شالسالفة: ما هو البتكوين؟

سلمان النقي
نشر في 2021/05/31

الصورة: Getty - التصميم: منشور

تخيّل لو حوّل (أ) أموالًا رقمية عبر ملف كمبيوتر إلى (ب) كمستند إلكتروني عن طريق الإيميل، فإنه في الواقع قد أرسل نسخة من هذا الملف دون مسح الملف الأصلي من الكمبيوتر، ما يعني أن بمقدور (أ) إرسال ذات الملف إلى (ج) أيضًا. تعرف هذه المشكلة باسم «الإنفاق المزدوج» (Double-Spending)، ولأجل حلها انطلقت الفكرة الأولية للعملات المشفرة لتكون نواة العالم الافتراضي الذي أخذ يزيد اتساعًا واهتمامًا.

الاستخدام التقليدي للتشفير عادة ما يكون في مجالي المراسلات العسكرية والدبلوماسية بغرض السرية، وهي وسيلة لحماية البيانات باستخدام رموز لا يفك طلاسمها إلا من يستلمها، إلا أن العملات الرقمية اقتحمت هذا المجال بخوارزميات مشفرة أكثر تعقيدًا، لتؤسس نظامًا بهيكلية فريدة ينافس الأنظمة المالية الكلاسيكية.

البنية التحتية للعملات الرقمية

شرعت بعض البنوك الكويتية في اعتماد «البلوك تشين» التي تتيح تحويل الأموال خلال دقائق معدودة، لكن التنفيذ الفعلي يصطدم بالعوائق التشريعية للجهات المحلية.

قبل الحديث عن ماهية العملات المشفرة وخواصها، من الضروري التطرق إلى تقنية سلسلة الكتل أو ما يعرف باسم «البلوك تشين» (Blockchain)، والتي تعتبر الحاضنة الرئيسية لهذه العملات، وتفتح للعالم آفاقًا أوسع تتعدى هذا النطاق.

«البلوك تشين» هي أحد أوجه تقنية السجلات الموزعة، وهي نظام ينقل الأصول الرقمية بشفافية عن طريق شبكة غير مركزية بواسطة تجزئة «التشفير» (Hash). لإيضاح الفكرة بشكل أبسط، يتشابه مفهوم «البلوك تشين» إلى حد كبير مع مستندات غوغل (Google Doc)، من ناحية إتاحة مشاركة الملفات وتعديلها بصورة عامة وشفافة لكل الأطراف المصرح لها.

انتقال البتكوين من خلال البلوك تشين

اقترن اسم «البلوك تشين» وبدايتها مع نشأة العملات الافتراضية، لتكون بمثابة البنية التحتية لها والتي تعمل من خلالها، فهي سجل عام ذو نظام أمني مشفر يوثق عمليات البيع والشراء للعملات، وهي سجل دائم لآخر التحويلات بدءًا من أول عملية تحويل للعملة.

لكن نطاق استعمال هذه التقنية صار أكبر من العملات، ووصل إلى المجالات الصحية والمالية والخدمات اللوجستية. على صعيد الرعاية الصحية مثلًا، تساعد «البلوك تشين» في توزيع البيانات الطبية والدخول إليها، وتقلل من استعمال الأوراق والتكاليف المرافقة لها. كذلك فإن الولايات المتحدة تستعين بهذه التكنولوجيا لاحتواء حالات الإصابة بكورونا وتتبعها.

«البلوك تشين» تكسر أيضًا المعاناة النابعة من البيروقراطية الحكومية، والمتمثلة في الانتظار للحصول على موافقة من السلطة المركزية أو من الطرف الثالث لإنجاز معاملة ما. فعلى مستوى الحكومات، تتبنى حكومة إمارة دبي استراتيجية لاعتماد هذه التقنية في التعاملات الحكومية، لتتعدى بذلك التعاملات الإلكترونية الخاصة بها لتكون رقمية. أما في السياق المحلي الكويتي، فقد شرعت بعض البنوك المحلية في اعتماد «البلوك تشين» التي تتيح تحويل الأموال محليًا ودوليًا خلال دقائق معدودة، لكن التنفيذ الفعلي يصطدم بالعوائق التشريعية للجهات المحلية.

