صباح الصمود: لماذا يسير الأسد مطمئنًّا؟

المحرر السياسي
نشر في 2018/04/15

الصورة: Getty/Pool BENAINOUS/HOUNSFIELD

ها قد أتت الصواريخ التي وعد بها ترامب روسيا، وحسمت معركة التوقعات. خسر من راهنوا على أن الولايات المتحدة ستخشى قصف الأسد لخوفها من رد الفعل الروسي، وخسر من راهنوا على أن ترامب سيقود حربًا للإطاحة بالأسد، وانتهى الأمر بقصف أمريكي بريطاني فرنسي، مشترك ومحدود، قالوا إنه استهدف منشآت النظام المسؤولة عن صناعة الأسلحة الكيماوية وتخزينها، منشآت كانت كلها خاوية ولم يصَب أي مدني أو عسكري بأي أذى، غير ثلاثة مواطنين أصيبوا نتيجة تطاير صاروخ تم اعتراضه بحسب بيان الجيش السوري.

هكذا انتهت معركة التوقعات والأعصاب المشدودة والنبوءات المتذاكية المتكررة ببداية الحرب العالمية الثالثة، وبدأت معارك المواقف من الضربة نفسها.

عدوان ثلاثي

بيان الجيش السوري ردًّا على ضرب سوريا

لم يبدُ أن استخدام الجيش السوري لمصطلح «العدوان الثلاثي» جاء مجرد وصف خام للحدث الذي اشتركت فيه ثلاث دول بالفعل، ولكن أيضًا لأنه أراد تمرير رسالة بأنه هو من يحمل راية «الوقوف ضد الإمبريالية» والقوى الغربية الكبرى، فاثنتان ممن شاركوا في الضربة، بريطانيا وفرنسا، اشتركتا في «العدوان الثلاثي» على مصر عام  1956، العدوان الذي، للمفارقة، كان من أسباب توقفه انحياز الاتحاد السوفييتي وأمريكا ضده.

لكن هذه الغارة الغربية على سوريا لم تكن الأولى، ولا الثانية، ولا حتى الألف، فالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وحلفاؤهم في «التحالف الدولي ضد داعش»، نفذوا أكثر من 11 ألف غارة جوية في سوريا منذ بداية التحالف في 2014، لكنها كانت الضربة الثانية التي تستهدف الأسد بعد أخرى في إبريل 2017.

بجوار النظام السوري، اصطفت روسيا والصين وإيران وحزب الله وحماس.

الأولى قالت إنها ستعيد التفكير في إمداد النظام السوري بمنظومة دفاع صاروخي متطورة، وأثنت في الوقت نفسه على الكفاءة العالية التي أظهرتها الدفاعات السورية الحالية. أما الصين، فقد اعتبرت العملية «انتهاكًا للقانون الدولي»، وصوتت في مجلس الأمن، في جلسة طلبتها روسيا، لصالح مشروع قانون روسي للتنديد بـ«العدوان على الجمهورية العربية السورية»، غير أن القرار رُفِض بعدما لم ينل سوى تأييد ثلاث دول، هي روسيا والصين وبوليفيا، بينما عارضته ثماني دول، وامتنعت أربع عن التصويت.

إيران، التي تعد من أكبر الداعمين الدوليين للنظام السوري، استخدم مرشدها الأعلى لهجة أكثر حدة، فقد أكد أن «الهجوم (...) على سوريا جريمة، والرئيس الأمريكي ورئيس فرنسا ورئيسة الوزراء البريطانية مجرمون». وأكد رئيس إيران للأسد أن الضربة لن تزيد إيران إلا إصرارًا على دعم سوريا، ليرد الأخير عليه بأن «العدوان جاء نتيجة معرفة القوى الغربية الاستعمارية الداعمة للإرهاب أنها فقدت السيطرة». 

أما حزب الله، ثالث أكبر حلفاء النظام وثالث أكبر القوى المقاتلة بجانب النظام السوري بعد روسيا وإيران، فقد رأى أن  الضربة «انتهاك صارخ للسيادة السورية وكرامة الشعب السوري وسائر شعوب المنطقة».

اعتمد رافضو الضربة الغربية على أنها اختراق للسيادة السورية، وهوَّل بعضهم الموقف وقارنها بالغزو الأمريكي للعراق.

حماس، التي ترنحت مواقفها من النظام السوري في السنين الأخيرة بين التأييد والنأي عنه، ثم رفضه بسبب الثورة السورية، وحتى الاصطفاف معه مجددًا بعدما وجدت نفسها وحيدة عقب هزيمة تنظيم الإخوان في مصر، أدانت الضربة، ورأت أنها «عدوان سافر على الأمة يهدف إلى استباحة أراضيها، وتدمير مُقدَّراتها، حفاظًا على وجود الكيان الصهيوني وتمرير مخططاته».

