتون أن مركز الثقل العالمي والثقل الاقتصادي يتحرك باستمرار جهة الشرق.
ويختم المقال برأي شهابي، الذي يظن أن الصين ستأخذ أكثر من حصة الولايات المتحدة في السعودية، ﻷن كل اضطراب يسببه الأمريكيون للمملكة يشجع أكثر على هذا.
محمود رشاد