العمود الفقري للعملة الرقمية

تتمحور تقنية «البلوك تشين» حول ثلاثة أمور رئيسية، «الكتل» (Blocks)، و«العُقد» (Nodes)، و«المُعدنين» (Miners). كل سلسلة تضم عدة كتل تحتوي على بيانات وأرقام وتجزئة شفرية. فعندما يجري استحداث سلسلة كتل جديدة يعمل «الرقم الشفري» (Nonce) على إنشاء تجزئة مشفرة، وتبقى البيانات في الكتلة مرتبطة بالرقم والتجزئة الشفرية حتى تعدينها.

عمليات التعدين لعملة البتكوين لوحدها كلفت الصحة والبيئة ما يفوق الثلاثة مليارات دولار حتى وقت قريب.

المنقبون أو المعدّنون هم من يخترع الكتل الجديدة عبر عملية معقدة يطلق عليها «التعدين» (Mining). يستعمل المعدنون أجهزة كمبيوتر خاصة لحل مسائل خوارزمية في غاية التعقيد للوصول إلى الرقم الشفري الذي يعطي التجزئة المقبولة. وجدير بالذكر أن هناك ما يقارب 4 مليارات رقم وتجزئة شفرية للوصول إلى الرقم الشفري الذهبي، والذي من خلاله تُضاف الكتلة إلى السلسلة.

من مهام المعدنين في «البلوك تشين» الحفاظ على أمان النظام وقطع دابر التلاعب به، فأي تعديل على الكتلة يتطلب إعادة عملية التعدين إلى الكتلة المراد تعديلها والكتل التي تليها تباعًا. لذلك ليست عملية التعدين بالسهلة أبدًا، ويكاد يكون دور المعدنين أشبه بالعمود الفقري لتقنية «البلوك تشين» والعملات الافتراضية التي تنضوي تحتها.

تعدين البتكوين

في سياق تعدين العملات الافتراضية تحديدًا، يتماثل دور المُعدن مع المُنقب عن المعادن النفيسة، لكن بدلًا من البحث بين الصخور يُبحر المعدن بين شفرات خوارزمية صعبة ويحاول فكها. لا تُختزل أهمية التعدين في مسألة إصدار وحدات جديدة من العملات فقط، بل أيضًا لإنجاز عمليات التحويل وإضافتها على نظام «البلوك تشين» لضمان استمرارية الشبكة.

بجانب المحافظ الرقمية والكمبيوترات الخاصة بالتعدين والتي تعتبر ذخائر المُعدن، فإن العملية تحتاج إلى طاقة كهربائية هائلة لإتمامها. ولعملية تعدين العملات الرقمية انعكاسات سلبية على البيئة، نتيجة الاستهلاك الضخم للكهرباء والذي يفوق استهلاك الكهرباء في العديد من الدول، مثل أيرلندا على سبيل المثال. كذلك يشير الباحثون إلى أن كل دولار واحد من قيمة البتكوين يكلف صحيًا وبيئيًا 49 سنتًا، ما يعني أن عمليات التعدين لعملة البتكوين لوحدها كلفت الصحة والبيئة ما يفوق الثلاثة مليارات دولار حتى وقت قريب.

الأسواق الافتراضية

تاريخ العملات المشفرة

يعود تاريخ البدء في تبادل الأموال إلكترونيًا إلى التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، لكن وقتها كان يعتريها نوع من القصور التقني والأمني لمستخدميها، مثل معضلة الإنفاق المزدوج آنفة الذكر. 

وفي 2008، أتت عملة البتكوين لتعالج نواحي هذا القصور، ولتكون وسيلة «مبادلة تجارية رقمية» (Medium of Exchange)، ولتؤسس معها عالم العملات الافتراضية. تتشابه تداولات العملات الرقمية مع التعاملات النقدية بالكاش من ناحية عدم معرفة مصدرها، لكن الفارق أنها تسجَّل وتوثّق عبر «البلوك تشين»، وتُخزّن في محافظ رقمية.