ورغم إدانتها الصريحة للضربة، فإن حماس حاولت الحفاظ على ماء وجهها، أمام المعارضة السورية ربما، بسطر أخير تشدد فيه على «ضرورة إنهاء الخلافات والصراعات العربية، وتوحيد الصفوف، وتعزيز عوامل صمود شعوبها، وحقن دمائهم، واحترام إرادتهم كركيزة أساسية في مواجهة أي عدوان».

موقف حماس المندد شاركتها فيه غريمتها التقليدية حركة فتح، التي أعلنت أنها «تقف بلا تحفظ مع وحدة الأراضي السورية، وترفض المساعي الهادفة إلى تفتيتها».

في العموم، اعتمد منطق رافضي الضربة الغربية على أنها اختراق للسيادة السورية، وهوَّل بعضهم الموقف وذهب إلى حد مقارنة الضربة بالغزو الأمريكي للعراق عام 2003، رغم علمه أن كل هذه الدول تمتلك قوات بالفعل في سوريا منذ سنين، ونفذت آلاف الغارات، لكن، وكما يقول المفكر الألماني «كارل شميت»، فإن السيادة هي أن يمتلك طرف ما تحديد العدو من الصديق، وأن يمتلك قرار الحرب.

بهذا المعنى، فهؤلاء يعترفون بسيادة بشار الأسد، وعليه، فالتدخل الروسي والإيراني والميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية تظل في موضع الصديق، لأن صاحب السيادة في رأيهم قرر ذلك. ويظل التحالف الدولي ضد داعش في خانة ضبابية، لأن صاحب السيادة يحاول إقناع هذا التحالف بأحقيته كشريك في محاربة الإرهاب. بينما تعتبر الغارة الغربية الأخيرة، وربما قبلها التدخل التركي في عفرين، «عدوانًا سافرًا على السيادة السورية»، لأنه يرفضها.

هذا لا يعني بالضرورة أن الأسد هو المتحكم في جانبه من الحرب السورية، فحجم الوجود الروسي والإيراني وحزب الله يجعلهم على أقل تقدير شركاء في السيادة، لكن هذه الشراكة نفسها تُفسَّر من هذا المنظور، الذي يعتبر سيادة أي بلد لجيشه بالتعريف لا على أنها انتقاص من السيادة الأصلية، بل امتداد لها، مادامت تخدم هدف «السيادة» الأصلي، وهو بقاء الأسد في حكم.

بشكل كامل.. وقلق

الصورة: Gage Skidmore

على الناحية الأخرى، فالمملكة العربية السعودية، التي تخوض حربًا ضارية ضد الحوثيين وتتهم إيران بدعمهم، والتي تعرضت عاصمتها الرياض لقصف صاروخي تمكنت من التصدي له، فقد أيدت بشكل كامل العملية العسكرية التي نفذتها الدول الثلاثة.

نفس الموقف السعودي اتخذته مملكة البحرين، وأعلنت تأييدها الكامل للعملية، وتبعتهما الإمارات بتأييد العملية وجميع الإجراءات الدولية التي تستهدف نزع هذه الأسلحة المحرمة دوليًّا وتدميرها.

ورغم الخلاف الخليجي بين السعودية والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى، فإن الموقف القطري جاء مماثلًا لموقفها، إذ أيدت العملية، ورأت أن «استمرار استخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية يتطلب اتخاذ المجتمع الدولي إجراءات فورية لحماية الشعب السوري، وتجريد النظام من الأسلحة المحرمة دوليًّا».

الرئيس التركي رجيب طيب أردوغان، الذي تخوض بلاده بدورها عملية عسكرية موسعة ضد الفصائل الكردية في الشمال السوري، رأى أن الضربة الغربية «عملية صائبة»، لكنه أكد في الوقت نفسه أن «رد الفعل الذي أثاره الهجوم الكيميائي لا بد من أن يظهر أيضًا ضد قتل النظام السوري مئات الآلاف من الأبرياء باستخدام الأسلحة التقليدية».

في حال تجاوزت طموحات داعمي الضربة الغربية حدود «رفض استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية»، فربما عليهم الاستعداد لخيبة أمل طويلة.

ورغم عدم اشتراكها في العملية، فقد اعتبرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنها «كانت ضرورية وملائمة للحفاظ على فعالية الحظر الدولي لاستخدام الأسلحة الكيماوية، وتحذير النظام السوري من ارتكاب انتهاكات أخرى»، ونفس الموقف اتخذه رئيس الوزراء الكندي «جاستن ترودو»، الذي أعلن أن دولته «تدعم القرار الأمريكي البريطاني الفرنسي باتخاذ رد فعل ضد قدرة الأسد على استخدام الأسلحة الكيمائية».

الموقف المصري كان الأكثر حذرًا، فقد أعربت وزارة الخارجية المصرية عن قلقها البالغ نتيجة التصعيد العسكري الراهن على الساحة السورية، لما ينطوي عليه من آثار على سلامة الشعب السوري الشقيق، ويهدد ما تم التوصل إليه من تفاهمات حول تحديد مناطق خفض التوتر، وأكدت «رفضها القاطع لاستخدام أي أسلحة محرمة دوليًّا على الأراضي السورية، مطالبةً بإجراء تحقيق دولي شفاف في هذا الشأن وفقاً للآليات والمرجعيات الدولية».

عامةً، في حال تجاوزت طموحات داعمي الضربة الغربية حدود «رفض استخدام الأسد للأسلحة الكيمائية»، فربما عليهم الاستعداد لخيبة أمل طويلة.

لماذا يسير الأسد مطمئنًا؟

بعد ساعات من العملية، غرَّد حساب باسم «الرئاسة السورية» مقطع فيديو قصير بعنوان «صباح الصمود»، يُظهر الرئيس السوري يسير وحده في قصر ما.

هذا الهدوء الأسدي، الحقيقي أو المزعوم، وسواء كان الفيديو قديمًا أو حديثًا، ربما يكون رد فعل مبررًا جدًّا على الضربة، التي بالتأكيد جاءت أقل بكثير من طموح خصومه. يمكن للأسد الآن أن يتنفس الصعداء، فالضربة التي لا تقتله تشتري له مزيدًا من الوقت، يحسم به المعركة بشكل نهائي.

قبل أيام من الضربة الأمريكية، وبعد أيام من الغارات الجوية التي اتُّهِم فيها النظام باستخدام الأسلحة الكيماوية، كانت قوات الأسد قد أعلنت سيطرتها الكاملة على الغوطة الشرقية، أحد المعاقل الأساسية للمعارضة السورية المسلحة، بعد اتفاق إجلاء بين المسلحين بقيادة «جيش الإسلام» والنظام السوري وروسيا، وبذلك يكون النظام السوري قد نجح أخيرًا في تأمين العاصمة دمشق من أحد أكبر التهديدات التي تمثلت في وجود قوة مسلحة قوية على أطراف العاصمة.

ربما يكون ترامب قد أراد من العملية العسكرية تحويل الأنظار عن مشكلاته الداخلية في الإدارة.

عبَر النظام السوري مرحلة الخطر الوجودي منذ بداية التدخل الروسي في أواخر 2015، فقد استعاد أغلب المناطق الاستراتيجية الكبرى التي كانت في يد المعارضة، ومنها مدينة حلب، وأخيرًا الغوطة الشرقية. ومثلما، لم تؤثر الضربة التي شنتها أمريكا في إبريل 2017 ضد النظام السوري في مسار الحرب، التي تتجه بمساعدة روسيا وإيران وحزب الله إلى حسمها لصالح بشار الأسد، فلا يبدو أن الضربة الأخيرة هذه سيتخلف مصيرها عن سابقتها.

لماذا إذًا غامرت أمريكا وبريطانيا وفرنسا بشن ضربة غير مؤثرة؟

جزء من الأسباب قد يكون فعلًا رغبة الدول الغربية في الحفاظ على «المحرمات الدولية»، بمنع استخدام الأسلحة الكيميائية حتى لو كان أغلب ضحايا الحرب السورية قُتِلوا بـ«الأسلحة الكلاسيكية»، لكن الأجزاء الأخرى قد تكون مرتبطة بشؤون أخرى غير سوريا نفسها.

ترامب من جهته قد يكون راغبًا في الظهور بمظهر الحازم تجاه الأسد، عكس غريمه أوباما، فقد قال ترامب إن «أوباما لو كان قد دافع عن خطوطه الحمراء لكانت الحرب السورية انتهت منذ زمن، ولكان الأسد (الحيوان) شيئًا من التاريخ». في الوقت نفسه، يشك مراقبون أن ترامب قد يكون أراد من العملية العسكرية تحويل الأنظار عن مشكلاته الداخلية في الإدارة، فقد يواجه مشكلات تحقيقات جديدة حول محاميه، بجانب مشكلاته التي لم تهدأ يومًا مع التحقيقات المستمرة حول التدخل الروسي في الانتخابات.