أبرز العملات الرقمية من ناحية الحجم السوقي، بجانب البتكوين التي تعتبر الأقدم والأعلى حجمًا، هي إيثريوم (Ethereum)، وبينانس (BNB)، وكردانو (Cardano ADA)، ودوجكوين (Dogecoin). وتتشارك هذه العملات قواسم مشتركة في خاصة اللامركزية واستعمال تقنية «البلوك تشين» والتجارة بواسطة المحافظ الرقمية، لكن الاختلاف بينها يكمن في أن كل عملة لها عدد معين من العرض المتداول والسقف السوقي، وكذلك في مجالات الاستعمال.

بخلاف البتكوين التي أتت فقط لتكون وسيلة دفع مغايرة، انطلقت إيثريوم في 2015 باستعمال مغاير لشبكة «البلوك تشين»، كأكبر منصة برمجية لتسهيل العقود المبرمجة وتشغيل التطبيقات غير المركزية، إلى جانب كونها عملة رقمية أيضًا. وفي حين أن إجمالي العرض المتداول من البتكوين له حد أقصى لا يزيد عن 21 مليون وحدة بحلول عام 2140، فإن إيثريوم لا يوجد لها سقف من المعروض، وإنما إصدارها السنوي محدود في 18 مليون وحدة.

 

عرض البتكوين

أتاحت «بلوك تشين إيثريوم» المجال لعديد من الابتكارات التقنية والرقمية في هذا السياق، فعملة BNB التي أنشأت بواسطة منصة Binance Exchange تعمل عبر «إيثر بلوك تشين»، وهي تُستخدم للحصول على تخفيضات لرسوم التداول والدفع لخدمات الأونلاين السياحية والترفيهية. وتختلف عن غيرها من العملات في أنها تحرق سنويًا نسبة من العرض المتداول للعملة، بهدف الإبقاء على قيمتها السوقية وزيادة جاذبية المستثمرين لها.

وفي ذات السياق، تعتبر كردانو منصة بلوك تشين وعملتها ADA، وتمثل النسخة المطورة من شبكة إيثريوم، ولها تطبيقات عديدة في مجال تعقب البضائع في سلاسل التوريد وتقديم خدمات مصرفية تقارع تلك التي تقدمها البنوك التقليدية، وسقفها من العرض المتداول لا يتجاوز 45 مليار وحدة. وعلى النقيض من كل ذلك، تمثل عملة دوجكوين حالة فريدة في عالم العملات الرقمية، رغم أنها خامس أكبر عملة من الناحية السوقية، باعتبار أن نشأتها أتت بسبب «مزحة» من مخترعيها وارتباط قيمتها بالـ«ميمز» على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي ذات سقف غير محدود من التداول.

يمكن تدشين العملة الرقمية لأول مرة عبر العرض الأولي (ICO)، بوضع ورقة بيضاء تشرح العملة وخواصها وقيمتها. ويُطلب ممن يطرح أي عملة جديدة أن تكون لديه محفظة للعملات الرقمية وخبرة سابقة في المجال. أما تداول العملات الرقمية فيكون من خلال منصات عديدة تديرها شركات خاصة أشبه بالبورصات المركزية، ومن أشهرها Coinbase وBinance.

معرفة المضمون الداخلي للعالم الرقمي الجديد يعتبر ديباجة رئيسية لفهم وتحليل طبيعة الأنماط الحركية للعملات المشفرة، والبنية التحتية التي تستضيفها. إن التمعن في ما هو خلف كواليس العملات المشفرة يشير إلى وجود ثورة تقنية يقودها علم الكمبيوتر، تعمل على حياكة متغيرات كبيرة داخل الأنظمة المالية والإدارية تستوجب الرضوخ لها، بغية رفع كفاءة الأعمال باختصار الوقت وتقليل التكلفة التي تفرضها الأنماط المركزية التقليدية. كذلك فإن تتبع الغاية الأولية وراء نشأة العالم المشفر ومجرياته اللاحقة يتطلب الاستفادة منها في مجال التكنولوجيا المالية بدلًا من محاربتها في المطلق، فهذه التقنيات هي جزء من كل.

سلمان النقي