أما بريطانيا، فهي في خضم معركة ساخنة بالفعل مع روسيا، بعد حادثة تسميم الجاسوس الروسي، التي تتهم بريطانيا روسيا بالوقوف خلفها، وطردت كل دولة دبلوماسيين من الدولة الأخرى، بل ووصلت بريطانيا بالقضية حتى مجلس الأمن، إذ تبادلت الدولتان الاتهامات، وقال المندوب الروسي إن «البريطانيين يلعبون بالنار».

جدير بالملاحظة أن نفس الدول التي وقفت مع بريطانيا ضد روسيا في قضية تسميم الجاسوس، رحبت أو شاركت في العملية الأخيرة ضد النظام السوري.

يبقى أخيرًا أن سيناريو انتصار الأسد وحزب الله وإيران في سوريا، وبقاء قوات حزب الله والقوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها حتى بعد الحرب، يفاقم مخاوف إسرائيل، التي أصبحت تشن غارات في سوريا بشكل شبه متواصل، وربما يدفعها للضغط على الولايات المتحدة لعمل مزيد من الضربات ضد الأسد، أو للعمل على تحجيم الوجود الإيراني في المنطقة، ولهذا رحب نتنياهو بالضربة العسكرية الأخيرة، وحذر الأسد أن «توفيره قاعدة أمامية لإيران ووكلائها يعرض سوريا للخطر».

لكن الضغط الإسرائيلي لا يبدو أنه يستطيع تغيير كامل الاستراتيجية الأمريكية القائمة على الانسحاب من المنطقة، والتي بدأها أوباما ويريد ترامب أن يكملها، وربما يفسر هذا الزيارات المتكررة لنتنياهو إلى روسيا، في محاولة لإقناعها بخطورة الوجود الإيراني، أو للوصول معها إلى صيغة تفاهم ما بشأن هذا الوجود، لأن نفوذها وفعاليتها في سوريا أصبح يفوق الفعالية الأمريكية. صحيح، أن إسرائيل ربما سترغب في شن المزيد من الغارات على سوريا، كلما استقر انتصار الأسد وإيران وحزب الله، لكن هذه الغارات في الأغلب لن تتجاوز الخط الذي سترسمه روسيا لها، على الأقل مادامت أمريكا خارج اللعبة.

بعد الضربة الأخيرة، غرد ترامب بأن «النتائج لا يمكنها أن تكون أفضل. تمت المهمة»، فمحدودية الضربة تبدو متسقة مع هدفها، ومع رغبة ترامب نفسه في الانسحاب السريع من سوريا.

وعمليًّا، لم تعد أمريكا تمتلك أطرافًا محلية يمكنها الرهان عليها، وبخاصة أن المعارضة نفسها أصبحت أكثر تشتتًا ومحدودية بعد خسارة أغلب مناطقها الاستراتيجية، إضافة إلى أن الأكراد الذين اعتمدت عليهم الولايات المتحدة بشكل كبير في الحرب ضد داعش، أصبحوا أقل قوة وسيطرة بعد الحملات العسكرية التركية ضدهم، أي أن ترامب وحلفاءه حتى لو امتلكوا رغبة التدخل أكثر في الحرب السورية، وهم لا يمتلكون، فلن يجدوا من يساندهم في ذلك.

في المقابل، فإن الدعم الروسي للأسد منذ البداية يبدو أطول نَفَسًا وأكثر تصميمًا على النجاة بالأسد من الحرب بأي ثمن، ووجودهم في سوريا أصبح استراتيجيًّا، يعطي روسيا تأثيرًا دوليًّا وإقليميًّا لا يمكنها التنازل عنه، بعد أن دفعت ثمنه بالفعل، وبخاصة أنها تمتلك خطة واضحة وطرفًا تدعمه عكس خصومها، وكان تدخلها حاسمًا بالفعل في تغيير مسار الحرب.

في النهاية، كرر الأسد استخدام الأسلحة الكيماوية بعد ضربة تعرض لها في 2017 لنفس السبب، وكان غاية الأمر أن تعرَّض لضربة محدودة غير مؤثرة أخرى، وفي كل يوم يتقدم خطوة جديدة في طريق إنهاء الحرب لصالحه، ومعه حلفاء يبدون مصممين على تأمينه، مقابل خصوم إقليميين ودوليين لا يمتلكون استراتيجية للتدخل، وخسروا أغلب رهاناتهم في الحرب. أما الضربة الأخيرة فقد استنفذت كثيرًا من عنفهم الخطابي واللغوي ضد الأسد، وكثيرًا من حيِّز مناوراتهم مع روسيا، وعلى الأغلب لن يغامروا بأكثر من ذلك، فلماذا إذًا لا يسير الأسد مطمئنًا؟
المحرر السياسي